الاعلامية مها عبد الفتاح تكتب .. عن كنوز الحياة
يستخدم اليابانيون مصطلح kenzoku، وترجمتها الحرفية “الأسرة”، للدلالة على الأشخاص الذين تربطنا بهم علاقات وثيقة جدا، ويربطنا بهم المصير نفسه، ولا تربطنا بهم رابطة الدم.
بعض الأشخاص لديهم في حياتهم هذا الشخص أو الأشخاص الذين يمكن وصفهم بأنهم kenzoku، والذين لا يمكن أن تؤثر المسافة أو الغياب في علاقتهم، إلا أنهم يحتفظون لأنفسهم بمكان مهم وحاضر دائما، وتبقى الكيمياء بينهم في حالة تناغم وانسجام، خاصة وإن الأصدقاء المقربون يتشاركون كل شيء حتى الموجات الدماغية، فالصداقة تعمق التشابه في الاستجابات الفكرية
لذلك نقول من هنا احتفظوا بأصدقائكم، وتجاوزوا عن أخطائهم ، فليس هناك معصوم إلّا مُحمّد بن عبدالله ﷺ، وإذا ذهبت تنشد الكمال فلن يصفو لك أحد: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نُبلاً أن تُعدّ معائبه ،انظروا إلى الجوانب الجميلة المُشرقة، وغضّو الطرف عن كل نقص وبهذا تصلح الحياة، احتفظوا بأصدقائكم ،وتمسكوا بهم جيداً ،أصدقاء المواقف الجميلة ،أصدقاء الزمن الجميل ،قبل أن يتشوّه ما تبقى منّا ويرحل كل شيء.
نعم هنا نؤكد ومن واقع خبراتنا وتجاربنا إن الصداقة تعد إحدى أهم العلاقات في حياة الإنسان، وتشكل دافعا وداعما مهما له في حياته، ومؤشرا على قدرته على التفاعل الاجتماعي بشكل صحي، وهي تؤثر في حياته بشكل كبيربشرط العطاء المتبادل.
نعم الصداقة والاصدقاء اكثر قيمة من الالماس والذهب بالمعنى الدلالي والرمزي، ولكن المعايير السلعية تختلف عن المعايير الانسانية الصعبة، لهذا لن تكون القبلة مقابل القبلة مثل قياس الصفعة بالصفعة، فهناك معيار سلبي للتبادل واضراره النفسية وتكلفته العالية فاننا بالتأكيد لن نجد لا في الصيدلية جرعة صداقة كمضاد حيوي نشتريها عندما تستنفذ منا في الحياة رائحة الصداقة الجميلة، كما اننا لن نتمكن من ضخ مياه معدنية صحية، في بئر الصداقة الذي بدأ ينضب تدريجيا ويدفع بالطمي الى سطح البئر بعد خوار ثيران الساقية.
الصداقة قيمة لا تقدر وسلعة لا ترد ولا تباع ولا تشترى، انها منحة الحياة وهديتها المباركة الابدية، نجدها صدفة في مساحة قلوبنا وطبيعتنا البشرية.
الصداقة قدسية في طقسها واهميتها تفوق كل انواع المحبة، لهذا منح العرب معنى رائعا للصداقة التي فاقت بأخوتها علاقة الدم حينما قالوا »رب أخ لك لم تلده امك« بهذه الروحية تصب اسمى المعاني في صداقة الانسان لاخيه الانسان مهما تنوعت الاعراق والطوائف والملل بين الشعوب، لهذا سنجد صداقتنا في الحياة تتشكل في متعرجات غريبة وعجيبة، ولكنها في النهاية تقدم لنا ثمارا ناضجة في الحياة. كنت ارى امام ناظري مشهدا لشريط الحياة الطويل لاصدقاء وصداقة مرت علينا سنوات طويلة ، والبعض الآخر طريا وحديثا ولكن قلبه ينبض بنفس المحبة والمودة العتيقة، وكأنه صديق من اصدقاء الزمن الجميل، زمن الطفولة والمراهقة والشباب، وكأنني امام لوحات فنية جميلة تحمل كل واحدة منها رونقها الخاص وابداعها الانساني المميز ومعناها اللامرئي.
شعاري فى الحياة دائماً ان الانسان يجب ان يزيد من اصدقائه لا اعدائه، فان لم تضطرنا الظروف لمواقف جاحدة ومؤلمة ومكابرة، فان بقاء الاصدقاء في مذكرة قلوبنا وردية، تبقى هي الاسمى والافضل والاجمل.
ربما في عمر المراهقة نكون قادرين على استبدال الاصدقاء ونسيانهم مؤقتا او دائما بكل سهولة، ولكنهم في عمر الشيخوخة وتقدم العمر، يصبحون كنزا ثمينا حتى وان شاغلنا الوقت وانشغلنا.
عندما ننظر للاصدقاء ككنز الدنيا، فاننا ندرك ان الكنوز الاخرى لا قيمة لها. ونحن في قطار العمر نشعر ان مصيرنا لن يكون بابعد من مسافة القبر وفضاء المقبرة، وعلينا ان نمسك بخيوط الحياة وفرحها قدر الممكن.
لا احد فينا قادر على قهر جبروت الموت، ولكن الصداقة وكنزها في لحظة من لحظات المودة تكون ضرورية، ولا يمكننا الاستغناء عنها.
لكن عندما تستمر الصداقات بعطاء ودعم من طرف واحد ، بينما يكتفي الطرف الآخر بتلقي هذا العطاء والدعم والحصول على المنافع، بينما لا يقوم بتقديمها، هي صداقات من الصعب أن تستمر أو أن تصبح علاقات قوية وصحية، لأن أحد طرفيها سيشعر بالاستغلال والاستنزاف وعدم القدرة على الاستمرار في العطاء.
وهنا نطرح سؤال مع الإجابة علية كيف يمكن التأكد من أن العلاقات التي تربطنا بالآخرين هي علاقات صداقة حقيقية أم لا ؟
نرى إن العلاقات الصحيحة تأتى من خلال حرص الاصدقاء على سعادتنا؛ فالأصدقاء الحقيقيون يريدون لأصدقائهم سعادة حقيقية وشعورا حقيقيا بالرضا، فيقدمون لنا نصائح صادقة حتى وإن كانت قاسية أحيانا، لأنهم يساعدوننا على رؤية أنفسنا وأخطائنا حين لا نكون قادرين على ذلك، لأنهم لا يريدون لنا الغرق في هذه الأخطاء، وهم بذلك يعلمون أنهم ربما يخسرون صداقتهم معنا، ولكن سعادتنا بالنسبة لهم أهم من صداقتنا، لذلك فهم يقولون الحقيقة، ويقدمونها بطريقة مقبولة وتؤكد حرصهم علينا، ويخبروننا نحن فقط بهذه الحقيقة وليس الآخرين، و لا يطلبون وضع الصداقة قبل مبادئنا وقيمنا، فالأصدقاء الحقيقيون لا يمكن أن يطلبوا منا التنازل عن القيم والمبادئ باسم الصداقة أو لأجلها، ولا يغضبون حين يطلبون منّا الوقوف بجانبهم في فعلٍ مشين ونرفض ذلك، ايضاً الصديق الحقيقي لن يطلب منّا أن نكذب أو نشاركه تشويه سمعة أحد، أو شهادة الزور، ولن يقوموا أبدا بتخييرنا بين فعل أمر كهذا أو استمرار صداقتنا، الأصدقاء الحقيقيون يُحدثون تأثيرا وتغييرا جيدا في حياتنا، وحين نمر بتجارب صعبة فهم يدفعوننا للتعلم والخروج منها بأفضل الخبرات الممكنة، ولا يسمحون لنا بالغرق في تفاصيل سلبية أو يستمرون في تذكيرنا بشكل سلبي بهذه التجارب، ولا ينقلون لنا أخبارا أو أقوالا غير سارة تؤثر في حالتنا النفسية أو الصحية بشكل غير مرغوب، كما يمنحنا لقاؤنا بهم دائما دوافع أكثر ثقة وصدقا للعبور نحو محطات جديدة في الحياة.
وحتى لا أطيل عليكم أختتم مقالى بالقول " الصديق الحق هو من يحافظ على صديقه، حتى من نفسه، فهو درع الأمان له، ومصدر الاحتواء إن تعرض للمواقف التي عملت على انكساره، فهي أسمى المشاعر، والتي لولاها، لكان الإنسان أشبه بالآلة التي تعمل لتنتج فقط، فهي ما يهون علينا الأيام القاسية.