تم تفعيله علنًا لإنقاذ أوكرانيا وسرًا لإنقاذ الزواج الألماني - الفرنسي.. «مثلث فايمار» يعود إلى الحياة
لتخلى عن الجهد العسكري لا يؤدى إلى السلام بل إلى الهزيمة وهذا المفهوم تتفق عليه الغالبية العظمى من الأطياف السياسية الأوروبية
بدا إيمانويل ماكرون راضيا وسعيدا.. ولم لا؟ وهناك العديد من المصافحات الصريحة والابتسامات القوية، التى تم تبادلها فى الساحة أمام المستشارية الألمانية، وأداء لقسم مشترك على «الوحدة التى ستجعلهم أقوى من أى وقت مضى»، كل ذلك على خلفية «عزيزى أولاف» و»عزيزى إيمانويل»، جاءت كل هذه المشاهد فى قمة «فايمار» أو مثلث فايمار، كما يحلو للدبلوماسيين أن يطلقوا عليه.
قمة "فايمار" جمعت بين رؤوس المثلث المكون لها، وهم المستشار الألمانى أولاف شولتز ورئيس الوزراء البولندى دونالد توسك، والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، حيث نجحت فى تحقيق هدفها، وهو تخفيف التوتر الفرنسى - الألمانى القوي، بعد جملة ماكرون الشهيرة "لا نستبعد إرسال قوات برية إلى أوكرانيا"، تلك الجملة التى أبعدت معظم الحلفاء عن فرنسا، بعدما أظهروا رفضهم لها.
وكان شولتز قد رفض ذلك بشدة، حيث برزت بعض الحدة فى المناقشات التى تلت ذلك، ما جعل القلق يسود العواصم الأوروبية بعد ما بدا من انقسام فرنسى - ألمانى، وهو ما كان يريده فلاديمير بوتين، حيث جاء الخلاف بين الزوجين الفرنسى والألمانى فى وقت تتقدم فيه القوات الروسية فى شرق أوكرانيا، ويرجع ذلك بشكل خاص إلى نفاذ المساعدات الغربية لكييف.
لذلك سارع الزعماء الثلاثة بإظهار وحدتهم بشأن أوكرانيا بعد أسابيع من التوترات، وكذلك إظهار تصميمهم المشترك على عدم السماح لروسيا بالفوز أبدًا، والتأكيد على دعم الشعب الأوكراني، حتى النهاية من خلال شراء المزيد من الأسلحة لها.
وساطة رئيس الوزراء البولندى دونالد تاسك، ساعدت فى تخفيف التوترات الفرنسية - الألمانية، برغم إصراره على نفى "الشائعات الخبيثة"، بشأن الخلافات التى كان من شأنها إضعاف رسالة الوحدة الغربية فى وجه موسكو، بعدما رفض أولاف شولتز بشكل قاطع إمكانية إرسال جنود إلى الأراضى الأوكرانية، وازدادت المسألة سوءا بعدما ارتفعت حدة التنافر، بعد تصريح إيمانويل ماكرون فى براج بأن أوروبا تعيش لحظة ليس من المناسب لها أن تكون جبانة.
هذا الوصف، جاء فى الوقت الذى يقع فيه الزعيم الألمانى - والذى يخشى دوما تصاعد الصراع - بين شقى الرحى.. فهو من جانب يتعرض لانتقادات، لرفضه تسليم صواريخ توروس بعيدة المدى لأوكرانيا، وهو نوع من الأسلحة من شأنه أن يسمح بتدمير مستودعات الذخيرة الروسية ومراكز القيادة المحمية والبنية التحتية الحيوية خارج خط الحدود، وسبب الرفض أن هذا النوع من الإمدادات يعنى ضمنا انتشارا عسكريا لألمانيا خارج البلاد لتدريب القوات الأوكرانية على استخدام هذه الأنظمة، والتى يصل مداها إلى 500 كيلومتر ويمكن استخدامها مباشرة لمهاجمة الأراضى الروسية، ويمكن تفسير ذلك على أنه دخول برلين فى الحرب بشكل مباشر.
فى نفس الوقت الذى يشهد المستشار الألماني، سقوطا حرا فى استطلاعات الرأى، بعد تعرضه لضغوط داخل حزبه الديمقراطى الاشتراكى - المرتبط بشدة بتقاليده السلمية - حيث يرفض غالبية الألمان تسليم صواريخ توروس لأوكرانيا، ومن هنا يقف شولتس حائرا بين الطرفين، برغم أن ألمانيا تعتبر أكبر مساهم أوروبى من حيث القيمة المطلقة للمساعدات المالية والعسكرية لكييف، متقدمة بفارق كبير على فرنسا التى اكتفت بتشديد لهجتها تجاه موسكو، لترسل بناء على ذلك بعض الرسائل، لتوضيح المواقف التى ربما كانت مثيرة للاستغراب. إنها نفس فرنسا التى أعلنت فى بداية الحرب إنه ليس من الضرورى إذلال روسيا، لكن جاءت نقطة التحول فى براتيسلافا فى يونيو من العام الماضى، مع خطاب أكثر صرامة.
رسائل إيمانويل ماكرون، لم تكن فقط إلى الفرنسيين والأوروبيين، لكنها كانت أيضا إلى بوتين، إذ أكد أن روسيا يجب ألا تفوز، لأن ذلك سيشكل خطرا على الجميع بما، فى ذلك الشعب الفرنسى الذى ستتغير حياته، ولن يكون أمنا بعد ذلك، لهذا يتعين على أوروبا، أن تبذل كل ما فى وسعها لمنع روسيا من الفوز.
وتأتى قمة برلين الحاسمة، حيث الدول الثلاث المسماة بمثلث فايمار، وهى فرنسا وألمانيا وبولندا، تحتاج إلى بعضها البعض لأنها إذا وافقت على رأى ما يمكنهم تغيير الوضع. فبولندا هى القوة الأوروبية الأكثر عرضة للخطر وقد رفعت إنفاقها العسكرى إلى مستوى قياسى 4 % من الناتج المحلى الإجمالى أى ضعف فرنسا بالنسبة المئوية.
أما ألمانيا فتساعد أوكرانيا كثيرا ماليا، لكنها تبدو دائما مترددة، وهى بلا شك سمة شخصية لأولاف شولتس، لكن بعد تعرضه لهجوم من قبل المعارضة، أصبح يتعين عليه أن يظهر نفسه فى موقع القيادة، ومن الممكن أن تساعده فرنسا وبولندا فى القيام بهذه المهمة، حيث تلعب فرنسا دورها المعتاد كمحرض للأفكار، لكنها لا تستطيع المضى قدما بمفردها ليأتى مثلث فايمار، ليقدم شكلا جيدا للخطوات التالية. فالجميع لديهم مصلحة فى استعادة صورة الوحدة الأوروبية، التى بدا الأمر وكأنها متعثرة. فالأشهر المقبلة سوف تكون صعبة فى أوكرانيا ومختلف أنحاء العالم وبالتالى على أوروبا أن تستعيد مصداقيتها. لذلك أعاد إيمانويل ماكرون تقييم صلابة مجموعة مثلث فايمار، حيث أكد الدور الأساسى الذى تلعبه هذه المجموعة فى وحدة أوروبا خصوصاً فى ظل الوضع المتوتر الحالى وسلط الضوء على دعم هذه الدول الثلاث للأمة الأوكرانية.
فمثلث فايمار هو مفهوم ولد منذ أكثر من 30 عاما، وهو مبادرة دبلوماسية أطلقتها فرنسا وألمانيا وبولندا, لتسهيل التواصل والتعاون بين الدول الأعضاء الثلاث. وهى مبادرة تظل بحسب الرئيس الفرنسى رمزا قويا للتماسك الأوروبى ويعود به إلى واجهة المشهد الدبلوماسى بأهمية متجددة.
اجتمعت باريس وبرلين ووارسو معا على نفس الطاولة، وهذا ما يسمى أيضا "مثلث فايمار" والذى سمى على اسم هذه المنصة, للتبادلات المنتظمة بين ثلاث من الدول الأكثر نفوذا فى أوروبا, وتم إنشاء هذا التعاون فى عام 1991 وسمى على اسم المدينة التى تم فيها وضع دستور جمهورية فايمار الألمانية (1918-1933)، وكان الهدف من هذا التعاون فى البداية هو دعم انضمام بولندا إلى الناتو. ثم أصبحت أداة دبلوماسية لدعم الخيارات السياسية والدبلوماسية داخل الاتحاد الأوروبى وعلى المستوى الدولي. وكان رؤساء الدول الثلاث قد اجتمعوا للمرة الأخيرة فى شهر يونيو الماضى فى قصر الإليزيه, من أجل التنسيق بشأن مسألة المساعدات العسكرية لأوكرانيا.
ويحدد مثلث فايمار التعاون الثلاثى بين فرنسا وألمانيا وبولندا، وهى - على حد تعبير المؤرخ برونيسلاف جيريميك - أداة سياسية ذكية فهى منتدى للاجتماعات والحوار والتبادل غير الرسمى بين هذه البلدان الثلاثة، وليس اتفاق تعاون رسميا، وتم تأسيسها رسميًا فى أغسطس 1991 بعد عامين من سقوط جدار برلين، وبعد عام من إعادة توحيد ألمانيا، وفى نفس العام من تفكك الاتحاد السوفيتى.
بالنسبة لفرنسا، يتيح مثلث فايمار أيضا "موازنة مجموعة فيشجراد" (المجر وبولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا) التى يعيق بعض أعضائها - الذين يعتبرون موالين لروسيا- دستور أوروبا ككتلة جيوسياسية ضد موسكو.
ويشير موقع يورونيوز الفرنسى إلى أن الحكومات الثلاثة، التزمت بجعل أوروبا قوة أمنية ودفاعية تتمتع بقدرة أكبر على دعم أوكرانيا حيث إن هناك أيضا تعاونا جديدا ضد عمليات التضليل الأجنبية خصوصاً الآتية من روسيا، وتزامن ذلك مع الكشف الذى أعلنته فرنسا عن شبكة دعاية روسية منظمة، تستهدف الدول الأوروبية والولايات المتحدة.
هذا التقدم الدبلوماسى جاء بعد أن صدم ترامب الكثير من الناس فى أوروبا، حيث أثار المرشح الرئاسى الأمريكي، الكثير من ردود الفعل بإشارته، إلى أنه سيدعم روسيا فى هجماتها ضد أية دولة فى الناتو، لا تحترم التزاماتها المالية تجاه الحلف، ما جعل المستشار الألمانى أولاف شولتز يفتتح مصنعا جديدا للذخيرة ما يسلط الضوء على جهود أوروبا لزيادة إنتاج الأسلحة، حيث يتخذ القادة الأوروبيون خطوات لتعزيز الدعم العسكرى لأوكرانيا، لأنه فى مواجهة بوتين، فإن الرد هو العمل أو الهزيمة، حيث إن هناك إجماعا سياسيا واسع النطاق على الحاجة إلى اتخاذ خطوات متسقة، لتحسين قدرة القارة على دعم كييف وضمان أمنها فى المستقبل.
ويدور هذا الإجماع حول فكرة مشتركة على نطاق واسع، وهو أن التخلى عن الجهد العسكرى لا يؤدى إلى السلام بل إلى الهزيمة، وهذا المفهوم تتفق عليه الغالبية العظمى من الأطياف السياسية الأوروبية، ولعل هذا قد تمت ترجمته عمليا بعد تصريح شولتز فى اجتماع برلين، أن الشركاء سيشكلون تحالفاً جديداً لتزويد كييف بصواريخ بعيدة المدى ضمن صيغة "رامشتاين"، وأنهم سيوسعون إنتاج المعدات العسكرية، وبأن هناك اتفاقا على استخدام الفوائد المحصلة على الأصول الروسية المجمدة لمساعدة أوكرانيا، كما أن المفوضية وافقت على إنشاء صندوق مساعدات عسكرية جديد لكييف، بقيمة 5 مليارات يورو، و500 مليون يورو أخرى لتعزيز القدرة على إنتاج الذخيرة.