خلال حضوره جلسة الوعى ملاذ الامان وضمان مستقبل الاوطان
الكاتب الصحفى أحمدناجى قمحة : صناعة الوعى المجتمعى قضية أمن قومى
أكد الكاتب الصحفى أحمد ناجى قمحة رئيس تحرير مجلتى السياسة الدولية والديمقراطية أنه يُقصد بعوامل تهديد الأمن القومى كل ما من شأنه تهديد القيم الداخلية وكيان الدولة وفقدان ثقة الجماهير بالنظام السياسي، سواء بفعل قوى خارجية أم داخلية، أو تم ذلك التهديد بطريق مباشر أو غير مباشر. وعلى أساس أن الأمن القومى بمفهومه الشامل يمثل «القدرة على توفير أكبر قدر من الحماية والاستقرار للعمل الوطنى والقومى فى جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية والعسكرية والبيئية فى الدولة ضد مختلف أنواع التهديدات الداخلية والخارجية ــ إقليمية أو عالمية ــ فإنه يتطلب تماسك وبناء قوي، لقوى الدولة الشاملة. فالحفاظ عليه عملية معقدة ومتعددة الجوانب ولا تقتصر على الجانب العسكري، بل تتعداه إلى الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم، فإن إمكانية استغلال نقاط الضعف فى كل هذه الجوانب متاحة بكثرة.
وأشار تختلف الدول من حيث رؤيتها لنوع الأخطار المهددة لأمنها القومى وحدودها، وذلك باختلاف وضعية تلك الدول، فالعوامل التى تهدد الأمن القومى تختلف من دولة لأخرى. بل إن ما يحقق الأمن القومى لدولة ما قد يهدد الأمن القومى لدولة أخرى.
وهناك حد أدنى يمكن أن تقبل به كل دولة فى نطاق تحركها الخارجي. من ثم فإن أى تصرف من قبل الدول الأخرى يخرج عن هذا النطاق لابد أن يواجه من جانب الدول أو الأشخاص التى تهدد أمنها مواجهة تتناسب ودرجة التهديد، بما يقودها إلى فكرة الدوائر الأمنية التى بتهديدها يتهدد الأمن القومى للدولة.
وثمة مؤشرات متعددة لعوامل التهديد الخارجية، من بينها: عوامل تهديد ذات طبيعة سياسية: من أهم عوامل التهديد ذات الطبيعة السياسية فصل الدولة أو تجميد عضويتها فى المنظمات السياسية الدولية، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع دول ذات أهمية دولية، وفرض العقوبات الرادعة على الدولة، ووجود أحلاف وتكتلات تتعارض ومصلحة الدولة، على أن أخطر المؤشرات هى عمليات التجسس، وهى عبارة عن محاولات للحصول بطريقة سرية أو بوسائل التزييف على معلومات حكومية ما لمصلحة حكومة أخرى. بعبارة أخرى، هى تلك الجهود التى تضطلع بها أجهزة مخابرات الدولة، بهدف التفتيش السرى على جهود الدولة الأخرى للتأكد من حقيقة قوتها، وتحركها وخططها المستقبلية. وقد اتسعت مجالات الجاسوسية إلى كل من الجاسوسية العسكرية، والتى تتركز حول معرفة القدرات العسكرية للدولة، وما تقتضيه من محاولة الحصول على معلومات عن طريق التنظيم والتدريب والتسليح والنظريات الاستراتيجية التكتيكية للقيادات، والجاسوسية السياسية التى تهدف إلى التعرف على النوايا الخفية للقادة السياسيين وطبيعة القوى الداخلية ومدى الصراع بينها، والجاسوسية الاقتصادية التى تهدف لمعرفة القدرات المالية والإنتاجية للدولة وقدراتها الصناعية ومراكز الإنتاج الاقتصادى المؤثرة، وجاسوسية علمية تهدف إلى توضيح المستوى العلمى للدولة ومعرفة أنواع الأبحاث الإنتاجية وأهدافها، وصولًا إلى العمالة أو الوكالة للنشطاء على مواقع التواصل الاجتماعى ومدى قدرتهم على التأثير فى قطاعات من المهتزين عبر ترديدهم لشعارات تحمل الكثير من القيم النبيلة وفى جوهرها تقوض كثيرًا من أركان وقيم الهوية الوطنية ومؤسسات الدولة.
و أما بالنسبة لعوامل التهديد للأمن القومى ذات الطبيعة العسكرية فتتمثل فى الهجوم المسلح أو حشد القوات المسلحة على الحدود، أو القيام بمناورات وتدريبات عسكرية على الحدود فى أوقات التوتر، أو امتلاك دولة مجاورة لقوات مسلحة متفوقة فى الأسلحة ذات الطابع الهجومي، أو إذا دخلت دولة مجاورة فى حلف عسكرى لا تتفق أهدافه ومصالحه مع أهداف الدولة ومصالحها، أو إذا وجدت قواعد عسكرية لدولة كبرى على أراضى دولة مجاورة، أو تم فرض حظر على الإمداد بالأسلحة والمعدات وقطع الغيار. ولا شك فى أن أخطر تلك التهديدات هو الهجوم المسلح، والذى استمر كأحد أدوات تحقيق السياسة الخارجية للدولة وأحد عوامل تهديد الأمن القومى للدول المجاورة. ومن ثم فالعدوان العسكرى هو ظاهرة مستمرة، الأمر الذى يتعين على الدول أخذه فى الحسبان، وقياس القدرات العسكرية الأمنية والقدرات المستقبلية التى تتحدد على أساسها قدرة الدولة على حماية أمنها القومي.
عوامل تهديد ذات طبيعة اقتصادية: أما بالنسبة لعوامل التهديد ذات الطبيعة الاقتصادية، فتوجد عدة مؤشرات لقياس التهديدات الاقتصادية أهمها: فرض حصار اقتصادى على الدولة أو مقاطعتها، والتكتلات الاقتصادية التى تتعارض مع مصالح الدولة، إضافة إلى إيقاف المساعدات الاقتصادية و على المستوى الداخلي، سأركز هنا على عوامل التهديد ذات الطبيعة الاجتماعية، التى تتمثل فى تصدير أيديولوجيات لا تتفق وقيم المجتمع ومبادئه، واستخدام الحرب النفسية عن طريق وسائل الإعلام والاتصال المضادة . ويمكن القول إن الجبهة الداخلية وتماسكها ولُحمتها تعد من الأمور الحاسمة لصد أية تدخلات خارجية، وأصبحت الجماهير العادية مستهدفة بشكل رئيسي، لأنها تؤثر بشكل مباشر خاصة فى ظل الثورة السيبرانية وعصر حروب الجيل الرابع، ليس فقط على السياسة الداخلية، بل على السياسة الخارجية للدولة وما يمكن أن تتعرض له مصالحها القومية من مخاطر وتهديدات. ولهذا، فإن إمكانيات الدعاية والحرب النفسية للتأثير فى هذه الجماهير ممكنة وتقود إلى نتائج وخيمة، حيث يمكن لدولة ما عبر وكلاء أو عملاء أو تنظيمات إرهابية لها لجانها الإلكترونية، أن تشعل الأوضاع فى دولة أخرى عبر التفعيل المكثف لآلية الشائعات وما تحويه من سخرية وكذب واستخفاف بقيادات ومؤسسات الدولة المستهدفة، بما يقود فى النهاية إلى التضليل أو الانحراف باتجاهات الرأى العام أو تشتيتها أو إفقادها الثقة فى النظام أو المؤسسة المستهدفين.
وأوضح تعد قضية اختراق الوعي، المحرك الرئيسى للتغيرات الإقليمية التى جرت فى المنطقة، تحت شعار ما أطلق عليه «الربيع العربي»، إذ تمت أكبر عملية تزيف للوعى العربى والمصري، حيث تضافرت عوامل عدة داخلية وخارجية؛ داخلية: التخلف العربى الثقافى والإعلامي، إضافة إلى تغييب وعى الشعوب من قبل أنظمة الحكم، خارجية: أدوات التفوق التكنولوجى السيبراني، التى تم تسخيرها - من قبل القوى الكبرى المستهدفة للمنطقة العربية- لعملائها الذين يخوضون حربها بالوكالة. وكانت النتيجة المأساة، التى تعيشها الشعوب والدولة الوطنية العربية فى ليبيا، وسوريا، واليمن، والمستمرة منذ عام 2011 وحتى الآن، إضافة إلى العراق منذ عام 2003، فضلاً عن استخدام القضية الأم للدول العربية «فلسطين» فى تزييف الوعى والتجنيد للتنظيمات الإرهابية.
وأشار يمر الوعى العربى والمصرى الآن، باختبارات جديدة، لبيان قدرته على الصمود بما اكتسبه من خبرات بعد مرور ١١ عاما على ما أطلق عليه «ثورات الربيع العربي»، فالتحديات، والمخاطر، والتهديدات تتزايد حدتها، وتتعاظم انعكاساتها، وتتشابك أطرافها. فالوطن العربى يمر اليوم بمرحلة جديدة من الاستهداف، اصطلح أهل الشر على أن يطلقوا عليها «الربيع العربي»، ويرمى أهل الشر دومًا من هذا الاستهداف إلى إحياء آمالهم فى النيل من مركز الثقل العربى مرة أخري، ممثلا فى جمهورية مصر العربية.
ويرجع تركيز الاستهداف للدولة المصرية، لما أفرزته ثورة ٣٠ يونيو على الصعيدين الداخلى والخارجي، الأمر الذى جعلها تتبوأ مركز الثقل الإقليمي، كما مكنها من العودة إلى لعب الدور المؤثر فى جميع المنظمات الإقليمية والدولية، وذلك عبر فرض المبادئ الثابتة لسياستها الخارجية فى مختلف قضايا الإقليم، حماية للشعوب والدولة الوطنية، وبقاء مؤسساتها، وعلى رأسها جيوشها الوطنية، كذلك إسهاما فى برامج التنمية البشرية المستدامة العادلة. لكن هذا الاتجاه ليس على هوى من يريد الإضرار بالوطن العربي، فالمخطط الذى بدأ عمليًا فى عام 2011 وفعليًا قبله بسنوات طويلة، لمصلحة تفتيت الدول العربية، وتحطيم الجيوش الوطنية الكبرى لحساب إسرائيل، لم يكتمل بعد.
موضحا يشير كل ما سبق إلى أنه لا يزال هناك تداعيات سلبية على الأمن القومى العربى والمصري. فى ظل حسابات معقدة لإقليم مضطرب، تتشابك فيه الصراعات، ويتكالب عليه أصحاب المصالح. يبقى العنصر الأخطر والأهم غائبًا على نحو بعيد، وأعنى به الوعي، سواء على المستوى القومى العربي، أو على المستوى الوطنى المصري. إن معنى غائب ليس أنه غير موجود، لكنه مشوش، أو مؤثر فيه، أو متحكم به، بما يسمح بتوجيه سلوكيات البعض على غير أهداف الدولة الوطنية. إذ يعد التشويش، أو التأثير، أو التحكم الآن فى وعى الشعوب والأفراد هو الهدف الأساسى الذى تسعى إليه القوى المالكة للقوة التكنولوجية السيبرانية، مستعملة فى ذلك مختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة بهدف كسب المزيد من المنخرطين فى دائرة الوعى الزائف المنشود لديها.
وتشمل عملية الوعى مكونات عدة وعناصر كثيرة، أعقدها الثقافة والإعلام لذا، فعملية صناعة الوعى لن تتأتى إلا بالاستفادة الكاملة من جميع الطاقات والكفاءات، والبحث عنها، واستثمارها فى جذب الناس إلى الفكر الوطنى الأصيل، والثقافة الواعية، والكتاب الهادف، والمعلم الأمين. من هنا، يبرز دور العودة إلى أصولنا وقواعدنا الكبرى، وشخصياتنا التاريخية المؤثرة لإمدادنا بكل مقومات التنمية، ورفع مستوى وعينا الأصيل. ويبدأ اختراق العقول المسئولة عن تشكيل وصناعة الوعى من اختراق المجتمع الثقافى والعلمى والإعلامي، من خلال قيام أفراد رئيسيين بتشكيل شبكة من المصالح الخفية تربط بين أفراد هذه القطاعات فى المجتمع لتشكل جميعها لوبى ضاغطا، والعمل على توجيه أولويات العقل الجمعى للمجتمع بعيدًا عن أهدافه الوطنية ومصلحته القومية. قد ترتبط هذه الشبكة بمصالح داخلية تجعلهم يعملون على تحقيقها، والأخطر عندما يعملون كوكلاء لأجندة أجنبية يضع لهم أهدافها من يستهدف وطنهم بمخططات تهدف لتدميره.
وعبر أجيال متتالية يتمكن هؤلاء الأفراد من التحصن والاحتماء بالحاضن الرئيسى لهذه الشبكة وتوسيع نطاق مريديهم وأتباعهم فى داخل كل قطاع يتمتعون فيه بالنفوذ والتأثير المطلوبين لممارسة أدوارهم، ويضغطون بكل الآليات لتغيير ووقف الخطط التنموية لدولهم بالإضافة إلى التصدى للمحاولات التى تهدف إلى كشفهم، كما لا يترددون عن تشويه رموز التيار الوطنى الذين يحرصون على كشفهم وكشف أدواتهم وآلياتهم والتجييش لمصلحة رأس الشبكة، سواء فى الداخل أو فى الخارج، والذى يتماهى شيئًا فشيئًا بحيث يصعب على الأجيال الجديدة تصور أنهم يعملون من أجله. فى حين تظل الأجيال الأولى فى هذه الشبكات فى مختلف القطاعات على وعى بدور من جنده، وعلى وعى بأهمية استمرارهم فى خدمة أهدافه مع قدرتهم على التلون مع أنظمة الحكم فى بلدانهم، وإبراز قدراتهم على تقديم أنفسهم بحسبانهم النخبة التى لا يمكن الاستغناء عنها، وأنهم من يملكون أدوات الاتصال مع من يوظفهم ويملكون مفاتيح إدارة الملفات وتنسيقها وتخطيطها.
وأضاف تكمن إشكاليتنا الكبرى فيمن تأثروا بما يطلق عليهم «النخبة المزيفة»، من كتاب، وباحثين، وفنانين، وإعلاميين، ورياضيين، والأدعياء من رجال الدين فيما عرف بظاهرة الدعاة الجدد، الذين بدورهم أسهموا فى المخطط المشار إليه، عبر موجات قوية خبيثة من ادعاء المثالية، والنقاء، والإيمان بالقيم النبيلة، بل، وفى أحيان كثيرة، المتاجرة بصحيح الدين، وذلك على غير دورهم المفترض فى تطوير وعى الأمة بشتى اتجاهاته ومساراته. إذ لا تخفى أهمية هذا الدور وحساسيته فى التأثير فى العامة، وجر الأغلبية المؤثرة لصياغة فكر غالب على الشارع، والتسلل إلى القلوب والعقول.
وعلى الرغم من خطورة التغييب الممنهج، الذى مارسته هذه النخبة لإجبار الفرد العربى والمصرى منه بالطبع على التمحور حول ذاته، وتغيير الكثير من سمات شخصيته وملامحها، إلا أن الأكثر خطورة هو تغييبه عن واقعه الزمانى والمكاني، واستعباده من قبل أجهزة الاتصال الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي، ومؤسسات إعلامية وثقافية، أسهمت كلها فى إفقاده الوعى بما يدور حوله من أحداث جلل.
بل تخطى الأمر ذلك وأصبح يتحكم فى منهجية تفكيره، وفى إدراكه وتفسيره للأحداث، بحيث أصبح غير مدرك لمعطيات ما يدور حوله من تحديات، وتهديدات، ومخاطر، وغير قادر على استخلاص النتائج والدروس، فضلا عن غياب القدرة لديه لتحقيق غاياته وأهدافه. لقد أصبح شخصًا مشوهًا، غير مدرك لفرصه فى تطوير مستقبله، وتلخصت كل آماله فى مغادرة هذا «العالم البائس» وفقًا لاقتناعاتهم سواء على مستوى مؤسسته الصغيرة التى يعمل بها، أو على مستوى مؤسسات دولته، والأمر الذى رسخته فى وعيه هذه النخبة الخبيثة التى روجت وترابطت مع مقولات تنظيم الإخوان الإرهابى فى المظلومية، والسوداوية، والتهميش، تلك التى بررت لهم التخلى عن المسئولية العملية والمجتمعية لهم، وجعلتهم يرددون مقولاتهم دون وعى بعد أن تم التحكم فى عقولهم، ومن ثم التجرد والتقليل من أى إنجاز، والعمل على السخرية منه، والشعور الدائم أنهم من يملكون الحقيقة دون أى مرجعية علمية أو معرفية تؤهلهم لذلك. ولعلنا فى ذلك لا نبالغ إذا قلنا إن غيبوبة الوعى المخلّقة كرهًا هذه والمتحكم فيها، والتى تم زرعها فى العقل الجمعى العربى والمصرى هى أخطر على مصير الأمم والمجتمعات من الأمية الأبجدية، لأنها تدفع بمريديها إلى التحرك بعيدًا عن الأولويات والأهداف الوطنية والقومية لدولهم، بل وكثيرًا ما يكونون أداة بلا وعى لعدم تحقيق المصلحة العليا والقومية بما لها من غايات نهائية.
فالقوة الناعمة تعد ــ فى مكوناتها المختلفة ــ من أهم الأدوات لتشكيل وعى الأفراد. فخلال العقود الأخيرة، ازداد تأثير القوة الناعمة، بحيث أصبحت فاعلة ومؤثرة على نحو كبير، فى ظل ثورة المعلومات والاتصالات وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية «الديجيتيل».
وتدل خبرات دول أوروبا الشرقية والوطن العربي، تلك التى شهدت ما يطلق عليه «ثورات الدومينوز»، على أن الحروب تبدأ وتنتهى أحيانًا بالقوة الناعمة، أى باستخدام وسائل اللاعنف أو غير العسكرية لتحقيق الهدف، خاصة التأثير فى سلوك الخصم، ليتم تقويضه من الداخل، وهذا يعنى حسم المعركة بخصائص قد تفوق أحيانًا قدرات القوة الصلبة للجيوش فى الدفاع عن أوطانها.
لقد أسهم استخدام مكونات القوة الناعمة بفعالية وبراعة لإحداث تغييرات داخل مجتمعات هذه الدول عبر تغييب الوعي، فالسيطرة عليه ثم توجيهه، وهى التى كانت تبدو منيعة ومحصّنة من الخارج، إلا أنه ثبت أنها هشة وخاوية من الداخل، وذلك من خلال استخدام وسائل الحرب النفسية المتنوعة، التى شملت بشكل خاص الإنتاج الدرامي، والتسلل من خلاله لنشر أفكار الحرق والتدمير، واستباحة المكونات الوطنية لشخصية هذه الشعوب، ونشر الصور السلبية، بل والمنحطة لهذه المجتمعات، وخلق وعى زائف محبط وكاره لأوضاع أوطانه، التى كانوا يحطون منها مقابل تمييز المجتمعات والأوطان الأخرى، التى استخدمت القائمين على إنتاج وإخراج المنتج الفنى والإعلامى كوكلاء لها لهدم مجتمعاتهم.
ففى الحرب الناعمة، نجد العدو يتخفّى بصورة ماكرة ومراوغة وتبدو أحياناً بريئة، بهدف تعميم قيمه والتأثير على الوطن المستهدف من خلال احتلال أو اغتصاب عقل مواطنيه عبر وكلائه، حيث يتعمد المنتج الفنى هنا، إحباط المواطن وإشعاره بالدونية، وتشويه صورة مؤسساته، والسخرية من رموزه، بصورة تدفعه لليأس، وأنه لا سبيل للخروج من هذا النفق إلا بتحطيم هذه المؤسسات وتقويضها، وتلك تكون الخطوة الأولى نحو تفكيك دولته وتحويلها إلى دولة فاشلة، ويتم ذلك من خلال إضعاف معنوياته عبر دعاية سوداء أحياناً، تتزامن مع منتج فنى يرسخها فى العقول. وللصورة تأثير كبير فى تشكيل الوعى، حيث تعد الصورة بحد ذاتها خبرًا وقد تُغنى عن مئات المقالات والتحليلات، لأنها تترك انطباعًا لدى المشاهد سلبًا أو إيجابًا.
فالصورة، والشاشة، والفيلم، والخبر، والكلمة، والإنترنت، وجهاز الموبايل، بات بإمكانها السيطرة على الوعى، وقد تمكنت القوى النافذة -تكنولوجيًا وتقنيًا- من التأثير فى مجريات الأمور فى أنحاء كثيرة من العالم، عبر سردياتها اليوتوبية ورواياتها القسرية لتطور نظم الحكم وحالة حقوق الإنسان، بحيث أصبح العقل المغتصب والوعى الزائف بمنزلة القنبلة التى تمكنها من تدمير الدول المستهدفة دون تحريك أى سلاح عسكرى أو تكلفة بشرية.
وتستخدم القوى النافذة التكنولوجيا المتطورة فى الصناعة الإعلامية، التى تعتمد على صناعة الخبر، من خلال تقديم حقائق هى أقرب إلى الكذب، لكنها مصوغة بشكل يجعلها أقرب إلى الحقائق، وتتم عملية حقن بعض الأكاذيب بأجزاء من الحقيقة، لكى لا تبدو الأكاذيب زائفة كليًا، وبشكل ذكى تمامًا يتم اجتزاء الحقيقة وتمرير الأفكار والآراء للتأثير فى الآخر ومن هنا، اكتسبت صناعة الصورة أهمية كبرى لإحداث تغييرات فى الجوانب الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، عبر تأكيد ما يتم إنتاجه على صحة ما يتم تداوله من أخبار كاذبة.
وأضاف يعد من بين التحديات الماثلة، فى هذا الإطار، والتى يجب تأكيدها، هى قدرة وسائل الإعلام التكنولوجية السيبرانية على النفاذ والعبور إلى الشريحة المؤثرة مستقبلًا فى مجتمعاتنا وفقًا لتوزيعاتها الديموجرافية، ألا وهى الأطفال دون سن المدرسة، أو الذين فى المراحل الأولى من الشباب. وهذه قضية خطيرة لمصلحة القائمين على تزييف الوعي، وقلب صورة الواقع، والتأثير فى حاضر المجتمع ومستقبله، فهؤلاء الذين كانوا فى المراحل الأولى من عشريتهم، أو فى العشرينيات وقت أحداث «الخريف العربي» وتداعياته، يشكلون قطاعًا له اعتباره، فهذه هى الفئة التى تحول قطاع منها تم تزييف وعيه لكى تكون لسان حال الإخوان ومن يستخدم الإخوان، دون أن تكون منتمية للتنظيم فى أى من مراتب عضويته الثمانية.
يعد العنصر الديموجرافى أحد عناصر قوة الأمن القومي، حيث يلعب العنصر البشرى دورًا أساسيًا فى الأمن القومى لأية دولة. فعدد سكان الدولة يشكل عصب القوة البشرية اللازمة للحرب وللإدارة فى الأجهزة المدنية، ولكن كبر حجم السكان، ليس ضمانًا فى كل الأحوال لامتلاك قوة عسكرية كبري، فهناك عوامل كيفية أخري، أهمها القدرات القتالية، ونوعية التسليح وتحديثه، والتدريب. فالعنصر البشرى يعد من العوامل المهمة نسبيًا فى تكوين عناصر القوة الشاملة للدولة، خاصة كلما اتسع نطاق فئات العمر الشابة المؤهلة والواعية فى التكوين السكانى للدولة.
ويرتبط بالعنصر السكانى عوامل التهديد ذات الطبيعة الاجتماعية على المستوى الداخلي، فيمكن القول إن قوة وتماسك الجبهة الداخلية تعد من الأمور الحاسمة لصد أية تدخلات خارجية، وأصبحت الجماهير العادية، خاصة فى عصر عولمة المعلومات، تؤثر بشكل مباشر، ليس فقط فى السياسة الداخلية، وإنما فى السياسة الخارجية للدولة. ولهذا، فإن إمكانيات الدعاية والحرب النفسية للتأثير فى هذه الجماهير ممكنة، وتقود إلى نتائج وخيمة، حيث يمكن لدولة ما استغلال الوضع فى دولة أخري، وإخضاعها لحرب نفسية تعمل على التحكم فى عقل من يمكن الوصول لهم من مختلف طبقات المجتمع، وتغييب وعيها العام، وذلك من خلال العمل على تصدير أيديولوجيات وقيم وسلوكيات هدامة لا تتفق وقيم المجتمع ومبادئه. كذلك، استخدام الحرب النفسية عن طريق وسائل الإعلام الرقمية الحديثة، ومواقع التواصل الاجتماعى التى وفرتها الثورة التكنولوجية السيبرانية، الأمر الذى يؤثر فى الروح المعنوية، ومدى ارتباط الشعب بالنظام السياسي.
هنا، يجب علينا أن نتوقف ونراجع ونطبق جميع ما سبق، على الدولة المصرية، لكى ندرك حجم التحديات والمخاطر والتهديدات المفروضة عليها، نراجع ونتذكر كيف كان يمكن أن تُدمر كل قدرات الدولة المصرية وأن نهدم بأيدينا القوة الشاملة للدولة طوال الفترة من 2011 ، وحتى مرحلة استعادة أركان ومؤسسات الدولة التى بدأت بثورة 30 يونيو الشعبية العظيمة، إلى أن استقرت الأحوال مع نهاية عام 2015؟ وعلينا أن نتذكر هل هدأت الأرض فعلًا أم إن محاولات تسخين الأرض لإعاقة مشروع بناء مصر الجديدة، مصر التى اعتمدت خريطة 3 يوليو طريقًا لها، لاتزال مستمرة؟
وأضاف واقع الأمر أن من يوظفون العملاء والوكلاء والنشطاء لم يهدأ لهم بال، ولم ينسوا كيف تجاوز المصريون زلزال يناير 2011 الذى خلخل كثيرًا من القيم المجتمعية ليشكلها على هواه، ولكنها الدولة المصرية العميقة بشعبها الواعى وأبنائه فى القوات المسلحة الشريفة والشرطة المدنية الباسلة الوحيدة التى نجت من مخطط هدم وتفكيك وانهيار الدولة، وهو النموذج الذى نجح فى سوريا وليبيا، واليمن، لذا، فعلوا كل أدواتهم الشيطانية من إرهاب وحروب نفسية لتكرار لعبتهم مرة أخرى، وفى مناسبات مختلفة منذ عام 2013 وإلى الآن.
لذا من أجل إعادة صياغة الوعى الوطني، فإنه ينبغى علينا العمل على تحقيق الأمن الثقافي، بغايات عدة نسعى لبلوغها عبر عدد من المراحل فى ظل ثقافة كونية تنزع نحو انتهاك الخصوصيات الثقافية، وتهميش الثقافات الوطنية، وطمس الهويات القومية، والدفع إلى الانغلاق على الذات. من هنا، تأتى أهمية تحقيق الأمن الثقافي، الذى يعد جزءًا لا يتجزأ من الأمن الاجتماعى والحضارى لإعادة بناء الوعي.
بل إن الأمن الثقافى يجب أن يحتل الأولوية فى هذه المرحلة المهمة من مراحل التطور الذى بلغته الثورة المعرفية، فى ظل تعاظم التحديات والمخاطر التى تواجه الثقافات المحلية والوطنية. ذلك لأن الأمن الثقافى قضية ترتبط ارتباطاً مباشراً بكيان المجتمع ووجوده، كما أنها ترتبط بهويته ووحدته الحضارية. وتتعاظم أهمية تأكيد قضية الأمن الثقافى فى ظل المخاطر والتحديات التى تفرضها الثقافة الكونية، حيث أصبحت هذه الثقافة الكونية عابرة لحدود الزمان والمكان، ومتجاوزة لنطاق الأمم والمجتمعات.
إذ إنها خلقت وسائل لا حصر لها لتبادل المعرفة والمعلومات، وحققت وفرة غير مسبوقة فى الإنتاج الثقافى والمعرفي، بفضل ثورة المعلومات والاتصالات التى يعيش العالم فى قلبها الآن. لكنها أفضت -فى الوقت نفسه- إلى خلق أشكال جديدة من الاحتكار الثقافى والمعلوماتى أحادى الاتجاه. ويرجع ذلك إلى أن الإنتاج الثقافى والمعرفى والتكنولوجى لهذه الثقافة لا يتم توزيعه بشكل متساوِ بين الثقافات.كما أن تدفق المعارف والمعلومات لا يتم بصورة متساوية بين الدول والمجتمعات. وأفضى ذلك إلى تزايد الفوارق والفجوات المعرفية والثقافية بين دول العالم، وتفاوت حظوظ الأفراد والمجتمعات فى نصيبهم من القدرات المعرفية، ومن رأس المال الثقافى اللازم للتفاعل الإيجابى مع مستلزمات هذه الثقافة الكونية، والتى تمكنهم -فى الوقت نفسه- من الدفاع عن خصوصياتهم الثقافية، وتحقيق شروط الانتماء الحقيقى لمجتمع المعرفة والمعلومات.
ويجب على دولنا أن تقدم مقارباتها الخاصة بسد الفجوة الرقمية فى معركة بناء الوعى المصيرية تلك، وتعزز برامج التنمية المستدامة بنواحيها المختلفة، وتتفق على آليات محددة لمواجهة التطرف والإرهاب، والأفكار الهدامة التى تسعى للنيل من مؤسساتنا فى شتى المجالات، فالوعى قضية حاسمة ومحورية ومصيرية فى معركة البقاء، التى يراد لنا أن ننهزم فيها، لذا فهو يرتقى إلى كونه ضرورة وجودية. وإذا تمكنا من بناء الفرد الواعى بذاته وواقعه، فإننا نكون قد نجحنا فى معركة مصيرية، قُدر للوعى الجمعى لقطاعات من العرب والمصريين أن يكونوا مغيبين عنها، ولو مؤقتًا.
وأوضح من المؤكد أن عصر التكنولوجيا السيبرانية وانعكاساته على التدفق المعلوماتى الاحتكارى الغربى بات مؤثرًا فى تشكيل، بل وغياب الوعى لدى المواطن فى الجنوب، وهو ما يؤثر سلبًا بدرجات مختلفة فى الأمن القومى. فالوعى قضية حاسمة ومحورية فى بناء الأمم، وحماية نسيجها الوطنى، وإدراك محيط تهديداتها وتحدياتها، وهو بذلك ضرورة وجودية لضمان بقائها. وإذا تمكنا من بناء الفرد الواعى بذاته وواقعه، عبر تحصين أمنه الثقافى والاجتماعى، فإننا نكون قد ضمنا أهم عناصر النجاح على الطريق الطويل لتحقيق التنمية الشاملة، فبناء الإنسان الواعى المثقف هو قضية الحاضر والمستقبل.
يقينًا أن حروب الجيل الرابع والخامس (الحروب الشبحية)تستهدف بعد تحطيم مؤسسات الدولة والسخرية من إنجازاتها عبر مقولات إثارية استفزازية تردد بلا وعى، ومنشورات متداولة على مواقع التواصل الاجتماعى لبث الفزع واليأس والإحباط، الوصول إلى غايتهم، وهى النيل من جيوش الشعوب. فهى السبيل الوحيد لتدمير الدولة من خلال تحويل الشعب لأداة لتدمير الدولة، كما حدث فى عام 2011.
وهذا الأمر يقودنى إلى استخدام نظرية المؤامرة، التى هى جوهر الحرب الشبحية على مصر، الأمر الذى تطلب الإنفاق على قيادات بحثية وصحفية ذات تأثير كبير، لكى تكون مقنعة وتساهم فى مشروع تغييب عقل هذه القطاعات، وجعلها تفكر بمنطقهم وكأن تفكيرهم هذا هو عبقريتهم الخاصة، دون إدراك أن عقلهم تم سلبه، وتتم إدارته والتحكم فيه وفى سلوكهم عن بعد، هذه القطاعات لا يمكن أن نتهمها بأنها تتلقى الأوامر لتنفيذ ذلك، فنحن من مدرسة حسن النية، فقط يمكن أن يكون قد تم التحكم بهم وجعلهم أداة من أدوات أهل الشر.إلا أنهم فاتهم أن الدولة ستنتصر وستظل صامدة أمام أى تحد، ولن تتخاذل أبدًا فى أداء دورها للنهوض بمستوى معيشة المواطنين، وأن أعداء مصر الذين يحاولون زعزعة استقرارها من خلالهم يراهنون على حصان خاسر، فالقوة الحقيقية لمصر تكمن فى قوة وصلابة شعبها، وأن التكاتف والصمود أمام قضايانا، وقدرة هذا الشعب العظيم على تحدى ما يبثونه من سواد، هى التى تستفزهم وتثير غضب المخربين الذين يحركونهم عن بعد.
وينبغى على هؤلاء المغيبين، الذين تم التحكم فى سلوكهم، تفهم أننا دولة ترغب فى التعمير والتنمية ولا تريد التخريب، وأنهم الخاسرون طالما ارتضوا أن يظلوا متقوقعين داخل شرنقة العقل الإخواني، يرددون مقولاته ويخدمون على أهدافه بنشر اليأس والإحباط، وهم للأسف مروجون لدعاية التنظيم السوداء فى نشر اليأس والإحباط من كل محاولات التقدم والتنمية فى شتى المجالات.
إن سلاحنا الرئيسى فى مواجهتهم يتمثل فى قوة ثبات الإرادة الوطنية للشعب، وتكاتفه، وصموده الباسل، الذى سيسجل فى التاريخ أمام كل محاولات هزيمة معنويته ونفسيته. يجب علينا أن نؤمن باستقرار دولتنا، وأن ندافع عن قضيتنا، فالدولة والقيادة السياسية تريد البناء والتعمير وليس الهدم، وعلينا أن نعرض خدمات ومشروعات الدولة العملاقة وإنجازاتها، وأن نكون واعين أن أى محاولة تخريب تحدث فى فترات عدم الاستقرار السياسى من خلال هذه القطاعات المحيطة بنا التى تحاول التأثير فينا لن تفلح فى ظل تماسكنا وقبضنا على الجمر كقيادات