السقوط.. قصة جديدة لـ أحمد عبد اللطيف سلام
كان محلقًا فى الهواء، ينظر إلى الأرض وهى تقترب منه، دفع الهواء بيديه ورجليه محاولًا النجاة؛ لكن بلا طائل، استسلم لمصيره المحتوم، فرأى حبلًا يتدلى فى الهواء، فأمسك به، استيقظ فوجد يده وقد أطبقت على عنقه، فلم يقدر على التقاط أنفاسه.
لم تكن هذه هى المرة الأولى التى يرى فيها هذا الحلم، فقد زاره أكثر من مرة، وكان يستيقظ وهو يقبض على عنقه بعنف، يكاد من شدته أن تنقطع أنفاسه.
حاول أن يتنفس بعمق، لكن دون جدوى، شيء ثقيل قد أطبق على صدره، وكأنه يتنفس من ثقب صغير، أخذ يتنفس من فمه، وصدره يعلو ويهبط فى حركات سريعة، شعر بعدها براحة تسرى فى أوصاله؛ فتمكن من الوقوف على قدميه.
نظر إلى زوجته النائمة بجواره تغط فى نوم عميق، فتذكر حين سألها عن اسمها فى أول لقاء جمعهما، فتركته وهى تشيعه بنظرة ازدراء، ما لبثت أن تحولت بعد أيام إلى نظرة إعجاب، ثم نظرة تعلق، حتى تم الزواج.
ندت عنه تنهيدة، مد -على إثرها- يده المرتعشة إلى علبة سجائره ووﻻعته الذهبية، وانطلق إلى الشرفة يلتمس الراحة لصدره المكدود.
عندما دخل الشرفة، داعبته نسمات رقيقة، ذكّرته بتلك النسمات التى كانت تداعبه حينما كان يقضى ليله منفردًا بنفسه، سابحًا فى عالم الليل وأسراره.
كان الشارع خاليًا من أهله، قد لفه الظلام إلا من خيوط هزيلة، تتساقط من أعمدة فارهة، وقد خيم الصمت على كل شيء حوله، فلا يسمع سوى صوت أنفاسه، ودقات قلبه.
تنفس بعمق، محاولُا تهدئة صدره، ثم انتزع سيجارة ووضعها فى فمه، فتمثلت له السيجارة الأولى فى حياته، وتذكر حينما التقمها فشعر كأنه طفل فى أول عهده بالرضاع، فما لبث أن اعتاد عليه، فلم يرضَ بعده بالفطام.
ضحك من هذا الخاطر، فتفلتت السيجارة من فمه، وهوت إلى الشارع، لم يهتم لذلك، والتمس واحدة أخرى، لكنه وجد العلبة فارغة، فقد كانت المفقودة هى اﻷخيرة.
خرج من الشرفة، فوقعت عيناه على الساعة وهى تشير إلى الثالثة صباحا، امتعض وجهه، فالمحلات تُغلق أبوابها فى الواحدة، وسيارته فى الإصلاح منذ الأمس، والطريق إلى بوابة المدينة طويل.
بدأ الصداع يعتمل فى رأسه، واﻷلم يداهم صدره، وضيق النفس عاوده مرة أخرى، فقرر أن ينزل لاستعادة سيجارته المفقودة.
أغلق باب الشقة وراءه، وضغط على زر المصعد، لكنه تذكّر أن البواب يغلقه فى الثانية قبل أن يذهب للنوم، فهل سيهبط عشرة أدوار ويصعدها؟ أم سيعود؟ أم..
وجد قدميه تندفعان على درجات السلم، وقلبه يخفق خوفًا من أن يسبقه إليها أحد، فتضيع فرصة الحصول عليها - ونسى أن الشارع خالٍ - فاستمر فى اندفاعه.
وقف أسفل شرفته، فوجد الظلام حالكًا، فنور المصباح لا يصل إلى هذا المكان، نظر عن يمينه ويساره، فلم ير شيئًا، عاوده الصداع، فأسرع بالصعود إلى شقته لإحضار كشاف.
صعد السلم وأنفاسه تتردد فى صدره، ودقات قلبه تتعالى، فكان يسمع صوت الدقات وكأنها طبول حرب تصم أذنيه، والصداع قد استبد برأسه لا يريد أن يفارقه.
وضع يده فى جيبه فلم يجد المفتاح، فدق على الباب والعرق يتصبب من جبينه، ودقات قلبه تتسابق مع دقاته على الباب، أيهما يدق أولاً؟ لا يدري.
سمع زوجته تقول بصوت خافت: من؟
- أنا
- من أنت؟
- زوجك، افتحى بسرعة.
فتحت الباب وقد علت الدهشة وجهها:
- أين كنت فى هذا الوقت؟ ولماذا ترتدى رداء النوم؟ ولماذا لم تفتح بمفتاحك؟
- أحضرى الكشاف، وسأخبرك ِ بكل شيء فيما بعد.
شعر بالوقت يمر بطيئًا، وكاد أن يسقط، فلم يمنعه من ذلك سوى قدوم زوجته، وعلامة الدهشة لا تزال تعلو وجهها.
انتزع الكشاف من يدها، وقبل أن تستفسر وتتكلم، هبط إلى الشارع، وكأنه يتردى من فوق جبل، تتردد أنفاسه مع تلامس أقدامه لدرجات السلم.
وصل وهو يتنفس بصعوبة، وضربات قلبه تزداد، ولكن هذه المرة فرحًا بقرب حصوله على مراده، أدار الكشاف فى أرجاء المكان، فلم يجد شيئا سوى حفرة صغيرة.
شعر بالرغبة فى التدخين تشتعل فى رأسه، ورائحة السجائر تملأ أنفه، فمد يده – بتوتر - داخل الحفرة.
أخرج يده ممسكا بالسيجارة وقد تفتت، وقطرات الماء تتساقط من بين أصابعه، والصداع قد تملك من رأسه، فخارت قواه، واستسلم للسقوط.