دكتور محمد أبوبكر حميد يكتب : أعظم لقاء بين رجل وامرأة في تاريخ البشرية
شكَّلت سن الخامسة والعشرين منعطفاً تاريخياً في حياة محمد بن عبدالله، وحفلت بأحداث جسام، ولا شكَّ أنَّ خديجة بنت خوليد قد سمعت به وهو الذي عُرف باستقامته وحُسن خلقه وتفرُّده بخصال وسجايا ميَّزته عن غيره من شباب عصره استحق بها لقب (الصادق الأمين)، وهو لقب أطلقه عليه أهل مكة بالإجماع. كان محمد في هذه الفترة قد بدأ يزاول التجارة مع شريكه السائب بن أبي السائب المخزومي، وكانت مزاولته للتجارة والتعامل بالمال أكبر محك اختبر فيه الناس صدقه وأمانته وتأكدوا منهما، وكانت هذه السمعة وراء نجاحه في التجارة وإقبال الناس على بضاعته.
ولا عجب أن تسمع خديجة بهذا الشاب الصادق الأمين الناجح في تجارته، وأن تحاول أن تستقطبه وهي التي تستأجر أُمناء رجال مكة للسفر بتجارتها وتقاسمهم الربح. وقد جاءت معرفتها المباشرة بمحمد الصادق الأمين في روايتين مفادهما واحد، الأولى أنّ أختاً لخديجة تعاملت تجارياً مع محمداً وشركيه، فلما قضيا السفر بقي لهما عندها حق، فجعل شريكه يأتيها ويتغاضاه، وعلمت أنّ محمداً كان يستحي من المطالبة به ويعتذر لشريكه، فذكرت ذلك لخديجة التي ازداد إعجابها بأدبه الجم وحيائه (أخرجه البزاز في كشف الأستار 3 - 237 والطبراني ومجمع الزوائد للهيثمي 9 - 222)، أمّا الرواية الثانية فتقول إنّ ابن أخت خديجة حكيم بن حزام اشترى من محمد وشريكه بزّاً من بزّ تهامة بسوق حُباشة، وقدِم به إلى مكة فراج وكسب منه، فعلمت بذلك خديجة (السيرة الحلبية، على برهان الدين الحلبي 1 - 222).
فكان أن طلبته للعمل معها والاتجار في مالها، وما كان يخفى عليه من هي خديجة، فهو يعرف أنّها سيدة فاضلة نبيلة من نساء مكة إن لم تكن أفضلهن جميعاً، وقد كانت بالفعل كذلك، عُرفت في المجتمع المكِّي بلقب (الطاهرة)، تنتمي لواحدة من أكثر الأُسر عراقة وأصالةً ونبلاً، جمعت في أهابها المجد من أطرافه، برصانة عقلها، ودماثة خلقها، وشدة عفتها وطهرها، وكمال جمالها، وكثرة مالها، وكرم نفسها، وقوة شخصيتها.
وعرضت (الطاهرة) على (الصادق الأمين) العمل معها، والخروج بتجارتها إلى الشام، وتعطيه ضعف ما كانت تعطيه لغيره، فما كان منه إلاّ أن يقبل، وهو المحتاج للمال وقد شجعه عمه أبو طالب وقال له (إنه رزق ساقه الله إليك).
فكان ذلك اللقاء أروع وأعظم لقاء تم في تاريخ البشرية بين رجل وامرأة .. لقاء ترتَّب عليه وحي السماء، وظهور آخر الأنبياء .. لقاء ترتَّب عليه زواج أطهر رجل عرفته الإنسانية على الإطلاق بأطهر امرأة في عصرها. كان زواجاً ضربت فيه خديجة المثل الأعلى في إخلاص الزوجة لزوجها. وكان فيه محمد أخلص وأصدق وأعظم الأزواج الأوفياء.
تذكر بعض المصادر التاريخية أنّ محمداً سافر بتجارة خديجة، ومعه غلامها ميسرة مرتين، كانت الأولى إلى اليمن والثانية إلى الشام (السيرة الحلبية)، فكانت الأولى لسوق حُباشة الواقعة بتهامة حالياً، وهناك من يقول إنّه ذهب إلى سوق جُرش بالقرب من خميس مشيط (مستدرك الحاكم وتصحيح الذهبي) وأغلب الظن أنّه ذهب إلى سوق حُباشة لأنّه سبق أن ذهب إليها قبل أن يعرف خديجة حيث باع البزَّ الذي اشتراه منه حكيم بن حزام ابن أخت خديجة.
أمّا رحلته الثانية فكانت إلى الشام وهي الأكثر رواجاً بين المؤرِّخين وكُتَّاب السيرة لما تخلَّلها من أحداث مهمة لها صلة بزواجه من خديجة والإرهاص بنبوته، ويبدو أنّ خديجة بعد عودة محمد من رحلته إلى اليمن استوثقت مما علمته عنه، فزاد اهتمامها به، وهو اهتمام - هذه المرة - أكثر من اهتمام سيدة أعمال بشاب أمين يعمل في تجارتها. أوصت خديجة غلامها ميسرة - وهي اللبيبة الحصيفة - أن يكون في خدمة محمد ولا يفارقه طرفة عين، وأن يأتيها بتقرير مفصل بكلِّ ما يحدث له ومنه.
عاد محمد بتجارة خديجة من الشام سالماً غانماً، وكان ربحها أضعاف ما كانت تتوقعه، فسرّها ذلك وأجزلت له العطاء. ولكن ما زادها سروراً فاق كلَّ سرور دخل قلبها في حياتها قط، كان ما حدّثها به غلامها ميسرة عن أحوال محمد وما رآه خلال هذه الرحلة، كان محمد كريم النفس، عذب الشمائل، سهل المعشر، لا يكلف أحداً أكثر مما يطيق، متسامحاً، رحيماً بالأرقاء والضعفاء والمساكين. ثم وقف بها عند ثلاثة شواهد كانت عجباً:
الأولى: لاحظ ميسرة أنّه كلّما اشتدت حرارة الشمس رأى سحابة تقف فوق رأس محمد تظلُّه، فتذكّرت خديجة أنّها لاحظت وقوف هذه السحابة فوق رأسه عند دخوله مكة في ساعة الظهيرة وظنت ذلك مصادفة.
الثانية: روى لها ميسرة أنّهما عندما دخلا بصرى من أرض الشام نزل محمد تحت ظل شجرة، فخرج لهما نسطور الراهب من صومعته، وسأل ميسرة: من هذا الرجل النائم تحت هذه الشجرة؟ فقال ميسرة: هذا رجل من أهل الحرم من قريش. فقال الراهب: أفي عينية حُمرة؟ قال ميسرة: نعم، لا تفارقه. فقال الراهب: إذن هو نبي، وهو آخر الأنبياء فما نزل تحت هذه الشجرة أحد بعد عيسى بن مريم عليه السلام (ابن هشام 1 - 138).
الثالثة: (أنّه وقع جدل في البيع بين محمد ورجل من النصارى، فقال الرجل لمحمد: إحلف باللات والعُزى فقال له محمد: ما حلفتُ بهما قط، وإني لأمرُّ فأعرض عنهما. فقال الرجل لميسرة بعد ذلك: هذا والله نبي تجد أحبارنا منعوتاً في كتبهم).
سُرَّت خديجة بما سمعت، وأيقنت أنّ لهذا الشاب لشأن عظيم، وأرادت أن تستوثق من ظنها فلجأت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل بن عبدالعزى الذي خبر ما جاء في كتب اليهودية والنصرانية وأخلص العبادة لله وحده على دين إبراهيم عليه السلام فقال لها: (لئن كان هذا حقاً يا خديجة، فإنّ محمداً لنبي هذه الأمة، وقد جاء في التوراة والإنجيل إنّه كائن لهذه الأمة نبيٌ يُنتظر، هذا زمانه) (ابن هشام). وقد انتظر ورقة بن نوفل بعثة محمد (ص) ليكون أول المؤمنين، ونظَّم قصيدة تعبِّر عن انتظاره وأمنياته في إدراك نبوة محمد ووصف فيها ما سيلقاه آخر الأنبياء من قومه من حرب وتكذيب ينتهي بانتصاره وانتشار رسالته، يقول فيها مخاطباً بنت عمه خديجة:
لَجِجْتُ وَكُنْتُ في الذِّكْرى لَجُوجاً
لهَم طالما بَعَثَ النَّشِيجا
وَوَصْف مِنْ خَديجِةَ بَعْدَ وَصْفٍ
فَقَدْ طالَ انْتِظاري يا خديجا
بِبَطْن المكتَيْن على رَجائي
حديثك أَنْ أرى مِنْهُ خُرُوجا
بما خَبّرْتِنا مِنْ قَوْل قَس
مِنَ الرُّهْبان أَكْرَهُ أَنْ يَعُوجا
بِأَنَّ مُحَمَّداً سَيَسُود فينا
ويَخْصِم مَنْ يكونُ لهُ حَجيجا
وَيُظْهِرُ في البلادِ ضياءَ نُورٍ
يُقيمُ به الْبَرَيَة أَنْ تَمُوجا
فَيَلْقى من يحارِبُهُ خساراً
وَيَلْقى مَنْ يُسالِمُهُ فُلُوجا
فَيا لَيْتِي إذا ما كانَ ذاكُم
شَهِدْت فَكُنْت أَوَّلَهُم وُلُوجا
ولوجاً في الَّذي كَرِهَتْ قُرَيْشٍ
وَلَوْ عَجَّت بِمَكَّتها عجيجاً
(ابن هشام 1 - 142)، وتحقق ما قال ولكن مات قبل بعثة محمد (ص)، وما أكثر ما ردّدت خديجة هذه الأبيات، وما أكثر ما اقشعرَّ لها بدنها وسالت دموعها شوقاً لذلك النور الذي سيشرق من خلال محمد، وخوفاً من أن لا تعيش ذلك اليوم لتؤمن به وتنصره فيه وتشد من أزره.
ثم أُضيف حدث زاد من يقين خديجة، إنّه حدث في إحدى المناسبات التي تجتمع فيها نساء قريش، أن جاءهن يهودي فقال: (يا معشر نساء قريش، إنّه يوشك فيكُنَّ نبيٌ قرب وجوده، فأيّتكن استطاعت أن تكون له زوجة فلتفعل). فسخرت منه معظمهن، وقبّحنه، وأغلظت له القول، وأغضت خديجة عنه قوله، وأطرقت متفكرة، وربطت ذلك بما قاله لها ميسرة وما فسَّره لها ورقة بن نوفل. وقالت: إنْ كان ما قاله اليهودي حقاً فما هو إلاّ محمد (رواية ابن إسحاق لابن هشام 1 - 205).
وبعد .. فهل لخديجة الحصيفة الحكيمة الطاهرة أن تحجم عن التفكير في الزواج برجل رأت من عظمة شخصيته ما رأت، ودلّّلت الأحداث مما سمعت على ما سيؤول إليه مستقبل البشرية على يديه. رفضت خديجة كلَّ الخُطَّاب من أكابر رجال قريش الذين حلموا بالزواج منها طمعاً في مالها وشرفها أو جمالها وطهرها أو فيهما معاً رغم بلوغها الأربعين لتفكر في الارتباط بشاب في الخامسة والعشرين - يصغرها بخمسة عشر عاماً - وليس له سلطة أكابر قريش ولا أموالهم، ولكنها أحبّت فيه شرفه الرفيع، وخلقه المتين، ومستقبله الواعد برحمة للعالمين. لعلها تردّدت وتوقّفت أمام فارق السن بينها وبينه، وما كانت تدري أنّ اقترانها به سيكون أعظم لقاء في تاريخ الإنسانية جمعاء بين رجل وامرأة، وإنّه كان قدراً إلهياً ترتّبت عليه أحداث عظام أنطقت السماء، وتغيَّرت به حياة الإنسان وعقيدته على وجه الأرض.
كاتب المقال الاستاذ الدكتور محمد أبوبكر حميد .. أديب وباحث وناقد أدبي أستاذ جامعي ورئيس تحرير بعض الصحف والمجلات ثم مستشارا لبعض المؤسسات و مشرفا بمؤسسة الأمل ومشاركا بلجنة الصندوق الخيري وعضو مجلس أمناء جامعة حضرموت.. ومستشار إعلامي