بسبب قانون التقاعد الجديد.. فرنسا على صفيح ساخن
اقترحت الحكومة الفرنسية على لسان رئيستها إليزابيت بورن، رفع سن التقاعد القانونى إلى 64 عاماً بحلول عام 2030، بدلاً من 62 حالياً، باعتبار ذلك هو أحد الإصلاحات الأساسية فى ولاية الرئيس إيمانويل ماكرون الثانية، أن رفع سن التقاعد وتأمين وظائف لمزيد من الأشخاص، هما الطريقتان الوحيدتان اللتان يمكن للدولة عبرهما أن تزيد إيراداتها، ما إن حدث حتى أعلنت النقابات الثمانى الرئيسية، الدعوة إلى التظاهر، احتجاجاً على الخطة التى تعهد بها ماكرون كأحد الإصلاحات الرئيسية فى ولايته الثانية.
هذه الخطة تهدف إلى رفع سن التقاعد القانونى تدريجياً، ثلاثة أشهر فى السنة ليبلغ 64، عام 2030 ما يوفر 5 مليارات يورو عام 2023، ونحو 11 مليار يورو بحلول عام 2026. لكن أثار هذا العديد من مخاوف وتساؤلات الفرنسيين الذين سرعان ما أعلنوا احتجاجهم، بينما أعلنت الحكومة استعدادها لمواصلة المناقشات البرلمانية، بهدف تطوير الخطة إلى أن تحظى بالقبول، ما يعنى بذل قصارى جهدها، ليس فقط بسبب رفض كل الأحزاب لهذه الخطة، لكن لأن ماكرون لا يتمتع بأغلبية حاسمة فى البرلمان بولايته الثانية هذه.
ردود أفعال المعارضة، جاءت قوية جدا، وعلى رأسها اليسار الراديكالى الذى يتزعمه جون لوك ميلانشو زعيم حزب فرنسا الأبية، الذى وصف خطة الإصلاح هذه، بأنها بمثابة تراجع اجتماعى خطير، يعمل على تأجيل سن التقاعد وزيادة الأقساط السنوية، وإلغاء الأنظمة الخاصة الجيدة.
وربما للأول مرة يلتقى اليسار الراديكالى واليمين المتطرف فى نفس النقطة، فها هى مارين لوبان تعلن صراحة معارضتها لهذا الإصلاح، واصفة إياه بأنه ظالم. بينما وصفه فريديريك سويو، رئيس نقابة القوة العاملة بأنه سيصبح «أم المعارك» إذا تم الإصرار على تطبيقه.
يرتكز الرفض الشعبى لرفع سن التقاعد فى فرنسا، باعتباره يضر بفئة العمال، ويأتى لصالح الوظائف العالية، بينما يرى ماكرون أن الهدف من الإصلاح، هو العمل لفترة أطول للارتقاء بالبلاد ومعالجة التدهور المالي، الذى تعانى منه، لكن فى كل مرة يعلن فيها عن تمديد سن العمل فى فرنسا، تندلع الحركات العمالية المناهضة لذلك، ممن ينتمون لمختلف الفئات المهنية والاجتماعية والعمرية.
وكان رئيس الاتحاد الفرنسى العام للعمال قد حذر فى ديسمبر الماضى، بأنه فى حال إقرار إصلاح المعاشات التقاعدية فى فرنسا، فإن البلاد ستشهد موجة إضرابات واسعة. وذلك عقب المظاهرات التى اندلعت فى سبتمبر، احتجاجا على رفع سن التقاعد، ما دعا صحيفة لوفيجارو الفرنسية لوصف الأسابيع المقبلة بأنها أسابيع الحقيقة، التى تحمل كل المخاطر، عقب الإعلان الرسمى عن مشروع قانون إصلاح التقاعد المثير للجدل، والذى وصفته بأنه مشروع غامض، متسائلة عن مدى تراجع الرأى العام والنقابات، وعن مدى استمرار حالة الإضراب بنفس قوتها.
الصحيفة من جانبها لم تعترض على هذا القانون الإصلاحي، لكنها دعت فى الوقت نفسه فى صدر صفحتها الأولى، إلى إجراء إصلاح للقانون يحقق التوازن والعدالة، ليمتص غضب الفرنسيين من جانب، ويلبى طموحاتهم من جانب آخر، مؤكدة أن ولاية ماكرون ستتأثر بهذه الأحداث، وبالتالى فعليه الاستعداد لمواجهة العواصف السياسية والاجتماعية الناتجة عن هذا القانون، الذى تعتزم الحكومة اعتماده بحلول شهر سبتمبر 2023، برغم أنه لا يلقى شعبية حتى فى معسكر الرئيس نفسه، وعلى رأسهم السياسى الوسطى فرانسوا بايرو الذى يُعد من أقرب حلفاء الرئيس، والذى قد صرّح خلال ديسمبر من العام الماضي، بأنه لم يتم بذل المجهود التوعوى اللازم، وطالب الرئيس بضرورة أن يوضح أجندته، لأنه لو لم يحدث ذلك، ستصبح خطوة قد تمس بسمعته وقدرته على الترويج لإصلاحات أخرى.
رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن، تقف وحدها فى وجه المدفع، فهى تحمل على عاتقها محاولة إقناع النقابات الفرنسية بهذا القانون الجديد، والذى وصفه فيليب مارتينيز رئيس الاتحاد الفرنسى العام للعمال، بأنه سيجعلهم يعودون إلى الماضى السحيق، عندما كانوا يستمرون فى العمل حتى يدفنوا فى قبورهم. وبالتالى فإن محادثاتها جاءت غير موفقة على الإطلاق مع كل النقابات، التى توعدتها بحشد الحشود لخوض المعركة ضاربين بكلمات ماكرون التى ألقاها فى مستهل العام الجديد عرض الحائط، التى دعاهم فيهم إلى المزيد من العمل.
وقد نجح قانون ماكرون للتقاعد فى توحيد صفوف اليسار واليمين المتطرف تحت مظلة واحدة، وهى الاعتراض على القانون والتعهد بالاشتراك فى المظاهرات المعارضة له، محذرين من اشتعال الوضع. فقد سبق وأن طالب ماكرون بإعادة هيكلة النظام، لكن مع اندلاع المظاهرات، وتفجر أزمة كورونا قرر تأجيل المحاولة ليبعثها إلى الحياة مرة أخرى، بعد إعادة انتخابه عام 2022 برغم تردده كثيراً بشأن توقيت هذه الخطوة، خشية اندلاع فورة شعبية جديدة، على شاكلة تلك التى انطلقت فى الشوارع سنة 2018 لما عُرف بـ «السترات الصفراء، فالبوادر موجودة وتكفى شرارة لإشعال الوضع، فقد شهدت فرنسا إضرابات فى الأشهر الأخيرة، فى قطاعات السكك الحديد والمستشفيات ومصافى تكرير النفط، وسط مطالبات برفع الأجور للتعويض عن التضخم الواقع، كما دعت مجموعة من «السترات الصفراء» إلى التظاهرات، ولكن لم تلق بالا حتى الآن غير أن غالبية الأشخاص الذين استُطلعت آراؤهم قالوا إنهم يعتبرون نظام التقاعد الحالى غير مقبول.
المشكلة أن الرأى العام يعانى حاليا أشد المعاناة، بسبب سلسلة الأزمات التى تتعرض لها البلاد ولكن يظل التكهّن بمزاج الفرنسيين أمرا بالغ الصعوبة، ولذلك يصعب على الجميع توقع ما ستفضى إليه كل هذه التظاهرات.. هل ستفضى إلى حركات اجتماعية كبيرة أم ستنتهى إلى الرضوخ؟
المناخ الاجتماعى فى فرنسا يشير إلى التوتر الشديد، حيث هناك تعبئة شعبية قوية بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، الذى بات يشكل خطراً على استمرار العديد من الأنشطة التجارية والحرفية مع مطالب قوية لرفع الأجور فى القطاعين العام والخاص، ويمكن أن تؤدى حركة التعبئة هذه إلى إضرابات طويلة الأمد، فى العديد من القطاعات الرئيسية للاقتصاد، مثل الإجراءات التى اتخذتها نقابة المصافى «سيه جيه تيه» فى الخريف الماضي.
بالإضافة إلى الوضع الصعب الذى يعيشه «الحرفيون الصغار» هناك تحركات يمكن أن تندلع خارج إطار النقابات العمالية؛ حيث يبدو أن هذه الطريقة للدفاع عن المصالح المهنية أصبحت أكثر شيوعاً بين الموظفين، على حساب الإجراءات التقليدية، التى تتخذها النقابات، ما يثير قلقاً كبيراً فى كل من الشركات وداخل النقابات العمالية، لأنها تحث على الأعمال التخريبية غير المتوقعة.
أما بالنسبة لحركة السترات الصفراء، فلم تحقق نجاحاً كبيراً داخل المجتمع فى الأشهر الأخيرة، لكن فشل التعبئة لا ينبغى أن يخفى تصاعد السخط المرتبط بتدهور القوة الشرائية فى ظل الارتفاع فى أسعار الطاقة الذى يعد المحرك الأول لها.
دفع كل ما سبق الحكومة الفرنسية على لسان رئيسة وزرائها إلى إعلان اعتمادها مرونة، بشأن خطتها لرفع سن التقاعد المثير للجدل، الذى وصفته بأنه ليس مقدسا، باعتبار أن هناك حلولا أخرى، قد تساعد الحكومة فى تحقيق هدفها لإحداث توازن فى نظام التقاعد بحلول عام 2030.
من ناحية أخرى، فريدريك دابى رئيس معهد إيفوب، أن الفئة الوحيدة المؤيدة لهذا الإصلاح، هى المتقاعدون البالغون من العمر 65 وما فوقها، وأن مستوى المعارضة أكثر من 54%.