شوقى عبد الأمير.. الفارس الفرنسى
قلّدت وزيرة الثقافة الفرنسيّة الشاعر شوقى عبد الأمير، وساما رفيعا فى الفنون والآداب، وبعثت له هذه الرسالة: «سيدي/ لى الشرف والسرور الكبير جدا، أن أعلن لكم أننى قمت الآن بمنحكم مرتبة الفارس فى الفنون والآداب، وهى واحدة من الامتيازات الرئيسية الموجودة بين الامتيازات الأربعة فى الجمهورية الفرنسية...» بالإضافة إلى كرم الأجانب فى حُسن العشرة، تُفصح هذه العبارات عن روعة كلامهم معنا ورقّته، واللمس الإنسانى فيه، للشاعر كتب عديدة فى الشعر والنثر والترجمة، وشغل منصب مندوب العراق فى اليونسكو، ويُحسب له تأسيس مشروع (كتاب فى جريدة) ولا يزال رئيس تحريره منذ انطلاقه عام 1996 إلى اليوم، كما أنه قام بتحويل بيت الشاعر الفرنسى رامبو فى عدن إلى مركز ثقافى فرنسى.
من يلتقى شوقى عبد الأمير الآن، يرى فى عروقه دماء فرنسيّة خالصة، حتى شِعره له جذور بعيدة فى تربة قصيدة النثر التى تُكتب هناك، بغرابتها والارتباك المقصود فى تشكيل المضمون، والانتماءُ صار فى العصر الحديث إلى المكان الذى يوفّر لك الزاد والمأوى، مع الشعور بالأمان ورهافة ورفعة النفس، والحياة العظيمة تكون عندما يوجد هناك عمل مثمر.
لم يبقَ للشاعر فى بلده غير مكتبة فى بيت أهله تذكّره بالسنين التى نمت فيها جذوة الشعر لديه، وفى زيارته الأخيرة إلى بغداد كان يبحث عن مكان يودع فيه كتبه، لأن الوارثين أعلنوا المكان الذى يضمّ الجذوةَ للبيع:
«سيأتى/ قالت لها شُجيرة الرمان/ سيأتى/ قالت لها النيلوفرات اللاتى شهدنَ غرقَه/ للمرة الأولى فى سورَةِ للفرات قرب الناصريةِ/ سيأتى/ قالت لها الوجوه...»
المياه التى تروى هذا الشعر عراقيّة، واللوعة فى القلب، وهذا النوع من الفقدان لا يعيش إلاّ فى هذه التربة. أسلوب الشاعر هو بصمة يده وعينه، ويختلف باختلاف المكان الذى فيه ينبت، ومن يقرأ دواوين شوقى عبد الأمير ير شعرا مختلفا فى كلّ تجربة يمرّ فيها مع البلد الذى يلجأ إليه. إن خارطة حياة الشاعر مبذولة فى قصائده، وليس فى خطاه الطويلة على الدرب. كم يحتاج إلى سنين التشرّد والعيش على حافة الخطر لتتغيّر طريقة استكشافه للألم الإنسانى، وتكون بهذه الصورة:
«فى بحر لا ضَفّةَ له/ الحقيقةُ سمكةٌ لم يبقَ إلا/ هيكلُها العظمى/ هيكلكَ العظمى».
حدّثنى الشاعر فى لقائنا الأول، عن صداقته العظيمة مع الفرنسى غيللفيك،عن خجله مثل طفل وتخبّطه والحياة الغريبة التى يحياها: «الشعر ليس خيالا بالمرة.هل الضوء خيال المصباح، والنار خيال الشمعة، واللون والعطر والشكل خيال الوردة؟ إن لم يتخذ السراج شكله منذ البدء، لا يمكن لقوّة مهما بلغت أن تجعله يتوهّج، وكذلك الوردة والفراشة وكأس الماء الشعرُ طبيعة وجوهر ووجود،مثلما للتوت الأسود وجودٌ وطبيعة وجوهر» الكلام «لغيللفيك»، وقد انكسر فى نفس شوقى عبد الأمير، أو أنه تشكّل فى ذاته منذ البدء، ولهذا السبب جاءت ترجمته لشعره كأنها كتابة بلغة ثانية.
النهار يفضى إلى الليل فى كلّ يوم، وليس مثل الأدب ميدانا تُختبر فيه سرائر البشر، وتمضى وزيرة الثقافة بوصف الشاعر بالنفيس من الصفات لجهوده فى حقول الثقافة فى فرنسا «عبر هذا التكريم الذى يهدف إلى مكافأة الشخصيات التى تميزت بإبداعها فى ميادين الثقافة، وبدعمها ونشرها للمعارف والمؤلفات التى تشكل ثروة فى موروثنا الثقافى، تريد بلادنا أن تحيى عاليا مساهمتكم فى إغناء ونشر الفنون»، كلمات مثل هذه تُعيد ملمس الروح إلى الجسد الغائب، وتقيم معه حوارا، فكيف يكون فعلها فى نفس شاعر؟
هو الآن مواطن فرنسى بالروح والدم والهوى، البنطال قطيفة أصفر فاقع، والشّعر مقلّم ومصفّف بطريقة لا نعرفها هنا، كما أن السيجار فى الفم يعطيه لقب مسيو بالثلاث القلبُ والقالبُ فرنسى، لكن لا القلب ولا القالب غاب عنهما نهرُ الفرات وهور الحمّار وسوق الشيوخ...يقول الشاعر:
لا تنبشَ فى الأرض
الكثيبُ الرمليّ الطريّ
ليس مقبرة جماعية.