حكايات من الواقع.. ونسيت أنني كنت شيطانًا!
قليلون هم من يغادرون الدنيا وقلوبهم منها براء، عاشوا بها ولم تغش أعينهم ببريق أوهامها وخطاياها وكثيرون من هوت بهم دنياهم إلي هوة سحيقة لا قرار لها وتغللت عقولهم عن حقيقتها الزائفة وأنا من هؤلاء الكثرة كغثاء السيل هرولت إلي الدنيا أركض فيها ركض الإبل في البرية لا هم لي غير أن أغب من ملذاتها لا تثنيني حرمة ولا تقيدني أخلاق، أسعي لكنز المال حراما وحلالا، أدوس في طريقي أي شيء بلا وازع من ضمير لا ألوي علي شيء غير أن طريق الظلم لم يؤد بي إلا إلي ظلمات سكنت نفسي أتلظي بها وحدي خلف القضبان..!
بضعة شهور مضت علي وأنا خارج الأسوار بعد أن قضيت أكثر من 15 عاما في قضية قتل لم تكن إلا واحدة من جرائم عدة ارتكبتها، بضعة شهور لم أشعر فيها بحريتي فمازلت أشعر أني مسجون والأسوار التي تحاوطني أعلي بكثير من أسوار السجن الذي خرجت منه، جدرانها سميكة ممتدة إلي أعماقي، تضيق علي، أختنق منها ولا موت يريحني ولا طوق نجاة..!
لم يكن محبسي الجديد غير ضمير كنت أحسبه قد مات وماتت معه آدميتي وأحاسيسي، أسفك الدماء وأقترف من الذنوب لا يشغلني ما أفعل، ولكنه مازال حيا تتقد نيرانه الحارقة تكويني، يحاسبني علي الماضي البعيد ويعيدني لدوامته قبل أكثر من 30 عامًا منذ عرفت طريق الشيطان وطرقت بابه طامعا في المال الحرام وتحالفت معه كبيرا وسيدا، استعبدني للشر أسرق وأقتل وأحتال علي الناس.
لم أترك سبيلا دلني عليه لم أطرقه حتي أوقعتني أقداري في شر ما أعمل، كنت قد سطوت علي شقة مع شريك لي في الإثم واستولينا منها علي مبالغ كبيرة ومشغولات ذهبية كثيرة وفيما كنا نقتسم الحصيلة أوقع الشيطان بنا اختلافا وطمع كل منا في الآخر، تشاجرنا، تناحرنا، حتي انتهي الأمر بمقتله، صحيح أنه لم يكن أول دم أسفكه فقد قتلت قبله شخصا آخر وقيدت الجريمة ضد مجهول ولكن هذه المرة لم تكن جريمتي مجهولة ولا أدر كيف طالتني العدالة فيها وقضيت قرابة العقدين من الزمان سجينا بسببها..!
رغم حداثة عهدي بالسجن إلا أن مؤهلاتي الشخصية وضعتني في المكان المناسب لي بين النزلاء فقد كان وجهي يحمل نياشين قوتي ويبعث الخوف في قلب كل من يقترب مني ويلحظ علامات الـبشلة تترك آثارها الغائرة بقسوة، وتمضي الأيام في السجن علي وتيرتها من فتوة وقوة إلي ضعف ومرض وهوان، كان لابد للأقدار أن تضع لمساتها الأخيرة علي حياتي قبيل خروجي من السجن، خارت قواي ووهن العظم مني واعتل قلبي لأخرج إلي الحياة شخصا آخر ألتمس عطف الناس متسولا ذليلا للقمة تقيم أودي أو بضعة جنيهات أشتري بها علاجي، أدوس الطرقات سعيا بين الناس مسكينا ولا يدرون أن من يعطفون عليه كان شيطانا يعيث بينهم فسادا.
وينقضي النهار بي لألتحف السماء متوسدا حجرا علي الرصيف سواد الليل وظلمته، تتسع الدنيا من حولي ولكنها تضيق بي علي رحابتها، أتجرع مرارة الماضي ألما وندما وأتطلع إلي السماء رجاء ورحمة وأملا في الله لا أدر إن كان سيستظلني بظل مغفرته أم لا.
عرفت الآن أن المال الذي كنزته قد ضاع هباء منثورا والقوة التي زهوت باتت ضعفا وعجزا وأذلتني الحاجة للناس من بعد قوة.
نتوءات الزمن
* هكذا تحدث لي الرجل وحكي حكايته، كان منهكا إلي حد الإعياء منحيا مقوص الظهر يلهث ملتقطا أنفاسه بصعوبة، كانت حاجته بسيطة، علبة دواء للقلب تساعده علي الحياة بلا اضطرابات تبدو وكأنها مسكن لآلامه أكثر منها علاجا، ملامح وجهه القاسية والنتوءات التي حفرها الزمن في قسماته تشي بما لاقاه في حياته من صراع مع الدنيا تغالبه ويغالبها حتي أوقعت به..!
سألته لماذا أتاني فأطرق شاردا وقال: الحاجة مرة يا بيه ربنا ما يوريك كسرة النفس، وقبل أن أسأله عن حكايته وأولاده أو ذويه ولماذا يتركونه علي هذه الحال المذرية رث الثياب واهن الجسد والعمر مريضا بلا علاج أو طعام يكفيه الحياة قال لي: ربنا بيخلص مني يا بني بس مش عارف عزاب الدنيا يكفي ولا لسه مستنيني في الآخرة كتير، وقال إنه لم يكن متفرغا للزواج وفتح بيت وإنجاب أطفال، كان يعيش لنفسه ولملذاته والثراء السريع بأي طريقة وبأي أسلوب.
كان حزينا يعتصره الألم تتحشرج الكلمات في حلقه تنازعه حتي تخرج وهو يقول بصوت امتلكته رعدة: المال الحرام سمم حياتي وذنوب الناس في رقبتي تفتكر لسه فيه أمل...
استدار الرجل يريد الانصراف فاستوقفته وربت علي كتفه مرددا قول المولي عز وجل: قل يا عبادي الذين أسرفو علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، وأخبرته أن الله جلت قدرته لا يغلق أبواب الرحمة والغفران أمام أي من عباده لو صلحت التوبة فيهم وليس عليه غير ابتغاء وجه الله بيقين صادق في كسب رضاه فالله يحب التوابين المستغفرين وحكيت له حكاية الرجل الذي ذهب لأحد العلماء يريد أن يتوب عليه وحكي له أنه قتل تسعا وتسعين.
نفسا فانزعج منه العالم واضطرب قلبه وخشي علي نفسه فرده وقال له اذهب لا توبة لك عندي فاستشاط الرجل غضبا وضرب العالم يأسا وغيظا حتي صرعه مكملا به حصيلة المائة قتيل من ضحاياه ثم غادره وانطلق إلي عالم غيره وحكي له حكايته وخشي العالم من مصير سابقه فأسدي له النصح بالهجرة إلي بلد آخر لا يعرفه فيه أحد علي أن يصدق النية بينه وبين نفسه أنه مهاجر إلي الله شخصا آخر أبدلته التوبة سريرة بيضاء لم يلوثها إثم فخرج الرجل مبتهجا وانطلق يهرول إلي الصحراء يجوبها حتي أنهكه التعب وأوقعه الإعياء صريعا لا يدري إن كان الله قد قبل توبته قبل موته أم لا وحكيت باقي الأسطورة التي تقول إن الله ابتعث له ملكين يقيسان المسافة بينه وبين البلد التي أراد الهجرة إليه وكيف طوي الله الأرض يقربه منها رحمة به ومغفرة لذنوبه فكتبه الملكان من التائبين..!
وقلت للرجل قبل أن يغادرني لا تيأس من رحمة الله، وأأمل في عفوه إنه العفو الكريم فنظر إلى وارتسمت علي وجهه ابتسامة حائرة ثم مضي.