د . محمد شبانة يكتب: رؤية نقدية أثرية وتاريخية لفيلم Kingdom Of Heaven
فيلم"مملكة السماء" هو فيلم من إنتاج بريطاني – أمريكي طُرح في دور العرض سنة 2005, وقد بلغت ميزانية الفيلم 130 مليون دولار وحقق أرباحاً تزيد عن 218 مليون دولار والفيلم من إنتاج وإخراج ريدلي سكوت وتأليف ويليام موناهان وبطولة الممثل الإنجليزي أورلاندو بلووم في دور باليان والممثلة الفرنسية إيفا جرين في دور سيبيلا زوجة الملك غي دو لوزينيان (جاي لوزجنان) ملك مملكة بيت المقدس الصليبية ويتناول الفيلم الأحداث التي سبقت الحملة الصليبية الثالثة حيث يحكي عن فارس صليبي (باليان الذي يقوم بدوره أورلاندو بلووم) يائس من الحياة وشبه فاقد الإيمان حزناً على انتحار زوجته لوفاة طفلهما حيث ذهب إلى بيت المقدس أملاً في العثور على الخلاص لزوجته ولنفسه لكنه لم يكن يدري أن القدر يرسم له طريقاً في مهمة "إنسانية" مقدسة وليست مهمة دينية ذات طابع صليبي حيث بعد هزيمة الصليبيين في موقعة حطين 583هــ/ 1187م وتدمير معظم الجيش الصليبي تزعم باليان حركة المقاومة الصليبية داخل مدينة القدس الغراء بعد أن زحف صلاح الدين (الذي قام بدوره الممثل السوري غسان مسعود) عقب انتصاره في حطين إليها وضرب حصاراً خانقاً على المدينة وقصفها بالمنجنيقات, والفيلم رغم ميزانيته الهائلة إلا أننا بصدد عمل تاريخي عليه الكثير من الملاحظات, فنحن لسنا ضد الأعمال التاريخية لكن ينبغي الالتزام قدر الإمكان بواقعية الأحداث التاريخية وإعداد المسرح التاريخي الذي دارت عليه الأحداث إعداداً مثالياً بحيث يجسد الحقائق التاريخية ويعكس الواقع الآثاري ويحترم عقلية المشاهد غير العادي ذي الخلفية التاريخية الآثارية, هذا وقد رصدنا عدة ملاحظات لنا على هذا العمل الفني يمكن تقسيمها إلى الآتي:
- البعد الآثاري للفيلم: الفيلم رغم أن مسرحه التاريخي هو بلاد الشام وخاصةً فلسطين الحبيبة إلا أنه للأسف لم يتعرض للقلاع والمناطق والمزارات الآثارية في بلاد الشام برمتها وليس فقط في فلسطين حيث ابتعد تماماً عن هذا المسرح التاريخي وولى وجهه شطر إسبانيا الجميلة والمغرب الشقيق, ففي إسبانيا تم التصوير في عدة مدن ومزارات آثارية سياحية إسبانية مثل مدينة Segovia شقوبية أو شكوبية بقلعتها الشهيرة التي ترجع إلى العصور الوسطى, ومدينة Avila أفيلا الشهيرة بأسوارها التي ترجع إلى العصور الوسطى أيضاً وكلتاهما تقعان في منطقة قشتالة وليون المتمتعة بالحكم الذاتي, كما تم التقاط مناظر في الفيلم لقلعة لواري Castle of Loarre المؤرخة فيما بين القرنين 11-13الميلاديين والواقعة في مدينة لواري في أرغون Aragon وهي منطقة تتمتع بحكم ذاتي أيضاً, كما تم التصوير في قرطبة في بالما دل ريو Palma del Rio , لكن أهم مناطق التصوير في إسبانيا كانت في إشبيلية في منطقة أندلوسيا وتحديداً في موقعين هامين هما قصر Alcazares والمعروف بقصر المورق أو المبارك أو قصر إشبيلية وهو في الأصل كان حصناً بناه المسلمون ثم تحول إلى مقر للحكم بعد ذلك, وهناك La Casa de Pilatos والمعروف ببيت بيلاطس أو كاسا دي بيلاتوس وهو قصر يرجع للقرن 15الميلادي, أما في المغرب فتم التصوير في المدينة السياحية الشهيرة ورزازات التي تشتهر بعمائرها التاريخية ومناظرها الطبيعية, وهذا قطعاً يعد بالنسبة لمن لديهم خلفية ثقافية تاريخية آثارية أمراً مؤسفاً خاصة أن الميزانية المرصودة ضخمة وكان من الممكن التصوير في المسرح التاريخي للحروب الصليبية في بلاد الشام وفلسطين,إذ تصدمنا وللوهلة الأولى عند التمعن في العمائر والزخارف والتفاصيل طرز معمارية وفنية زخرفية لا تعكس مطلقاً مكان الأحداث التاريخية ولا الفترات الزمنية التي يجسدها الفيلم فالمعروف أن العمارة والفنون الصليبية في بلاد الشام زمن الحروب الصليبية كانت ذات طراز صليبي فريد مهجن يعتبر في حد ذاته مزيجاً من الفنون الأوربية وخاصة من الطرازين الرومانسكي ثم القوطي مطعماً بمفردات من فنون العمارة والزخرفة البيزنطية والأرمنية مع تلاقحها في بعض الأحيان بمفردات العمارة والفنون الإسلامية لكن الأخيرة تمثل طرازاً شرقياً وليس الطراز المدجن ذي الطابع المغربي الأندلسي والذي ينعكس في تفاصيل معمارية وزخرفية كثيرة في عمائر الفيلم وخاصة القصور والقلاع وعمارتها وزخرفتها, بل أن المخرج حينما ابتدأ الفيلم وأنهاه بمنظر من المفترض أنه في فرنسا إذا به لا يصور قلاعاً فرنسية حتى بل يصور لنا قلعة لواري الرومانسيكة الطراز التي سبق ذكرها, أما القصور الصليبية والعمائر الأخرى فقد عكست تفاصيلها سواء الخارجية أو الداخلية الكثير من المفردات المعمارية والزخرفية من عقود مفصصة, عقود حدوة الحصان, طرز الزخارف الجدارية, أنماط الزخارف الهندسية المفرغة وزخرفة المشبكات والمضلعات النجمية أضف إلى ذلك الثراء الزخرفي الواضح في الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة والتماثل (السيميترية), ناهيك عن الأبواب الخشبية المطعمة بالعاج الإسلامية الطراز وكلها تفاصيل يظن الناظر لها لأول وهلة أنها طراز مغربي أندلسي صرف (هو الطراز الإسلامي الشهير الذي ساد في شمال إفريقيا والأندلس) لكنها في الحقيقة تعكس لنا الفن المسمى "الطراز المدجن" Mudejar-style (الموديخار) وهو أسلوب معماري زخرفي ساد في الممالك الأيبيرية المسيحية تحديداً فيما بين القرنين 13-15 ميلادياً وهو طراز متأثر بالمفردات الإسلامية من الطراز المغربي الأندلسي الذي كان سائداً في فنون العمارة والزخرفة الإسلامية في الأندلس إبان الحكم الإسلامي لشبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والرتغال حالياً) حيث تم الدمج بين الطرز المعمارية المسيحية الرومانسكية والقوطية وكذا من عصر النهضة مع العناصر الإسلامية الطراز السابقة الذكر وخلّف لنا ذلك الطراز أو الفن المسمى "المدجن" وهو مصطلح يشير في الأساس إلى المسلمين الذين بقوا في شبه الجزيرة الإيبيرية بعد حروب الاسترداد المسيحية "حركة الريكونكويستا" Reconquista ولم يتم إجبارهم في البداية على التحول للمسيحية. كما ساءني كذلك في مناظر مدينة القدس الشريف عدم الالتفات للسياق الزماني والمكاني والتعبير عن الطرز المعمارية بشكل انتقائي فانتازي, فمثلاً المفترض زمنياً أن الأحداث قبيل الحملة الصليبية الثالثة أي أننا ما زلنا في العصر الأيوبي ومن ثم فأي تعبيرعن عمائر أو طرز معمارية تالية زمنياً يعد مأخذاً وعدم التزام بالمرحلة الزمنية فيؤتَى أحياناً بصورة للقدس الشريف في تلك الفترة الزمنية باسقاطات خيالية وكأنها في مخيلة مصور أو رسام وكان يمكن أن يأتي ذلك في لوحة لمصور شهير فنتقبله لكن والحال أن هناك كاميرا ترصد أحداثاً وأماكن واقعية لا يمكن تقبله حيث نجد أحياناً تجاور الطرز الأيوبية والمملوكية, المصرية والشامية والإيرانية والوسط أسيوية وكأننا نشاهد لوحة فسيفسائية خيالية إنتقائية لا تناسب أبداً عملاً تاريخياً هو في الواقع يؤرخ للزمان والمكان.
أما ما تم تصويره في ورزازات المغربية فهو منظر مدينة ايبلين الصليبية وهي نفسها قرية يبنه أو يبنا التي تتبع مدينة الرملة في فلسطين المحتلة وللوهلة الأولى هالني هذا المنظر إذ كيف بقرية المفترض أنها صليبية أي لا بد أن تعكس طرز العمارة والتحصينات والقلاع الصليبية التي كانت تعتمد على البناء بالأحجار الضخمة سواء كانت منحوتة أو مسنمة Rusticated Masonry or Bossed stones فإذ بنا نجد عوضاً عن الطراز الصليبي المفترض تصويره أو التعبير عنه بواقعية نجد قرية بسيطة تعكس ما يسمى في العمارة بطراز العمارة التقليدية الصحراوية التي يسود فيها غالباً طريقة البناء باللبن والآجر تلك الطريقة التي لم تكن معروفة في العمائر الصليبية في بلاد الشام والأراضي المقدسة وهي من المآخذ الكثيرة في الجانب الآثاري على الفيلم, أضف إلى ذلك أن الكثير من الملابس للسكان المسلمين جاءت لا لتعبر عن طرز الملابس الشامية زمن الحروب الصليبية بل لتعبر عن الأزياء المغربية, وكذلك تسود اللهجات المغربية لا الشامية, ناهيك عن أن بعض مناظر الفيلم تضمنت طرزاً حديثة في قطع الآثاث والتحف الزجاجية والقنينات المعدنية والطسوت وغيرها, هذه بعض الملاحظات والمآخذ الآثارية على الفيلم, أما ما يُحسب للفيلم آثارياً فهو التعبير عن الدروع الإسلامية وبعض ملابس الجيش الأيوبي بدقة نوعاً ما حيث تعكس جهداً كبيراً ممدوحاً لمحاكاة الدروع والملابس الأيوبية, وهناك أيضاً "حسنة" أخرى للفيلم منها التعبير عن استخدام نمط من الأبواب الآثارية التي كانت شائعة حقاً في القلاع والحصون الصليبية وأعني بها ما يُسمى لدي علماء الآثار بــ الباب الحديدي المنزلق Portcullis.