الدكتور محمود فوزى يكتب.. جريمة الحرمان النسبي
قد تؤدي الفجوة المتنامية بين التطلعات الاجتماعية وقيودها الاقتصادية إلى زيادة غموض التوقعات الاستهلاكية، ووصولها إلى مستويات غير واقعية بين أفراد الطبقات الاجتماعية المهمشة الأكثر حرمانًا؛ ما قد يدفعهم نحو السلوك الإجرامي غير المخطط؛ كرد فعل لاشعوري لحالة الحرمان والاستحقاقات النفسية المنتهكة.
وفي محاولة لإدراك مبررات هذا الانحراف المجتمعي الصارخ؛ نجد أن الانجذاب الشديد لتيار الاستهلاك؛ بسبب وفرة المنتجات وتعدد علاماتها التجارية البراقة؛ في خضم الانفتاح التجاري والثطورات التكنولوجية المتلاحقة؛ ينجم عنه بلا شك مشاعر وأحاسيس متلاطمة؛ تختلط فيها تعبيرات السعادة والانتشاء بالإحباط والاكتئاب؛ حيث يرفض المستهلك قسرًا قنوات الترقي المقبولة اجتماعيًا؛ لتحسين ظروفه المعيشية، مثل التعليم والعمل؛ كونها مسارات طويلة الأمد، وغير آمنة؛ في ظل بيئة الحرمان والاستبعاد الاقتصادي.
وليس بالضرورة أن تنشأ مشاعر الإحباط المحطمة على أمواج الاستهلاك؛ كنتيجة مباشرة لحالة السخط وعدم الرضا عن ظروف الحياة وفرصها النادرة؛ وهيمنة الظلم الاجتماعي على طبقاته المتهالكة؛ بل ينشأ أيضًا من الافتقار إلى الفرص ومجالات كسب الرزق المشروعة؛ لتلبية الاحتياجات الأساسية، والسعي قدمًا نحو التطور والنمو.
في المقابل قد يفرض التطور التكنولوجي سريع الوتيرة على المستهلكين ضرورة كبح جماح رغباتهم الاستهلاكية والتحكم فيها؛ للحصول على المنتجات بطريقة محسوبة؛ تتسق وظروفهم الاقتصادية؛ ذلك على الرغم من وفرة المنتجات ذات القيمة الرمزية المرتفعة؛ بالاستفادة من خدمات كروت الائتمان، وبنوك الاقتراض، وشركات التقسيط والوساطة التجارية، ووفرة سلاسل متاجر البيع بالجملة والتجزئة.
وبلا شك تنجح هذه التطبيقات والوسائط في القيام بدور "رمانة الميزان" بين تعدد فرص الحصول على السلع والخدمات والماركات رفيعة المستوى، بتقليد عالي الجودة؛ يرضي بعض من رغبات الاستهلاك المحبطة، وبأسعار أيضًا معقولة؛ بسبب اختلاف بلد المنشأ، هذا من جانب؛ ومن جانب آخر تبقى الضغوط النفسية الناتجة عن الأجل والائتمان في انتظار طريقها نحو الانفجار في وجه كيانات المجتمع وأفراده؛ اللاذنب لهم؛ سوى أن قدراتهم الشرائية العملاقة؛ قد خلقت حرمانًا نسبيًا لدى فئات مجتمعية أخرى؛ عن دون قصد منهم.
حينئذ سيكون للجريمة ملاذًا لا نحمد عقباه؛ فمرتكبها يشتهي الحصول على موارد اقتصادية ضرورية، ولكن بوسائل غير مشروعة؛ كطريق مختصر لتلبية تطلعات استهلاكية معقولة وبسيطة؛ لكنه يقف محرومًا عاجزًا عن اقتنائها بسبب نقص فرص التعليم أو العمل؛ على نحو مواز من ارتفاع الأسعار وتدني الظروف الاقتصادية.
ما يمثل تمهيدًا لنشاة تحولات جذرية في القيم والأعراف الأخلاقية المقبولة اجتماعيًا؛ لأن البحث عن بدائل للتهميش؛ يعزز التسامح والتوافق مع ثقافة عدم الشرعية؛ تلك الثقافة المرتكزة على الوسائل غير القانونية، والأساليب الاحتيالية، والخدع الدعائية؛ للحصول على الموارد الأساسية، وتلبية التوقعات الاستهلاكية البسيطة.