الدكتور محمد شبانة يكتب ... ” عين جالوت ” .. تفاصيل أكبرمعجزة في التاريخ العسكرى ( ٢ )
نواصل نشر التفاصيل الكاملة لمعركة نصر جيش المسلمين فى عين جالوت ذلك النصر الخالد على جيش الجبابرة الفضائي الذي لا يُقهر ، تلك ذكرى أكبرمعجزة في التاريخ العسكري من لدن آدم حتى يوم القيامة وكان تاريخها يوم الجمعة 25 رمضان 658هــ/ 3 سبتمبر 1260م.
الإعصار المغولي الجبار في عيون المؤرخ المدقق ابن الآثير:
والحقيقة أنه لم يعجبني من المؤرخين الذين تناولوا الإعصار المغولي وأعطوه حجمه بلا تهوين ولا تهويل بل بنظرة موضوعية عميقة سوى المؤرخ المدقق العلّامة ابن الآثير رحمه الله, وهو من المؤرخين الذين عاصروا كارثة المغول ومأساة العالم وشاهد تلك الأحداث بأم عينيه والتي اعتبرها بعين المؤرخ المدقق المحقق والمؤمن معاً طامة كبرى وأن أمة الإسلام في طريقها إلى الزوال, وأنها أحداث تنذر بيوم القيامة بل أنها علامات الساعة وأن يوم القيامة يحدث بالفعل, حيث أنه اعتبر أن فتنة التتار "المُغول" أشد من فتنة الدجال نفسه فهو يصف كارثة لم يعرفها التاريخ البشري من قبل وبكل موضوعية لن يرى العالم كله مثلها من بعدها, والغريب أن ابن الآثير تُوفي سنة 630هــ/ 1233م أي أنه لم يعش ليشاهد اجتياح بقية العالم الإسلامي ولا ليشاهد تدمير بغداد وقتل الخليفة العباسي ولا سقوط الشام ولا بقية الأهوال والمآسي التي حدثت في العالم الإسلامي, وطبعاً لم يشاهد انتصار عين جالوت المؤزر, والذي أعتقد أنه لو أمد الله في عمره كان - وهو المؤرخ المحقق المدقق الذي له رؤية ثاقبة ونظرة فلسفية عميقة - ليمدنا بمعلومات وحقائق بعيداً عن الأساطير والأكاذيب والتدليسات التي عجت بها كتب المؤرخين عن الموقعة, وكان ليضعها – وهو الذي عاصر حطين والحروب الصليبية – في موقعها الذي تستحقه كأعظم معركة في التاريخ البشري, يقول ابن الآثير عن ذلك تحت عنوان
[ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام]
:"لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلاً وأؤخر أخرى فمن ذا الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً, إلا أنه حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً فنقول هذا الفعل يتضمن ذكرى الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها...... ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال فإنه يُبقي على من اتبعه، ويُهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة في بطون أمهاتهم. فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها".
(ب) عين جالوت معجزة حربية على أي معيار عسكري, ونظر في عدد الجيشين المغولي والمملوكي:
عين جالوت هي معجزة المعجزات الحربية بكل المقاييس ولا يمكن أن تُقارن بها أي موقعة أو معركة أخرى وبينها وبين معارك من قبيل حطين وغيرها من المعارك الكبرى سنوات ضوئية في الأهمية, فكيف لهذا الجيش الأسطوري الذي لا يُقهر حقاً والذي يفضل مقاتلوه ذوو البأس الشديد الموت على الفرار بل على الاستسلام كيف يُهزم من جيش من المماليك الذين هم أصلاً أيام كانوا صغاراً قد فروا وفر أهلهم وآباؤهم من أمام الإعصار المغولي الجبار ثم يأتي هؤلاء ويهزمون المغول كيف وبأي منطق؟ وكيف بعالم إسلامي متمزق تطاول عليه من تطاول وانهارت الخلافة الإسلامية في بغداد بما لها من رمزية دينية هامة عند المسلمين ومن قبلها انهارت الدولة الخوارزمية التي كانت سداً منيعاً أمام المغول كسد ذي القرنين أمام يأجوج ومأجوج, وأُبيدت وشبه أُبيدت شعوب وقبائل وعشائر, ومحيت مدن وسويت أخرى بالأرض وتم تدميربغداد وقُتل بالجملة عشرات الملايين من المسلمين ومن غيرهم بلا أدنى مبالغة وهناك تقديرات مهولة في هذا الصدد خاصة ما قُتل من المسلمين في أسيا الوسطى وإيران, وحكام العالم الإسلامي أو بالأحرى ما تبقى منهم قد تشرذموا وصار ما يهمهم عروشهم فقط غير مقدرين لجسامة هذا الخطر الذي يستلزم الوحدة, ومنهم من دخل في طاعة هولاكو ومنهم من آثر السلم بل وحارب مع الجيش المغولي كيف يحدث النصروالحال هذا؟ هل هو منطقي؟ هل كان كما يُزعم بسبب الخطة العبقرية لقطز أو بيبرس ومهاراتهم التي انتزعت النصر من الوحوش البشرية المغولية؟, أوكما يُزعم في الأسطورة الكاذبة أن جيش المغول كان حوالى 30 ألفاً "وأن الجيش المغولي انشغل بموت القاآن الأعظم (مُنكو) وعاد هولاكو إلى قره قورم بمعظم الجيش, أين النظر والتحقيق؟ الحقيقة المخفية أو المطموسة أو التي تشوهت أو ضاعت مع الزمن أو تم التدليس عليها الحقيقة التي يقبلها العقل والمنطق أن موقعة عين جالوت المصيرية كان تعداد الجيش المغولي فيها ما بين حوالى 100 إلى 110 ألف مقاتل تقريباً وتعداد الجيش المملوكي كان حوالى مابين 90 إلى 100 ألف مقاتل تقريباً علماً بأن عشرة آلاف من المغول كفيلة وحدها بجيش تعداده 70 ألفاً وربما مائة ألف ليس فقط لقوتهم العسكرية وجبروتهم القتالي, بل للرعب والذعر الذي أصاب العالم كله من المغول جيوشاً وشعوباً, وأن هذا الجيش المغولي الكبير (والذي كان كبيراً كردة فعل للحشد المملوكي من ناحية, ورغبة المغول من ناحية أخرى في السيطرة على مصر ذلك الإقليم الهام مفتاح السيطرة على الشمال الإفريقي وغرب أوربا وبالتالي الإطباق على أوربا من الغرب بعد أن أطبقوا على بولندا شرقاً) شبه أبيد عن بكرة أبيه في الموقعة وشبه الإبادة تلك لعدد لا يُستهان به من الجنود هو الذي لم يدفع هولاكو للتفكير في الإنتقام العاجل عند عودته وذلك للتفرغ لإعادة بناء الجيش المنكسر, ثم إذا كان هولاكو قد عاد بمعظم الجنود إلى قره قورم وتبقى حوالى 30 أو 20 ألفاً شاركوا في عين جالوت بحسب الأسطورة الكاذبة لماذا لم يعد هولاكو بمعظم الجيش من قره قورم ويسحق الجيش المملوكي ويذيق مصر من نفس الكأس الذي اجترعه قبلها أخواتها من الدول الإسلامية؟ ألم يكن باستطاعة هولاكو بل والقاآن الأعظم في قره قورم أن تتضافر جهودهم ويتناسون ما بينهم من خلاف مؤقت على ولاية العهد لإعادة الإعتبار والكرامة للمغول كأمة عامةً وللجيش المغولي خاصة لا سيما أنها هزيمة قاسية هزت صورة المغول الذين أذلوا العالم وأخضعوا ملوكه وأذاقوا الشعوب والحكام مرارة الذل والهزيمة أليس من الممكن أن تتجرأ عليهم الشعوب المقهورة؟ إنها إذن مسألة وجود مصيرية بالنسبة للمغول الذين كان حالهم في الحقيقة بعد الموقعة حال الأسد الجريح الذي لو كان لديه القدرة للإنتقام السريع لانتقم وبأبشع انتقام من ذلك الجيش وتلك البلد التي أذاقتهم ما أذاقوا هم جُل شعوب العالم في أسيا وأوربا, لكن الذي منعه ليس سوى أن الجيش المغولي في عين جالوت الذي كان أكثر من 100 ألفاً أبيد عن بكرة أبيه باستثناء بضع عشرات وتم سحقه في المعركة وأن من عاد مع هولاكو إلى قره قورم كان لا يزيد عن ثلث الجيش المغولى أو بالأحرى الإيلخاني أي حوالى من 50 إلى 60 ألف مقاتل وبالتالي كان لا بد لهم من وقت لإعادة بنائه واستدعاء الإحتياطي وعمل تعبئة للأفراد سواء في إيران وأسيا الوسطى أو حتى تجنيد أبناء القبائل في منغوليا ذاتها خزانهم البشري الأكبر هذا هو السبب الوحيد لتأخر الإنتقام المغولي وعدم التعجيل به, فضلاً عن عنصر المفاجأة التي كان لها أثرها في إرتباك القيادة المغولية فالهزيمة كانت مفاجاة من العيار الثقيل كما يُقال وتحدث لأول مرة تقريباً أو لنقل أول هزيمة قاسية في تاريخ المغول دمرت كل الجيش المشارك وثلثا جيش المغول أو بالأحرى الجيش " الإيلخاني ".
كاتب المقال الدكتور محمد شبانة المتخصص فى الآثار الإسلامية