100 عام من السعادة العربية.. صفاء أبوالسعود
ربما لو عرَّفنا الإنسان لكان منها، إنه الكائن الباحث عن السعادة، فهى المبتغى والمشتهى على الأرض وفى السماء، وفى الحياة وبعد الممات، وعلى بحثه هذا وعبر التاريخ كله، لم يعرف أحد السعادة كطريقة عيش وأسلوب حياة، إذ تأتى فى لحظة قد تغير الدهر كله، لكنها تظل مجرد لحظة.
وعلى ندرة السعادة، علـى كثــرة خــالقيها وصانعيها، فكثيرون من الساسة والمفكرين والأدباء والفنانــين والأطباء والمعمــاريين والحرفيين، أعطــونا سعـادة ما، سعـادة روحية وعقليـة وفكــرية ونفسيــة وجسـدية، بأفكــارهم ومواقفـهم وأعمــالهم، التــى أنــارت عقـولا، وأبهجت قلـوبا، وطببــت آلاما، وأضاءت آمالا، وأراحت نفوسا، وألهمت مخيلات، وأمتعت الأعين والآذان، فأخذوا مكانهم فى حياتنا، كرواد للبهجة والفرحة.
وبسبب كثرتهم بحثنا عن صناع السعادة العربية فى المائة عام الأخيرة فقط، وليس عبر التاريخ كله، وبسبب كثرتهم لم نعتمد قائمة تنازلية أو تصاعدية، فالترقيم الموجود على هذه الحلقات، ترقيم لضرورة صحفية فقط.
إلى هذا فإن «الأهرام العربى»، تهدى هذه الحلقات، لكل الذين صنعوا السعادة العربية، ولكل الذين يبحثون عن السعادة ، لعلها تتحقق فى هذه الحلقات، أو لعل هذه الحلقات تحفزنا للبحث، ولو عن لحظة سعادة.
وردى.. وردى
ارتبطنا بها فى مواعيد فرح، لكنها لم تكن قط فنانة مناسبات محددة، ينتهى أثرها بعد انتهائها.
وهكذا فإننا وفى كل عيد، نستدعيها لنردد معها “العيد فرحة”، لكنها أيضا هى التى تستدعى فينا “عيد الفرحة” فى كل لحظة نتذكرها فيها، أو حين تطل علينا من خلال أعمالها الفنية المتعددة، التى وضعتها كنجمة مختلفة، وسط العديد من النجمات فى تاريخ الفن المصرى والعربى.
مختلفة كإنسانة، فلم نسمع عنها قط، ما يؤذى ويأذى، ومختلفة كفنانة، فكل ما قدمته فنا، كان نابعا من قناعتها وضميرها الفنى، وكإنسانة وفنانة صنعت تاريخا ورديا خاصا اسمه صفاء أبو السعود.
أسست صفاء أبو السعود لتقاليد فنية فى مسيرتها الفنية ، لكنها قط لم تكن نمطا حبيسا فى دوائر ضيقة. فمن التقاليد التى نعرفها جميعا، ارتباطها بالعيد، وارتباط أجيال عدة بها، من خلال أغنيتها الشهيرة “أهلا بالعيد”، وهو ارتباط جعل من الأغنية، فرحا خاصا، وشخصيا فى حياة كل واحد منا نحن الجيل الذى أحب صفاء، ثم وياللغرابة جعل الأغنية سلوى لحزانى فقدوا مع قسوة الحياة وتبدلها حتى فرحة العيد، التى لم تعد تحس وتمارس، إلا فى ابتسامة ما، نشعربها ونحن نسمع الأغنية، ولوعرضا، فكأن من شاب قلبه، أو كبرت روحه، أو وهنت عظامه، يسترجع شعوره ومشاعره الغائبة أو اليابسة من خلال صوت صفاء ودلالها وابتسامتها. فهل كانت أغنيتها أهلا بالعيد مجرد مناسبة نمطية، أم عنواناً دائماً للإحساس بالسعادة ولو فى لحظة، وبالفرح وإن غاب أوضاع؟
...
مع محاولات التنميط وبعضها غيرمقصود، حاول كثيرون أن يحبس صفاء فى أغنية العيد، متناسين أو ناسين أنها قدمت من خلال رحلتها الغنائية للكبار والصغار، أغانى لا تقل روعة وتأثيرا، ومنها مثلا أغنية “وردى.. وردى”.. التى تعد واحدة من أروع الأغانى التى تعلم وتعمق الوطنية فى أنفس الأطفال والناشئة، ما يجعل من صفاء، واحدة من أروع الفنانات، التى أثرت فى عالم الطفولة وطنيا وإنسانيا، خصوصا أن صفاء كانت تستهدف الغناء للأطفال كرسالة ومنهاجا فنيا، ولم يكن غناؤها للأطفال استثناء ولو كان جميلا، كما فعل معظم الفنانين.
....ومع محاولات التنميط، حاول آخرون حبسها أيضا فى كونها فنانة للأطفال- وهو أمر رائع فى حد ذاته، لكن صفاء فنانة شاملة بكل المقاييس، فعلى المسرح بدأت نجمة مع ثلاثى أضواء المسرح، وقدمت معهم العديد من المسرحيات التى أضحكت مصر كلها، مثل “مزيكا فى الحر الشرقى”، لكن اللافت للنظر أنها غيرت من المفاهيم الشائعة حول “الكوميديانة”، والتى غالبا لم يكن لها حظ من الجمال، أو كان يفضل تقديمها بغير حظ من الجمال، حتى لتغييرمكياجها، لكن صفاء كانت الكوميديانة الفاتنة، وأتحدى أن تكون هناك نجمة تشبه فى ملامحها صفاء، ذلك أن صفاء لا تشبه فى ملامحها ولا فى روحها واحدة، ولو كانت نجمة.
...
لكن صفاء ليست كل ذلك فقط، فقد قدمت أيضا على الشاشتين الكبيرة والصغيرة، أعمالا عدة حققت نجاحات كبيرة، مع نجوم ونجمات كبيرات، لكن أكثر ما استوقفنى فى مسيرتها هو مسلسل “غوايش”، الذى مثلت فيه شخصية غوايش كواحدة من أجمل أعمالها الفنية، وأن أتذكر تماما أن الناس فى الصعيد كان يضبطون مواعيدهم على مشاهدة المسلسل.
....
لكن هناك مسلسلا آخر، لم يأخذ حقه حتى الآن من التقدير، خصوصا من الحركة النسوية، وهو مسلسل “هى والمستحيل”، الذى قدمت فيه شخصية فتاة ثم زوجة أمية لا حظ لها من التعليم، والذى تسبب فى طلاقها، لكنها وبإصرار وتصميم، تتقدم لتنال حقها من الحياة فتتتعلم وتتثقف، حتى تصبح نموذجا للمرأة كما يجب أن تكون.
...
هذا المسلسل الذى عرض عام 1979، هو نموذج لمصطلح “تمكين المرأة” وقبل حتى أن يعرف أو ينتشر هذا المصطلح، ونموذج لتحدى الحياة ومستحيلاتها، لدرجة أن كثيرات من فتيات وسيدات مصر، استلهمن شخصة “زينب” التى أدتها صفاء، ونجحن فى تغيير حياتهن جزئيا أو كليا، فى نموذج كامل وواضح لكيفية تأثير الفن على حيوات الناس. ولو لم تقدم صفاء سوى شخصية زينب فى مسيرتها الفنية لكفتها زينب.
...
روعة المسيرة الفنية لصصفاء، تتسق مع جمال حياتها الشخصية، فعلى ثرائها لم نسمع عنها ولم نرها، فى تلك المواقف مواقف” محدثى النعمة”، ولم نرها متباهية أو متفاخرة، ولم نشهدها فى مناسبة عامة أو خاصة، فى حالة استفزاز أو استهتار أو عدم مسئولية، لعل ذلك يرجع، إلى أنها وحسب التعبير الشعبى “بنت أصول” أو “شبعانة من بيتهم”، فقد نشأت فى أسرة ثرية وكتفية وتحت رعاية مباشرة من أبيها اللواء عبد المنعم أبوالسعود، والذى شجعها على دخول عالم الفن وقدم لها أفضل نصيحة، وهى ضرورة دراسة الفنون كشرط للتقدم والتأثر، فدرست مبكرا فى الكونسرفتوار، والمعهد العالي للسينما، لتصبح فيما بعد درسا لنموذج الإنسانة والفنانة التى تجعل الحياة “وردى.. وردى”