بعد إبادة البشر واقتلاع الشجر.. جاء الدور على هدم الحجر.. مشروع صهيونى لطمس الهوية الفلسطينية وسرقة التراث
لم يكتف العدوان الإسرائيلى على غزة منذ 7 أكتوبر 2023، بالمجازر والتدمير والتخريب فى القطاع، لكنه حريص فى الوقت نفسه يعمل وبقوة على طمس الهوية الثقافية والتاريخية الفلسطينية فى غزة، والضفة الغربية، فى محاولة منه لمحو كل ما هو فلسطينى واستبداله بتاريخ مزيف، مما دفع وزير الثقافة الفلسطينى، عاطف أبو سيف، إلى وصف ذلك بالمشروع الصهيونى القائم على محو الذاكرة الفلسطينية، من خلال سرقة التراث.
وكانت وزارة الثقافة الفلسطينية، قد أصدرت تقريرًا رصدت فيه أبرز المعالم الثقافية والمبانى التاريخية والأثرية، التى دمرها الاحتلال فى غزة والضفة الغربية خلال عام 2023، فضلا عن سرقة الآثار واغتيال وقتل فنانين وكتاب واعتقال بعضهم.
فى خطوة من جامعة الدول العربية، للحفاظ على الهوية الثقافية الفلسطينية، ودحض الخطط الصهيونية، أقامت الجامعة أخيرا فاعلية "إحياء وحماية التراث الثقافى لدولة فلسطين"، للتأكيد على وقوفها ضد أى محاولة لسلب الهوية الثقافية والتاريخية لأهل غزة وفلسطين، وتقديم كل وسائل الدعم لهم، من جهتها أكدت الأمين العام المساعد رئيس قطاع الشئون الاجتماعية بجامعة الدول العربية، السفيرة هيفاء أبو غزالة، أن الجامعة تضع حماية التراث الثقافى العربى، ضمن أهم أولويات اهتماماتها، وتحرص دائما على إحياء يوم التراث العربى، وأضافت أن الأمانة اختارت هذا العام موضوع حماية وإحياء تراث فلسطين، نظرا لما تمر به، خصوصا قطاع غزة، من تدمير وانتهاكات بشتى الطرق من قبل الاحتلال الغاشم بما فى ذلك التراث الثقافى، والتراث يعنى الهوية على حد قولها، مشيرة إلى أن الاحتلال يستهدف طمس الهوية العربية الفلسطينية، بل ويحاول نسبها له.
وأضافت السفيرة هيفاء أبو غزالة، أنه لا يمكن الحديث عن مستقبل الأمة ومصيرها، دون التطرق للأحداث المؤلمة التى خلفتها وتخلفها النزاعات المسلحة من أزمات على كل
المستويات، بما فى ذلك دمار واستهداف الإرث الثقافى، فى ظل غياب الأمن الناتج عن عدم الاستقرار السياسى، وكشفت عن أنه ومنذ بداية الاحتلال جرت على هذه الأرض الكثير من الأحداث، ما بين تهويد، وتهجير، وطرد، وهدم، وقتل، وسرقة تراث، وتحريف اللغات، وتحويل أسماء المدن والشوارع إلى مفردات عبرية، وتطرقت إلى أن أهمية التراث الفلسطينى، تأتى من منطلق أنه الهوية التى تميز الأرض وأهلها عن غيرها، وهو ما يعطيها القيمة الحقيقة للوجود الحضارى والفكرى فى تاريخ الأمم ومستقبلها، وسرقة التراث أو تزويره هو بمثابة سرقة لتلك الأرض، فأرض فلسطين - على حد قولها - لها تاريخ وحضارة شعبية، فهى مهبط الأديان السماوية ولها معالمها ومواقعها التراثية العريقة، وطقوسها، وعاداتها، ومأكولاتها، وفنها وغناؤها. وفى ضوء ذلك، يأتى الدور المهم علينا وعلى كل فلسطينى وعربى، سواء كان فى فلسطين أم فى الشتات بأهمية معرفة تراثه وهويته، وتعليمه لأبنائه، وتوريثه بين الأجيال، وعدم تركه شيئا هينا للمحتل، لاسيما أن الهدف من إحياء التراث فى تلك الفترة التى تمر بها دولة فلسطين، هو شحذ الهمم واستنهاضها، وتنفيذ أفضل المبادرات والممارسات، التى من شأنها أن تصب فى حماية تراثها الذى تدمره الآلة الصهيونية الحاقدة.
وأكدت السفيرة هيفاء، أن الاحتلال ليس قمعا وإبادة وبناء مستوطنات فقط، بل هو محاولات مستمرة لقلب الحق باطل، وتزييف وسرقة الهوية والتراث وتدمير الآثار، ودورنا هو العمل على حفظ الآثار والتراث الفلسطينى الذى هو تراث عربى، وأعربت عن أملها فى أن يتم الخروج برؤية تسهم فى الحفاظ على التراث الثقافى الفلسطينى، وذلك بتضافر الجهود الدولية والعربية، ومنظمات المجتمع المدنى والأكاديميين والمتخصصين.
حماية الهوية
وفى السياق ذاته، شدد الوزير المفوض حيدر الجبورى، مدير إدارة شئون فلسطين قطاع فلسطين والأراضى العربية المحتلة، على أن الثقافة لعبت دورا بارزا فى حماية الهوية الوطنية للشعب الفلسطينى بكل مكوناتها، فمن خلالها حافظ على تقاليده وموروثه الثقافى، وممتلكاته الحضارية ومقدساته وقيمه وسلوكه، معتبرا أن هذا الشعب حرم طويلا من مؤسساته الثقافية التى تعنى بالتراث، بسبب ما تقوم به سلطات الاحتلال من جرائم بحق الممتلكات الثقافية والتاريخية والدينية، الأمر الذى يضع علينا واجبا كبيرا نحو حمايتها، وفضح ممارسات الاحتلال تجاهها.
وأوضح حيدر الجبورى، أنه أصبح من واجب جميع المؤسسات الأممية والإقليمية المعنية، بموجب اتفاقية حماية التراث العالمى، مد يد العون المادى والفنى لترميم المعالم التاريخية المهددة بالخطر، فهناك آلاف المواقع والمعالم الأثرية عزلها جدار الفصل العنصرى، إضافة إلى عشرات المواقع التى دمرتها مسارات الجدار والاستيطان، كما أن القطاع الثقافى الفلسطينى والممتلكات الثقافية فى قطاع غزة، تعرضت لتدمير شامل وممنهج، نتيجة العدوان الإسرائيلى الغاشم المتواصل منذ السابع من أكتوبر 2023، كما يواجه الموروث الثقافى فى الضفة الغربية مخاطر كبيرة نتيجة استفحال ظاهرة سرقة الآثار وتدميرها، وهى مرتبطة بمجموعات إسرائيلية تقوم بسرقة الآثار، ويدفع الاحتلال مبالغ مالية كبيرة لتجار إسرائيليين يتجولون فى القرى الفلسطينية، وينهبون المناطق الأثرية فى الضفة الغربية المحتلة، لصالح متاحف الاحتلال التى تقوم بشرائها وعرضها على أنها آثار إسرائيلية.
وأشار الجبورى، إلى أنه ومنذ الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين سنة 1948م، أصبحت مدينة القدس إلى جانب المدن والقرى الفلسطينية رمزا للصراع الثقافى، حيث قام الاحتلال الإسرائيلى بتغيير ملامح فلسطين العربية ومعالمها الجغرافية والدينية والمعمارية والسكانية، وبدأ بسلسلة جرائمه المشهودة بهدم المنازل، والاستيلاء على الأملاك الخاصة والعامة، ومصادرة الأراضى، وإغلاق المدارس والمراكز التعليمية والثقافية والمواقع التراثية والأثرية، والتدخل فى المناهج التعليمية، والاستيلاء على الكتب والمخطوطات والخرائط، والاعتداء على دور العبادة الإسلامية والمسيحية، وإصدار الأوامر العسكرية وتعديل التشريعات النافذة فى محاولة منه لتبرير اعتداءاته على المدينة، وانتهاكاته للأعراف والقوانين والمواثيق والاتفاقيات الدولية.
ونوه الجبورى، إلى أن الموروث الثقافى يتمتع بحماية خاصة فى القانون الدولى الإنسانى، وتشكل مجموعة الاتفاقيات والمعاهدات الدولية والقوانين والأنظمة الوطنية على مستوى الدول، الإطار العام لحماية التراث الثقافى على الصعيدين الوطنى والدولى، ومنها اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بالنزاع المسلح، ومعاملة المدنيين وقت الحرب الموقعة عام (1949م)، التى تمنع ارتكاب أية أعمال عدائية موجهة ضد الآثار التاريخية، أو الأعمال الفنية، وأماكن العبادة التى تشكل التراث الروحى للشعوب، إضافة إلى اتفاقية لاهاى والبروتوكولات التابعة لها، وبرغم ذلك يضرب الاحتلال، بالقانون الدولى الإنسانى عرض الحائط، فلم يكتف فقط بسرقة الأرض بل اقتلع أشجار الزيتون التى يزيد عمرها على آلاف السنين، ودمر مبانى يزيد عمرها على مئات السنين، فى المدن الكبرى مثل القدس ونابلس والخليل، كما لم تسلم رفات الأجداد واللقى الأثرية، من السرقة، التى تدل على وجود الشعب الفلسطينى على مدار التاريخ على أرض دولة فلسطين.
وأضاف الجبورى أن القطاع الثقافى الفلسطينى، والثقافة العربية خسرت قامات أدبية وفنية كبيرة، لها دور كبير فى رفعة وتعزيز الثقافة العربية وحضور فلسطين فى المحافل الأدبية والفنية، حيث استشهد 41 فنانا وكاتبا وناشطا ثقافيا فى استهدافات الجيش المختلفة فى مناطق قطاع غزة، كما تضررت المراكز الثقافية والمبانى التاريخية، ودور نشر والمطابع، كما تعرضت معظم أجزاء البلدة القديمة لمدينة غزة، إلى أضرار عديدة إضافة إلى هدم وتدمير مساجد وكنائس مثل كنيسة القديس برفيريوس العريقة، وأسواق ومدارس تاريخية، وميناء غزة القديم، وتحولت العديد من المؤسسات الثقافية لمراكز إيواء للنازحين، فى محاولة لطمس الوجود الثقافى والتراثى الفلسطينى.
تطهير عرقى
وفى سياق متصل، كشف السفير مهند العكلوك، المندوب الدائم لدولة فلسطين لدى جامعة الدول العربية، أن إسرائيل تستمر فى إخضاع الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة للتجويع، وأن الأطفال والنساء وكبار السن يقتلون جوعا، علاوة على قتلهم وتدمير بيوتهم ومدارسهم ومساجدهم ومستشفياتهم بما يعادل 69 ألف طن من المتفجرات.
وأوضح العكلوك، أن إسرائيل ترتكب جريمة تطهير عرقى على مدار أكثر من 76 عاما، ضد الإنسان الفلسطينى، قاصدة قتله وتدميره ماديا ومعنويا، ومحو أثاره وتراثه وطمس هويته وثقافته، بهدف اقتلاعه من أرضه وسرقة الجغرافيا والتاريخ، والرواية والسردية التى ربطته بأرضه على مدار أكثر من 4500 عام، مشيرا إلى أن جامعة الدول العربية، أقامت قبل أشهر قليلة معرض النقوش الفلسطينية القديمة، التى يعود تاريخ بعضها إلى 2500 عام قبل الميلاد.
وشدد العكلوك، على أن إسرائيل تتعمد تدمير المنظومة الصحية عبر تخريب 31 مستشفى و53 مركزا، أخرجتها جميعا عن
الخدمة، والاقتصاد الوطنى عبر تدمير معظم المصانع والمراكز، كما سعت إلى طمس ثقافة وتراث الشعب عبر التدمير الكلى أو الجزئى، بالإضافة إلى سرقة وتدمير آلاف القطع الأثرية، واللوحات الفنية والأثواب والمطرزات الفلسطينية والآلات الموسيقية القديمة.
واتهم العكلوك العالم، بالعجز عن وقف تلك الإبادة الجماعية ففى الوقت الذى يجب أن تسلم فيه إسرائيل التقرير المطلوب منها، حول التزامها بالتدابير التى طالبت بها محكمة العدل الدولية، ارتكبت من بعده عدة مجازر وإبادة جماعية.
سلب الهوية
ولم تبتعد الدكتورة أميرة الفاضل، مستشار المدير العام لمنظمة «الإسيسكو»، عن هذه الرؤية من تأكيدها على أن الاحتلال يسعى بكل ما أوتى من قوة إلى طمس الهوية الفلسطينية، ضاربة عرض الحائط بجميع المواثيق والاتفاقيات الدولية بشأن حماية الممتلكات الثقافية وقت النزاع المسلح، حيث إن إسرائيل تنتهز الفرص لسلب الهوية الثقافية الفلسطينية، منتهزة كل الفرص لتحقيق هذا المخطط البغيض، الذى كان حرق المسجد الأقصى، الحدث الأكثر بروزا فى طريق هذا المخطط، وأخيرا جاءت الحرب على غزة، وما يقوم به الاحتلال من تدمير.
وأضافت أنه ومنذ إنشاء منظمة الإسيسكو، لم تأل جهدا فى حماية التراث الفلسطينىى، لذا أنشات إدارة القدس، التى كان الهدف الأساسى منها الحفاظ على الهوية الثقافية الفلسطينية، وعلى رأسها التراث الذى يحرص الاحتلال على هدمه، وليس أدل على ذلك من هدمه المتعمد لكل ما يتعلق به فى حربه البربرية على غزة ولهدمه لأكثر من 230 مبنى تراثياً فى القطاع .
ومما لاشك فيه، حسب قول الدكتورة أميرة الفاضل، أن هذا التوجه للاحتلال وكل محاولاته لطمس الهوية الفلسطينية لقطاع غزة، ستضيع سدى، حيث تحرص الإسيسكو، على تسجيل كل المواقع الأثرية الفلسطينية بغية الحفاظ عليها، وإعادة ترميمها اعتمادا على ما تم توثيقه فور انتهاء الاحتلال، كما قامت بتكوين لجنة لحصر الانتهاكات الفنية حول المسجد الأقصى، واستطاعت إخراج عدد من التقارير المهمة التى تهتم بالحفاظ على التراث الفلسطينى، وذلك بالتعاون مع كل المنظمات العالمية.
النزاع المسلح
من جانبه أكد الدكتور أيمن عبد المحسن، مدير إدارة المشروعات بمنظمة اليونسكو، على أنه من المهم أن نعترف بالتحديات التى تواجهنا فى حماية التراث الثقافى بشكل عام، خصوصا فى ظل آلة النزاع المسلح لاسيما فى فلسطين، حيث سعت اليونسكو بكل الوسائل المتاحة إلى الحفاظ على الهوية الثقافية الفلسطينية، وذلك ضمن خططها الدائمة فى هذا المجال والمتنوعة، ولعبت دورا مهما فى الاعتراف بأهمية التراث الثقافى الفلسطينى على الساحة الدولية، وأدرجت العديد من المواقع ضمن التراث الثقافى العالمى، فإننا نحتاج إلى المزيد من التعاون بين المنظمات لتعزيز حماية الهوية الثقافية.