الشاعر جمال بخيت: أعمال «عمر خيرت» متجددة تناسب كل الأعمار
من أهم الموسيقيين المصريين في العصر الحالي
يوسف شاهين كان يفخر به أمام موسيقيي فرنسا
من أهم الأغنيات التى يحفظها الجمهور عن ظهر قلب، أغنية "المصري" التى غنتها المطربة لطيفة فى فيلم "سكوت هنصور" الأغنية كتب كلماتها الشاعر جمال بخيت بناء على طلب يوسف شاهين، ولحنها ووزعها الموسيقار عمر خيرت، وجاءت كأفضل أغنية وطنية تحاكى رموز مصر فى مطلع الألفية، وكانت التعاون الأول والأخير بين كلمات جمال بخيت وموسيقى عمر خيرت، وعن ملابسات وكواليس تلك الأغنية التقينا الشاعر جمال بخيت، ليحكى لنا القصة من أولها فى الحوار التالى.
يقول بخيت: برغم مرور ربع قرن على ظهور أغنية "المصري" للنور فإن كواليس صناعتها لا تزال محفورة فى ذاكرتى وكأنها بالأمس، خصوصا أن لهذه الغنوة قصة طريفة، ففى صبيحة أحد الأيام اتصل بى الأستاذ خالد يوسف مساعد المخرج وقال الأستاذ يوسف شاهين فى انتظارك اليوم بمكتبه لأمر مهم، ذهبت إليه فحكى لى أنه بصدد عمل فيلم ويريد أغنية عن مصر فيها تنوع، وبالفعل بدأنا العمل وطبعاً العمل مع شاهين متعب جداً ونقاشاته كثيرة، ويتدخل فى تغيير حرف أو كلمة وغيرها، إلا أننا بعد ثلاثة أشهر من العمل الشاق والخلافات والخناقات، وصلنا للكلمات التى رضى عنها يوسف شاهين، بعد حوالى شهر جاءنى اتصال آخر من مساعد شاهين، ويقول إن أستاذ يوسف يريدك فى بيته بالزمالك، ذهبت إليه فوجدته يبتسم ويقول لدى خبران واحد سيئ والآخر جيد، وتابع حديثه أن الخبر الجيد أنى مسافر لأوروبا لمدة شهر يعنى هترتاح منى شوية، أما الخبر السيئ فهو أن عليك نسيان ما كتبناه سابقاً، وأريدك أن تكتب كلمات جديدة فيها كل رموز مصر وأمامك شهر حتى أعود، فى تلك اللحظة توقف عقلى عن استيعاب باقى الكلمات، فقد قررت أن أمشى من هذا المكان وفى الغد سوف أتصل بـ جابى خورى وأعتذر عن العمل، لأنى لا أستطيع ترجمة أفكار متغيرة كل لحظة، وبالفعل غادرت بيت شاهين وكان لدى بعض الارتباطات التى شدتنى وأنستنى يوسف شاهين وكلامه فلم أتصل بـ جابي، لكن بعد أكثر من شهر فوجئت مرة أخرى بمساعد شاهين يتصل ويقول إن الأستاذ سيصل غداً على طائرة الساعة 11 صباحاً ويريد أن يقابلك الساعة 5 بعد العصر، وللحقيقة أود أن أذكر أنه أثناء العمل الوقت عند شاهين غير محدد، بمعنى أنه يريد أن يعمل 25 ساعة فى اليوم كيف لا أدري، المهم وقفت أفكر أنا لم أعتذر ولم أكتب شيئاً فماذا أقول له، المهم بدأت فى البحث عن أى شيء كتبته فى هذا الصدد فوجدت "مذهب" لأغنية كنت قد بدأتها بالفعل منذ قرابة عام لكن المشروع توقف، أخذت الكلمات وكانت عبارة عن مذهب والكوبليه الأول فقط، وذهبت لمقابلة شاهين الذى ما إن رآنى حتى بادرنى بالقول ماذا فعلت فيما طلبته منك، قلت له أنت طلبت أغنية عن مصر ورموزها وأنا كتبت بعض الكلمات اسمعها ونناقشها مع بعض، فكنت ألقى الكلمات وكأنها تخرج من فمى بإحساس مليء بالحب "تعرف تتكلم بلدى وتشم الورد البلدى وتعيش الحلم العصرى يبقى أنت أكيد المصري" ثم وصلت للكوبليه «المصرى حبيب متحمس لو حتى بدقه يغمس لو جاله حبيب يرتاحله، لو جاله حسود بيخمس وتوقفت، وجدت يوسف شاهين ينزع عن عينيه النظارة الطبية ويجلس القرفصاء على الأرض، ويقول أعيد الكلمات مرة أخرى، وما إن أبدأ فى القراءة حتى يقوم من الأرض ويجلس على المكتب، ثم يقف ثم يجلس ويقول أعيد الكلمات قرابة العشر مرات وتعبيرات وجهه تبتسم، ثم تتوقف ثم تعود للابتسامة وكأنه طفل محروم من اللعب، ذهبوا به إلى أكبر محل لبيع اللعب وقالوا له اختر اللعبة التى تريدها، فذهل من كل شيء، ثم صرخ فى وجهى كيف توصلت لما أريده بهذا الشكل المذهل ؟ المهم أنه لم يغير فيها حرفا واحدا وكان فى حالة من الانبهار، ثم أضفت لها بعض الكلمات فى النهاية التى حققت حلم شاهين، مثل محفوظ بيغنى يا ليل على دقة قلب زويل وحليم فى الهوا دوبنا على أد الشوق والميل ويا ويل من ينسى يا ويل ثومة ومنديلها الوردى ..إلخ.
يواصل بخيت: بعد فترة اتصل بى شاهين وقال تعال قابلنى فى ستديو عمر خيرت فذهبت إلى هناك وتقابلنا أنا وشاهين ولطيفة وعمر خيرت، الذى رحب بنا ثم قال أنا أكملت "الديموه" وهو اللحن المبدئى فسمعنا اللحن وكأن الدنيا ذهبت بنا إلى كوكب آخر، وعندما خرج عمر خيرت من الغرفة سألنى شاهين ما رأيك قلت لم أكن أتصور أن تضيف الموسيقى للكلمات بهذا الشكل، فعمر خيرت أبدع فى اللحن بالكامل واختار الجمل الموسيقية المناسبة لكل حرف فيها، لدرجة أنى لم أكن أتصور ذلك، وكرر السؤال على لطيفة فقالت أكثر من رائع.
بعد أن انتهى عمر خيرت من اللمسات النهائية للحن – الكلام لبخيت - سافر مع شاهين ولطيفة لتسجيل الأغنية فى باريس، وهناك جاءوا بأوركسترا سيمفونى كاملاً، وتم التسجيل وعاد به شاهين إلى مصر، وعندما قابلته سألته عن التسجيل فأسمعنى، وبعد أن انتهيت، توقف شاهين وقال سأخبرك بشيء مهم فنظرت له ولم ينتظر منى كلمة، وأكمل عندما قرأ الفرنسيون النوتة وجاءوا بكل العازفين فى الأوركسترا، كانوا منبهرين أثناء العزف من دقة التوزيع والجمل اللحنية الصحيحة والوقفات فى المكان السليم والهارمونى لدرجة أنهم كانوا غير مصدقين أن لحناً وتوزيعاً مثل هذين يخرجان من المنطقة العربية، لكنهم انبهروا عندما كان عمر خيرت يناقشهم، ولا تتصور شعورى وقتها.. كنت أشعر بالفخر والكبرياء وأنا أستمع لكلماتهم وثنائهم على اللحن ودقة التوزيع، تخيل أنت عندما تستمع لتلك الشهادة من أشهر عازفى الموسقى فى العالم لصالح موسيقار مصرى.
يقول بخيت: فى رأيى أنه بعد جيل الخمسينيات المتمثل فى كمال الطويل ومحمد الموجى وبليغ حمدى، كانوا أساتذة كباراً يمتلكون الفكر الموسيقى وليس الجملة اللحنية فقط، لذلك أرى أنه بعد هؤلاء العظماء ظهر فى مصر جيل آخر من الملحنين مثل فاروق الشرنوبى وصلاح الشرنوبى ورياض الهمشرى وسامى الحفناوى وغيرهم، لكن هناك ثلاثة أسماء أعتبرهم أهم الموسيقيين وليسوا ملحنين فقط، بمعنى أنهم من يحملون الراية بعد الثلاثة الكبار "بليغ والموجى والطويل" هؤلاء هم عمار الشريعى وعمر خيرت وياسر عبد الرحمن، فعلى سبيل المثال عمر خيرت يستطيع أن يلحن ويوزع ويؤلف فى نفس الوقت ولديه حس فنى بما يقدمه، لذلك يعتبر علامة مميزة فى عالم الموسيقى، فلم يكرر نفسه فى أى لحن رغم غزارة إنتاجه المتنوع ، أضف إلى ذلك أن عمر خيرت هو الوحيد الذى استطاع أن يعيد الجمهور إلى المسرح للاستماع للموسيقى فقط دون أغنيات، وعليك أن تشاهد حفلاته فى الأوبرا على سبيل المثال لا يوجد كرسى خالِ، الكل جاء ليستمتع بموسيقى عمر خيرت التى تناسب كل الأجيال، لذلك فهو فى مكانة متفردة.