عمر خيرت.. إبداع تخطى حدود الزمن.. الإنسانية همي وشاغلي الأول ومن أجلها سلكت طريق الموسيقى
كل الجينات الفنية انتقلت إلي من جدي وأعمامي وأبي لتسكن في قلبي وروحي
جدي لأبي أحد أعمدة نهضة مصر وكان يتردد على صالونه كبار القامات مثل سيد درويش والمنفلوطى ومحمود مختار
محمود خيرت صاحب أول رواية مصرية حديثة وليس محمد حسين هيكل كما هو شائع
أبو بكر خيرت مثلى الأعلى ومنذ بدايتى أسعى لاستكمال مسيرة النهضة الموسيقية التى ابتدأها
رفضت نصيحة أهلى وتركت البيانو لأصبح عازف درامز
فاتن حمامة صاحبة فضل كبير ولولاها ما وصلت أعمالى للناس
"غوايش" كشفت للموسيقيين أكذوبة "الرجل الخواجة"
كلمة "النخبة" سبة فى حق المؤلف الموسيقى ولذلك تمنيت أن أكون فنان الشعب
"ديانا كالنتى" كانت خطوة مهمة لى نحو العالمية
تعددت إبداعاتى ما بين التأليف والموشحات والموسيقى التصويرية والتلحين والتوزيع والباليه والفوازير
ربما يتعجب الكثيرون عندما تقع أعينهم على عنوان "المتمرد" الذى يتصدر غلاف كتاب يحمل صورة وسيرة الموسيقار عمر خيرت، فكيف يمكن لهذا الموسيقى الوقور، ذى الملامح الهادئة وقليل الكلام والظهور فى الإعلام أن يكون متمردا؟ حتى صورته التى اعتاد الناس على رؤيتها فى حفلاته، وهو يجلس إلى البيانو صامتا، لا يشعر بمن حوله بعد أن دخل فى حالة من الانسجام مع نغماته التى يغزلها بأصابعه بعد أن شكلها بروحه، فتحتضنها كل الآلات الموسيقية التى تشكل فرقته الموسيقية بكل الود والحب، لتخلق حالة من الصفاء الذى يستسلم له جميع الحضور، فكيف إذن لهذا الراهب فى محرابه أن يكون متمردا؟
هذا العنوان يضع القارئ فى حالة من التشوق، ليس فقط بحثا عن إجابة لهذا السؤال، لكن لمعرفة الجوانب الخفية فى حياة هذا الموسيقى الذى يعشقه الملايين فى كل مكان، ولا يعرفون الكثير عن حياته لقلة أحاديثه عنها، وكل علاقتهم به من خلال موسيقاه التى سكنت قلوبهم وعقولهم، بصورة جعلتهم يميزون أعماله من بين كل ما يطرح من أعمال موسيقية، لأن لها بصمة خاصة، فما إن يستمعون إليها حتى تتطابق نغماتها مع هذه البصمة التى حفرت بداخلهم لأعماله، فيتعرفون عليها فى الحال.
يستهل عمر خيرت كتابه الذى صدر عن دار "نهضة مصر" فى 312 صفحة وحرره محمد الشماع بمقولة تلخص رحلته مع الحياة يقول فيها "أشعر أننى سلكت طريقا مهما جدا للإنسانية، رأيت نجاحا من خلاله، وسأستمر بذلك طالما استطعت" فهو فى هذه الكلمات القليلة يكشف أن الإنسانية همه وشاغله الأول، ومن أجلها سلك طريقه مع الموسيقى وبها حقق نجاحه، متعهدا بأنه سيواصل الرحلة من أجلها.
لكن هل ذلك حدث بطريق المصادفة أم هى جينات ورثها وتمكنت منه؟ يجيب صاحب هذه السيرة عن ذلك فى الصفحات الأولى من كتابه، وهو يستعرض تاريخ عائلته التى ترجع أصولها إلى خوقند فى آسيا الوسطى، لافتا النظر إلى أن جده الكبير قد جاء إلى مصر سنة 1850، وعمل خطاطا، فكانت له شهرة كبيرة بصورة جعلت الخديو سعيد يطلب منه أن يكتب اسمه على أزرار ضباط تشريفه الخديوي، ولأنه أدى مهمته بإتقان وأمانة وأرجع للخديوى ما تبقى من ذهب، منحه قطعة أرض فى منطقة بركة الفيل القريبة من السيدة زينب، فبنى فيها بيتا يعيش فيه هو وأبناؤه، وقتها كانت شبه خاوية، وما إن عمرت المنطقة حتى سمى الشارع باسم جده الأكبر خيرت، الذى لا يزال موجودا حتى اليوم، وفيه ولد عمر فى 11 نوفمبر 1948، ونشأ فى وسط عائلة مترابطة، يجمع أفرادها حب الموسيقى والفن والأدب حتى إن جده لأبيه "محمود" الذى كان من أشهر المحامين أهداه الموسيقار سيد درويش هدية كتب عليها "هدية لأخى الأستاذ محمود أفندى خيرت الأفوكاتو 18 إبريل 1920"، وبسبب مهارته فى عمله محامياً أبدى رغبته فى الدفاع عن سعد زغلول فى إحدى القضايا التى كان يود رفعها، مما دفع بزعيم الأمة إلى أن يرسل له خطاب شكر، ويخبره بحتمية اللقاء بينهما حتى يتبادلا الأفكار حول هذه القضية.
مبدع شامل
فهذا الجد كان أحد أعمدة نهضة مصر فى تلك الفترة، فعلاوة على حبه للموسيقى كان رساما ونحاتا وشاعرا وروائيا ومترجما، كما كانت له صداقات عديدة مع أصحاب الفنون الراقية مثل الفنان محمود مختار، الذى صنع له تمثالا من شدة صداقتهما، وكان منزله صالونا تجتمع فيه ألمع الأسماء ،سيد درويش ، محمود مختار، مصطفى المنفلوطي، وفيه التقى لأول مرة محمد عبد الوهاب بأم كلثوم، أثناء فترة صباهما وغنيا معا جزءا من أوبريت "العشرة الطيبة".
من المفاجآت التى يكشف عنها عمر خيرت، أن جده محمود خيرت يعتبر صاحب أول رواية مصرية حديثة، حيث كتب سنة 1902 رواية "الفتى الريفي" وأتبعها فى سنة 1905 برواية "الفتاة الريفية"، وبالتالى فقد سبق بهما رواية " زينب" لمحمد حسين هيكل، التى يؤرخ لها على أنها أول رواية مصرية بنحو 12 سنة.
الخلفاء الراشدون
بسبب إيمان جده بأهداف الفن وقدرته على إيقاظ النبوغ وتربية الذوق والوجدان، علم أولاده الأربعة الموسيقى منذ الصغر، والذين يحملون أسماء الخلفاء الراشدين، وهم عمر وأبو بكر وعثمان وعلى والأخير هو والد عمر خيرت صاحب هذه السيرة، على أن يحققوا أنفسهم فى أعمال أخرى غير الموسيقى ضمانا لمصدر رزق لهم، فصار والده على معماريا كبيرا له تصميمات لمساجد كثيرة فى مصر، وظل يترقى فى عمله حتى أصبح وكيلا فى وزارة الأوقاف، كما تفوق عمه أبوبكر خيرت فى الهندسة المعمارية، ويكفى أنه من صمم مبنى أكاديمية الفنون ومبنى معهد الكونسرفتوار فى الهرم، وأصبح أول عميد له، أما عمه عمر الذى سمى على اسمه، فقد شغل منصب رئيس قسم البكتريولوجيا بكلية الطب جامعة الإسكندرية، وصاحب اكتشاف العديد من الجراثيم وعلاجها، حيث كان يعمل فى لندن مع العالم الاسكتلندى الشهير ألكسندر فيلمنج مكتشف البنسيلين بإنجلترا، علاوة على أنه كان مهتما بالتصوير الفوتوغرافي، إذ قيل إنه كان واحدا من أفضل 10 مصورين على مستوى العالم، أما عمه عثمان فكان نابغة فى الأبحاث والدراسات الأنثروبولوجية والزراعية، نال عددا كبيرا من الجوائز.
وهكذا برغم اختلاف تخصصاتهم، لكنهم اجتمعوا معا على حب الموسيقى، ويبدو أن جيناتها قد انتقلت إلى عمر، خصوصا أنهم حرموا جميعا من نعمة الإنجاب باستثناء "على" والد عمر الذى أنجب خمسة من الذكور، هم محمود ومحمد وأبو بكر وعثمان وعمر صاحب هذه السيرة، وكأن كل جينات الموسيقى انتقلت من الجد والأعمام والأب لتسكن فى قلب وروح عمر خيرت، ولم لا وهو الذى سكن فى نفس البيت الذى تربى فيه كل هؤلاء الفنانين، يشرب من نفس الأكواب، ويأكل فى نفس الأطباق، ويستنشق الأنفاس التى استنشقوها، لذلك لم يتخيل نفسه إلا موسيقيا، حتى أنه كتب نصا فى كتابه قائلا "لا أكذب عندما أقول إن حب الموسيقى لدى موجود فى الشفرة الجينية، التى تتناقلها عائلتنا من جيل إلى جيل، نعشقها كما نعشق الحياة، نسمعها فى جنبات بيوتنا حتى التى انتقلت فيها بعد بيت خيرت بالسيدة زينب ونتذكرها دائما بالخير والبهجة".
لعب أطفال
عاش عمر سنواته الست الأولى فى بيت خيرت بالسيدة، ثم انتقل بعدها ليعيش فى حى الدقي، وفيه زاد ارتباطه بالبيانو، فقد كان والده المهندس فى وزارة الأوقاف، يخصص وقتا ثابتا لكى يعزف عليه، فكان عمر فى هذه السن المبكرة يقف إلى جواره، فينتشى بما يسمع من موسيقى شوبان وبيتهوفن وغيرهما من كبار الموسيقيين، فسكنت أنغام مقطوعاتهم الموسيقية داخله مما حرضه على محاولة عزفها سماعيا على البيانو، وكانت المفاجأة التى لاحظها كل من فى البيت، أنه يستطيع العزف، وأن مداعباته للبيانو لم يكن مجرد لعب أطفال بآلة موسيقية، ولكنه حتى فى ارتجاله تخرج نغ
مات تطرب لها آذانهم، لذلك ما إن بلغ الحادية عشرة من عمره حتى كان يعزف بشكل أكاديمى سليم، وكان قد التحق بمعهد الكونسرفتوار، بمساعدة عمه الموسيقار أبو بكر خيرت، الذى كان يعتبره المثل الأعلى له، ليس فقط فى الفنون والموسيقى ولكن كإنسان أيضا، لذلك تمنى أن يكون مثله ويسير على دربه لكن بأسلوبه الخاص، برغم التاريخ الكبير لهذا الرجل، وفضله الذى لا ينكره أحد فى تطوير الحركة الموسيقية فى مصر، إذ إنه أول موسيقى يضيع الموسيقى المصرية فى إطار سيمفوني، وأول من استخدم الألحان الشعبية المصرية فى مؤلفات اوركسترالية، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية فى التأليف الموسيقى سنة 1959 وهى نفس السنة التى التحق عمر فيها بمعهد الكونسرفتوار، ليكون ضمن أول دفعة، التحق به وهو لا يفكر إلا فى استكمال مسيرة النهضة الموسيقية التى ابتدأها عمه الذى كان يتعمد ألا يسلم عليه داخل المعهد، وأصر على رسوبه ذات مرة، لأنه عزف مقطوعة خارجة عن المقرر فى أحد الاختبارات، وبرغم الإعجاب الشديد بعزفه من الممتحنين الأجانب، لكن ذلك لم يمنع عمه من قراره، وهو يقول له " مشكلتك أنت بالذات ليس لها حل ولا أستطيع التدخل فيها لأنك قريبي"، وحتى يطيب خاطره أعطاه خمسة جنيهات ففرح عمر ونسى بها أمر النجاح والرسوب.
موسيقى بالمراسلة
طوال فترة دراسته بالمعهد توطدت علاقته بالموسيقى، ولم يعكر صفو حياته فى تلك الفترة إلا وفاة عمه أبو بكر بشكل مفاجئ فى 25 أكتوبر 1963، فكان هذا الحدث هو الأقسى عليه فى هذه المرحلة من عمره، وزاد من مرارة الأمر أن والده طلب منه ألا يعطى كل وقته للموسيقى، لأن مستقبلها غير مضمون فى مصر وعليه أن يدرس الهندسة بجانبها، كما طالبه بعدم مواصلة الدراسة بالكونسرفتوار، حتى لا يصبح الضحية لمن يريدون الانتقام من عمه فى شخصه، والذين يهمهم محو اسم خيرت من المعهد تماما، لكن عمر لم يجد نفسه قادرا على دراسة شيء غير الموسيقى، وإن كان أخذ بنصيحة والده بالبعد عن الكونسرفتوار، واختار وقتها أن يكمل دراسته بالمراسلة مع "ترينتى كوليدج أوفميوزك" الإنجليزية، وحصل منها على دبلوم فنى العزف والنظريات الموسيقية، كما عاد بعد فترة لمواصلة الدراسة بالكونسرفتوار.
شيء لا يصدق
إذا كانت ملامح التمرد داخل عمر خيرت، بدأت برفضه دراسة أى شيء يبعده عن الموسيقى، رغم أن أباه وأعمامه وجده لم يفعلوا ذلك، فقد أخذ التمرد بداخله يكشف عن وجهه بقوة فى فترة الستينيات، التى كانت تشهد زخما حقيقيا فى الموسيقى والسياسة والمجتمع الذى كان منفتحا على العالم، وإن كانت الموسيقى فى ذات الوقت لم تكن تأخذ طريقها الذى تستحقه فى الانتشار، فمنذ تأسيس عمه أبو بكر خيرت لمعهد الكونسرفتوار، كان همه هو إدخال الموسيقى المصرية فى مصاف العالمية، لكن الأمر كان صعبا جدا بسبب وجود فطاحل المغنيين، فمن الجمهور الذى يمكنه أن يترك عبد الحليم وأم كلثوم وفريد وغيرهم، وهم يغنون أغانيهم العاطفية ويستمع إلى سيمفونيات؟.
ليس هذا فحسب، بل إن تلك الفترة كانت تموج بكل التغيرات، فشباب العالم كله كان يتغير ويتطلع إلى الحرية فى الحياة والموسيقى وكل ما هو جديد، ويستلهم موسيقى الشعوب الأخرى لكى يصنع فنا مختلفا عن السائد، فنا متمردا، وهو ما فعله عمر، فكانت إحدى أهم خطوات التمرد فى حياته تركه للبيانو لكى يعزف على الدرامز، هل تصدقوا ذلك؟
هذا بالفعل ما حدث، حيث تخلى عن البيانو، وأصبح عازفا للدرامز، وعن ذلك يقول "فمن يشاهدنى الآن أرتدى بزة أنيقة وأجلس بوقار على البيانو أعزف ألحاني، لا يتخيل أبدا أننى كنت منذ زمن بعيد ارتدى ملابس تواكب الموضة فى الستينيات، أمسك عصا الدرامز وأعزف عليه ضمن فريق يعزف الآلات الحديثة من جيتار وخلافه، صانعا موسيقى صاخبة يتراقص عليها آلاف الشباب".
عن سبب هذا التمرد يقول "إن قدرة عمى أبو بكر خيرت الفنية خلقت بداخلى إحساسا بالعجز عطلنى لسنوات، ربما بسبب هذا العجز كنت أحاول أن أتصرف فى ألحان بيتهوفن التى كنت أعزفها على البيانو أثناء فترة دراستي، لكن أساتذتى حينها كانوا يعنفونى بسبب هذا التصرف والارتجال، لكن هذا الارتجال أبرز للجميع حينها رغبتى وميلى للتمرد".
أغاني الروك
الغريب أن والده المهندس بوزارة الأوقاف، لم يتخذ موقفا مضادا له بسبب هذا التمرد، لكنه قاله له "أنت حر طالما بعيد عن الانحراف الأخلاقي"، فواصل عمر رحلته مع الدرامز، وكان عمره 17 عاما عندما التحق بفرقة "ريد جيتس" التى سميت فيما بعد ب "سليبينج بيلز" التى كانت متأثرة بشكل كبير بالموضة التى أطلقها فى العالم فريق "البيتلز" فى الستينيات، وفى عام 1967 كون مع زميله فى الكونسرفتوار عزت أبو عوف ووجدى فرنسيس فرقة Les Petits Chats التى كانت موسيقاها متمردة على السائد، وانضم لها فيما بعد عازف الجيتار الشهير عمر خورشيد، حيث كانت هناك منافسة كبيرة بين الفرق الموسيقية فى هذه الفترة التى اعتمدت فى عزفها على أغانى "الروك" الغربية فقط.
إلا أنه وبعد أربع سنوات من العمل عازف درامز، بدأ يراجع نفسه ويحن من جديد إلى آلة البيانو، فانفصل عن الفرقة وعاد لاستكمال دراسته لتأليف الموسيقى فى الكونسرفتوار، مستفيدا بتمرده ومستلهما من التجربة بشكل عام، وعن ذلك يقول " لقد شعرت مع الدرامز بالحرية، كان عزفى عليه ثورة شخصية وتمردا إيجابيا على عملى الأكاديمى والمعتاد، وأنا كمؤلف موسيقى، كنت أحتاج إلى أن أدخل عوالم موسيقية أخرى".
يا شادي أسمعنا
كان حلم عمر خيرت وقتها، أن ينهض بالموسيقى العربية باستخدام العلوم الموسيقية العالمية، لذلك استغرق وقته فى فترة السبعينيات بالدراسة الموسيقية الشاقة، مع عودته لحبه القديم "البيانو"، الذى كان يعزف عليه بأحد الفنادق الكبرى ليكسب قوت يومه، متمردا على نصيحة الأهل بضرورة أن يختار دراسة أخرى بجانب الموسيقى تضمن له مستقبله، وظل كذلك حتى بداية مشواره الحقيقى أو كما يسميها ولادته الفنية، والتى تأخر ظهورها، مشيرا إلى أن السبب وراء ذلك يرجع إلى شخصيته المتمردة التى لا تحب أن تفرض نفسها على أحد، لذلك لم يذهب إلى الإذاعة عارضا عليها مؤلفاته حتى تذيعها.
جاءت ولادته الفنية سنة 1978 عندما اختاره الموسيقار الراحل محمد نوح، لكى يقوم بتوزيع مجموعة
ة من ألحان الشيخ فؤاد عبد المجيد، لكى تغنيها المطربة عفاف راضى من إنتاجه، لحظتها شعر بأن ذلك العمل سيجعله يسير على خطى عمه أبو بكر ومن قبله سيد درويش، نحو إقامة نهضة موسيقية بسمات مصرية شرقية عن طريق عقد التزاوج بين الموسيقى العالمية وموسيقانا الشرقية، بالفعل قام عمر خيرت بتوزيع مجموعة من الألحان التى غنتها عفاف راضى منها "بأفكاري، حبى منيتي، يا شادى أسمعنا" ونجحت هذه الأغانى فى إعادة الاستماع إلى الموشحات مرة أخرى، وإن جعلت كل من يستمع إليها يشعر بمسحة غربية عالمية بها.
سيدة الشاشة
بعد هذه التجربة تولد لديه شغف كبير، فى أن يصنع موسيقى يكون هو مؤلفها وليس مجرد موزع لها فقط،وهنا يأتى الفضل الأكبر لسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة التى كانت أول من أسهم فى توصيل أعماله الموسيقية للجمهور.عن ذلك يحكى عمر خيرت فى سيرته قائلا: "كانت تجمعنى صداقة بكمال القريعى المتزوج من نادية ذو الفقار ابنة فاتن حمامة، وكنت دائم التردد عليهما، وفى أحد الأيام دعانى القريعى إلى احتفال الدكتور محمد عبد الوهاب وفاتن حمامة بعيد زواجهما، وفى أثناء الحفل طلب منى العزف على البيانو، ففوجئت هى بعزفى وأبدت إعجابها الشديد، وسألتنى "إيه الحاجات دي؟"، فقلت لها "دى ارتجالات من مخيلتي"، فردت على وقالت "طيب ليه مش بنسمع الحاجات دي؟"، فقلت لها "أنا فنان ومش هروح أخبط على الناس علشان يسمعوني".
انتهت الاحتفالية ليفاجأ عمر بعد ذلك بسيدة الشاشة تتصل به وتطلب لقاءه، فذهب إليها ليجدها تطلب منه أن يعمل خلفية موسيقية لبرنامج إذاعى، ستقدمه على إذاعتى البرنامج العام والكويت فى نفس الوقت، بعنوان "قطرات الندى" تلقى فيه أشعار كبار الشعراء، وما إن أذيع البرنامج وكان ذلك فى بداية الثمانينيات، حتى حقق صدى جيدا وأشاد به الجميع، وبعدها بدأ اسمه الذى كان يتردد يوميا عبر الإذاعة ينتشر، فوقع عليه الاختيار، ليضع الموسيقى التصويرية لمسرحية "فوت علينا بكره"، التى عرضت فى عام 1983 على مسرح الطليعة من إخراج المخرج الكبير سعد أردش، ثم كانت المفاجأة الأكبر عندما اختارته الفنانة فاتن حمامة، ليضع الموسيقى التصويرية لفيلمها "ليلة القبض على فاطمة" الذى كان يمثل عودتها للسينما بعد غياب 5 سنوات، بعد فيلمها "لا عزاء للسيدات" .
عن ذلك يقول :"تملكتنى سعادة بالغة وقتها، لأول مرة ستتم كتابة اسمى على فيلم، ومن بطولة اسم بحجم فاتن حمامة، لهذا اجتهدت وقدمت ما شعرت به، وألهمنى الله موسيقى الفيلم التى أعتبرها اختراعا أو شكلا جديدا، لأنها كانت تحتوى على نوع جديد من التيمات الموسيقية التى لم تمس من قبل".
وعندما عرض الفيلم حقق نجاحا كبيرا مع الجمهور، وكان بمثابة جواز سفر له لدى الجمهور، وفى أمر فريد من نوعه فى ذلك الوقت تم طرح موسيقى الفيلم فى شريط كاسيت يحمل صورة فاتن حمامة، وقتها سأل خيرت نفسه "هل أصبح المصريون مستعدين إلى سماع موسيقى خالصة لا يصاحبها أداء مطرب أو مجموعة أم لا؟ فكان النجاح الذى تحقق و فاق التوقعات بمثابة الجواب على سؤاله، مما أعطاه الأمل فى مواصلة طريقه لسد الفراغ الموجود فى حياتنا الموسيقية وسط هيمنة الغناء على الساحة، هنا فقط شعر بأن الحلم الذى درس من خلاله الموسيقى فى طريقه إلى التحقق.
شجع نجاح فيلم "ليلة القبض على فاطمة" والألبوم الذى يضم ألحانه، على تكرار تجربة صنع الموسيقى التصويرية للأفلام، فبدأت رحلته المتميزة فى هذا المجال عبر أفلام "الخادمة" سنة 1984، بطولة نادية الجندى التى كانت نجمة شباك فى ذلك الوقت، إخراج أشرف فهمي، وفيلم "بحر الأوهام" بطولة حسين فهمي، وفيلم "خلى بالك من عقلك" بطولة عادل إمام وشريهان الذى حقق نجاحا كبيرا، لدرجة أن الموسيقى التصويرية لهذا الفيلم كانت من أكثر الأعمال التى تطلب من خيرت لعزفها فى الحفلات، ثم جاءت اللحظة التى اعتبرها إحدى اللحظات المهمة فى حياته - على حد وصفه - وهى لحظة العمل مع الملك فريد شوقى من خلال فيلم "قضية عم أحمد"، الذى حرص فيه خيرت على ألا يطغى الحزن على الموسيقى التى وضعها برغم ما تحويه تيمة الفيلم من مشاهد تراجيدية، فكان ذلك سببا فى سعادة كثير من الجمهور، الذى اعتبر الموسيقى من أهم أبطال هذا الفيلم، ومن هنا كان التعاون الثانى مع ملك الشاشة فى فيلم من أجمل الأفلام فى تاريخ السينما وهو فيلم "إعدام ميت".
سكوت هنصور
توالت أعمال خيرت، بعد أن ساعد نجاح الأفلام التى قدمها فى تحقيق انتشار كبير لاسمه لدى الجمهور، فأقبل عليه المنتجون، ومن هذه الأعمال فيلم "أنا اللى قلت الحنش، عفوا أيها القانون، امرأة مطلقة، وصمة عار، موعد مع القدر، مفيش غير كده، الرهينة، أولى ثانوي، النعامة والطاووس، سكوت هنصور، اليوم السادس، دم الغزال، النوم فى العسل، الجزيرة، زهايمر، السفارة فى العمارة، ولاد العم، الممر، البحث عن توت عنخ آمون"، وبسبب نجاح هذه الأفلام اكتشف عمر فى آخر حقبة الثمانينيات أنه الأعلى أجرا بين زملائه، هذا الأمر تسبب فى أنه أصبح الأقل طلبا، لكنه واصل رحلته مع التمرد، وظل يطلب الأجر الذى يستحقه، لأنه كما يقول "أعتبر أن أعمالى " صح" وبالتالى فهى مكلفة من حيث الوقت الذى أستهلكه فى اقتناص الفكرة، ثم كتابتها وتوزيعها، واختيار أمهر العازفين للعمل معي، وأذكر منهم أسماء صارت من أهم مؤلفى الموسيقى فيما بعد، ومنهم ياسر عبد الرحمن، نبيل على ماهر، محمد أبو السعد".
كما أنه كان يضع شروطا قبل الموافقة على الدخول فى أى عمل منها، مشاهدة الفيلم أولا، فإن وجده جيدا ويقدم شيئا مفيدا، يوافق عليه، وبعدها يعيش مع جو العمل فى مخيلته ويفكر فى التيمة الأساسية، التى سيقوم بالتنويع عليها فى كل المشاهد، بعدها يبدأ فى تنفيذ ما توصل إليه بالمقاس، ثم يقوم بتسجيلها فى الاستديو.
لم يكن تمرد عمر خيرت على عمه وعلى البيانو وعلى جينات العائلة، شيئا بجانب تمرده على الحياة الموسيقية فى منتصف الثمانينيات، وعن ذلك يقول: "كنا نعيش مرحلة انتقالية فى الموسيقى، كان من المعروف وقتها أن الموسيقى هى الطرب، وأن الكلمة واللحن لابد أن يكونا من خلال مطرب يغنى، وهو اتجاه إلى الشكل الفردي، بعد أن كانت هناك قوالب مو
سيقية فى عصور سابقة علينا، فالكل يعمل من خلال ومن أجل المطرب، والمطرب لا يأتى إلا من خلال صوته، وهذا فى حد ذاته عائق فى وجه تطور الموسيقى".
أحلى هدية
من هنا جاء تمرده على ما هو سائد، بتقديم الموسيقى الخالصة التى أقبل عليها الناس، برغم وجود مقاومة طبيعية وقتها بسبب سيادة فكرة المطرب، فعلاوة على الموسيقى التصويرية، قدم تجربة مختلفة وهى التوزيع الموسيقى لبعض أعمال محمد عبد الوهاب بشكل جديد، فى ألبوم بعنوان "وهابيات" التى سعى من خلالها إلى تقديم نموذج من الموسيقى الشرقية الخاصة بنا فى قالب أوركسترالى هارموني، فلم يكن فقط النجاح هو ثمرة هذه التجربة، لكنه من خلالها حظى بشهادة موسيقار الأجيال له، عندما قاله له "أحلى هدية تلقيتها"، كما اكتشف أن من بين من يسمعون شرائط الموسيقى الخاصة به أشخاص عاديون ومتوسطو الثقافة، فكان هذا هو الأصل الذى يجعله يستمر ويقدم المزيد منها .
لم يكتف المتمرد فقط بعالم السينما، لكنه عرج أيضا لعالم الدراما التليفزيونية، فقدم الموسيقى التصويرية لمسلسل "غوايش" سنة 1986، وفى العام التالى قدم "هذا الرجل"، وبعدها توالت أعماله مثل "الإسلام والإنسانية، اللقاء الثاني، ضمير أبلة
حكمت، البخيل وأنا، الثعلب، سنوات الشقاء والحب، ع الحلوة والمرة، وجه القمر، يا رجال العالم اتحدوا، مسألة مبدأ، النساء قادمون، بنت أفندينا، العميل 1001، الجماعة، فرقة ناجى عطا الله، الخواجة عبد القادر، دهشة" والمسلسل المصرى السعودى "ليلة هروب".
هنا جاءت مرحلة أخرى فى حياته، التى تمثلت فى قيامه بتقديم الألحان التى بدأها بأغنية تتر مسلسل غوايش "فى الليل وفى التباريح" من كلمات سيد حجاب، فخاض هذه التجربة لكى يثبت للجميع أن المؤلف الموسيقى يمكنه تلحين الأغنيات بسهولة، فلاقت هذه الأغنية ولا تزال نجاحا كبيرا، الأهم من ذلك أنه استعان فيها بمقام "البياتي" ليفاجأ الجميع والموسيقيون خاصة، والذين كانوا يعتقدون أنه "رجل خواجة" يعزف البيانو ويدرس الموسيقى الغربية.
وفى السابق كان يعزف على الدرامز، لتتوالى ألحانه الجميلة فى أفلامه ومسلسلاته، مثل "زى ما هى حبها" لمدحت صالح فى فيلم مافيا ، "فيها حاجة حلوة" لريهام عبد الحكيم فى فيلم "عسل أسود"، وألحانه لعلى الحجار وحنان ماضى وإيمان الطوخى ولطيفة.
الموسيقى للجميع
المتأمل فى رحلة عمر خيرت يكتشف أن له شخصية موسيقية ثابتة ومستقلة لكنها ترفض الجمود، ويؤرقها النمط الواحد، لذلك تعددت إبداعاته فى مجالات مختلفة، بدأها بالتوزيع الموسيقى، ثم الموشحات، فتأليف الموسيقى التصويرية للأفلام والمسلسلات وبعدها تلحين الأغاني، ولم يقف عند ذلك، بل خاض تجربة أخرى عندما اقتحم عالم الباليه فقدم موسيقى باليه "النيل"، ثم موسيقى باليه "العرافة والعطور الساحرة " لراقصة الباليه الكندية الشهيرة "ديانا كالنتي"، فكانت خطوة مهمة له نحو العالمية، كذلك خاض تجربة الفوازير التى قدمها فى 1999 مع الفنانة وراقصة الباليه نادين بعنوان "مانستغناش".
عن ذلك يقول "كنت متمردا على الجمود والنمط الواحد، لم يكن لى نوع مفضل ولا جمهور مفضل، أقدم موسيقاى للجميع، لأهل المدن والقرى، ولأهل الصعيد، وأعتبر أن كلمة "النخبة" سبة فى حق المؤلف الموسيقي، فلا يوجد مؤلف يخص بأعماله النخبة والصفوة، بل لابد أن يتيح موسيقاه لجميع فئات الشعب، لأنى كم تمنيت أن أصبح فنان الشعب مثل سيد درويش".
مارس خيرت تمرده أيضا بمحاربة الجماعات الظلامية، وعن ذلك يقول "لم تخفنى ولم تقلقنى العمليات الإرهابية التى انتشرت فى فترة التسعينيات، كانت تزيدنى إصرارا على ما أقدمه، فقدمت فى منتصفها موسيقى فيلم "الإرهابي" للنجم عادل إمام.
لن أعتزل
رحلة طويلة خاضها الموسيقار عمر خيرت، لم تخل من أزمات، لكن ثمارها رسمت ملامحها التى تمثلت فى أن حفلاته التى يقدمها فى الأوبرا أو أى مكان فى العالم صارت كاملة العدد، حتى شبهوا حفلاته بحفلات أم كلثوم، وموسيقاه أصبحت مثل الأغانى يقبل على سماعها الجميع، بعد أن استطاع بعبقريته أن يجعل الشعب يسمع موسيقى خالصة، كما يشهد على نجاح هذه الرحلة ما حظى به من تقدير وتكريمات، ففى عام 2008 تمت دعوته لإحياء حفل ختام تسليم رئاسة الاتحاد الأوربى لفرنسا، الذى ضم خيرة عازفى ومؤلفى الموسيقى فى العالم، واختياره أيضا فى عام 2015 لعمل موسيقى حفل افتتاح قناة السويس الجديدة، وقتها شعر بمسئولية كبيرة وفرحة غامرة، لأن اسمه سيرتبط باسم فيردى الذى كتب أوبرا عايدة، لكى تفتتح بها قناة السويس الأولى فى عهد الخديوى إسماعيل، فلم نعد بحاجة لموسيقى عالمى ولدينا عمر خيرت، فهو خير من يمثلنا أمام العالم، والذى أصبح أيضا موضوعا للعديد من رسائل الماجستير والدكتوراه فى الجامعات المصرية والعربية، كذلك تقدير الرئيس السيسى له فى حفل "قادرون باختلاف" وكلماته التى قالها عنه "أشكر المايسترو العظيم عمر خيرت، بشكرك، والله دايما بتسعدنا وتشرفنا".
تحت عنوان "لن أعتزل" ينهى عمر خيرت سيرته الذاتية قائلا: "من المستحيل أن أعتزل الفن، لأنه أجمل مسئولية أحملها فوق رأسى للجمهور، وسأظل هكذا حتى آخر نفس فى حياتي".