كيف نشأ العالم عند السومريين.. ما يقوله كتاب ”مغامرة العقل الأولى”
ازدهرت الثقافة السومرية في الجزء الأسفل من حوض دجلة والفرات وحول الشواطئ العليا للخليج العربي، منذ أواسط الألف الرابع قبل الميلاد. ورغم مرور فترة لا بأس بها على اكتشاف الحضارة السومرية، فإن أصول الشعب السومري ما زالت قضيةً يكتنفها الغموض. على أن أكثر النظريات قوةً اليوم هي النظرية التي تقول بقدوم السومريين من أواسط آسيا. ولقد أثبتت الدراسات اليوم أن أرض سومر لم تكن خاليةً من السكان قبل قدوم السومريين، بل كانت مسكونةً بأقوام ساميين، ذوي لغة وثقافة سامية، لا نعرف عنها الكثير، ولا نعرف ماذا أعطت للغُزاة الآسيويين. ولكن الشيء الأكيد هو أن الثقافة السومرية قد نضجت من احتكاك هذَين الشعبَين وتفاعلهما مع بعضهما البعض في تلك الحقبة المبكِّرة من تاريخ الإنسانية.
ولقد كان للثقافة السومرية تأثير كبير على ثقافة الشرق الأدنى القديم؛ فهي التي أعطت المنطقة الخط المسماري الذي غدا واسطة الكتابة لدى جميع شعوب المنطقة. وهي التي طوَّرت منذ الأزمنة السحيقة مبادئ دينية وروحية، ظلَّت سائدةً فترةً طويلةً من الزمن، حتى وصلت تأثيراتها إلى الثقافة الإغريقية في الفترات المتأخِّرة جِدًّا. وهي التي وضعت أُولى الملاحم الشعرية، وأُولى التراتيل الدينية والقصائد الدنيوية، وأُولى التشريعات والقوانين والتنظيمات المدنية والسياسية. وباختصار: فالتاريخ يبدأ من سومر.
لم تصلنا عن السومريين أسطورة متكاملة في الخلق والتكوين وأصول الأشياء، وإن كان العلماء لا يستبعدون العثور على مثل هذه الأسطورة، سواء في الألواح الفخارية المبعثرة في معظم متاحف العالم، أو في باطن أرض سومر حيث ما زلنا نتوقَّع مزيدًا من الكشف عن التاريخ المطمور. إلا أن النصوص المتفرِّقة التي تمَّ العثور عليها، والمتعلقة بأمور الخلق والتكوين، تكاد تُعطي صورةً واضحةً عن أفكار السومريين بهذا الشأن. وإن دراسةً متعمقةً لتلك النصوص وربطها ببعضها في سلسلة منطقية، لتدلُّنا على أن الأسطورة ليست بالسذاجة التي تبدو عليها في نظر القارئ العادي. وإن الرموز الأسطورية التي استخدمها الإنسان القديم ليست إلا وسيلة إيصال وقالَب تعبير. إنها لغة متميِّزة، تحاول من خلال مفرداتها وتعابيرها ومصطلحاتها إيصال حقائق مُعيَّنة، وهي منهج له من المشروعية ما لبقية المناهج التي ابتكرها فكر الإنسان لاحقًا، إذا أخذنا بعين الاعتبار العملية التطوُّرية البطيئة والصاعدة التي سار بها عقل الإنسان منذ فجر التاريخ.
لم تكن أفكار السومريين عن الخلق والتكوين أفكارًا بدائية، بل أفكارًا ناضجةً بالدرجة التي تتيحها معارف تلك الفترة من بداية حضارة الإنسان. فلقد أثبت السومريون مقدرةً فائقةً على الملاحظة الذكية والربط، واستخلاص النتائج المنطقية من المقدِّمات المنطقية والحقائق والوقائع المشاهدة. وإن دراسة النصوص الأسطورية المتفرِّقة تعطينا التسلسل الأسطوري التالي لعملية خلق العالم والأكوان:
(1) في البدء كانت الإلهة نمو ولا أحد معها، وهي المياه الأولى التي انبثق عنها كل شيء.
(2)أنجبت الإلهة نمو ولدًا وبنتًا؛ الأول آن إله السماء المذكَّر، والثانية كي إلهة الأرض المؤنثة، وكانا ملتصقَين مع بعضهما وغير منفصلَين عن أمهما نمو.
(3)ثم إن آن تزوَّج كي فأنجبا بِكرهما إنليل إله الهواء الذي كان بينهما في مساحة ضيقة لا تسمح له بالحركة.
(4)إنليل، الإله الشاب النشيط، لم يُطِق ذلك السجن فقام بقوته الخارقة بإبعاد أبيه آن عن أمه كي. رفع الأول فصار سماءً، وبسط الثانية فصارت أرضًا، ومضى يرتع بينهما.
(5)ولكن إنليل كان يعيش في ظلام دامس، فأنجب إنليل ابنه نانا إله القمر؛ ليُبدِّد الظلام في السماء ويُنير الأرض.
(6)نانا إله القمر أنجب بعد ذلك أوتو إله الشمس الذي بزَّه في الضياء.
بعد أن أُبعدت السماء عن الأرض، وصدر ضوء القمر الخافت وضوء الشمس الدافئ، قام إنليل مع بقية الآلهة بخلق مظاهر الحياة الأخرى.
والآن إذا جرَّدنا هذه السلسلة الأسطورية من رموزها ومفرداتها الميثولوجية، وترجمناها إلى لغتنا العلمية الحديثة؛ لظهر لنا منطقها المتماسك، والملاحظات العلمية التي قادت إليها:
(1)في البدء لم يكُن موجودًا سوى المياه التي صدر عنها كل شيء وكل حياة.
(2)في وسط هذه الحياة الأولى ظهرت جزيرة يابسة على هيئة جبل قُبَّته هي السماء، وقاعدته هي الأرض، ومن لقاء القُبَّة بالقاعدة ظهر الهواء، العنصر المادي الثالث بعد المياه والتراب.
(3)من الصفات الأساسية لهذا العنصر الجديد التمدُّد. وبتمدُّد هذه المادة الغازية تباعدت السماء عن الأرض.
(4)لم يكن القمر السابح في الهواء إلا نتاجًا للهواء وابنًا له، وربما كان من نفس العنصر أيضًا. أمَّا الشمس فهي الابن الذي فاق أباه القمر قوة، وخلفه على عرش السماء فيما بعد.
(5)بعد أن ابتعدت السماء عن الأرض وغمرت أشعة الشمس الدافئة وجه البسيطة، تهيَّأت الشروط اللازمة للحياة، فظهرت النباتات والحيوان وتمَّ خلق الإنسان.
تتطابق هذه النظرات في بعض جوانبها مع النظريات العلمية الحديثة؛ فولادة القمر من الهواء لا تبعد كثيرًا عن النظريات القائلة بتشكُّل الأجرام السماوية من السحب الغازية. أمَّا صدور الأشياء عن المياه الأولى فلا يبتعد عن الاكتشافات العلمية الحديثة المتعلِّقة بنشأة الحياة وتطوُّرها ابتداءً من البحر. وأُريد هنا أن ألفت النظر إلى نقطة هامة لفهم الفكر الأسطوري وتطوُّره. فالفكر القديم ابتدأ ماديًّا حسيًّا، وبعيدًا عن التجريد. وفكرة القوة المبدِعة المنفصلة عن الكون الفاعلة فيه عن بعد، لم تكن موجودةً في ذهن خالق الأسطورة؛ فعمليات الخلق ليست فعلًا صادرًا عن الآلهة منفصلًا عنها، بمقدار ما كانت تبديًا لحركتها وتفاعلها مع بعضها. ففي البدء كانت المياه الأولى، أزليةً غير مخلوقة ولا منبجسة عن العدم. وجبل السماء والأرض لم يُخلق بفعل قوة خارجية مجرَّدة متعالية، بل جاء نتيجة إخصاب ذاتي للأم الأولى التي ولدته من رحمها، كما تلد أمهات البشر والحيوان، وكما يتكاثر النبات. وكذلك الأمر بالنسبة للقمر والشمس وغيرهما.