كتبها تحت عنوان «المواطن: حياتى بعد البيت الأبيض».. مذكرات كلينتون رسالة إنسانية أم بيزنس؟
تاريخ تربح آل كلينتون من نشر المذكرات معروف بعد أن غادر كلينتون وزوجته البيت الأبيض قاما بتحويل الشهرة السياسية إلى ثروة شخصية.
كسب نحو 189 مليون دولار من تأليف الكتب وإلقاء الخطب والاستشارة للشركات الخاصة وتقديم المشورة للملياردير رون بيركل
خلافا لتوقعات الكثيرين جاء كتاب»مواطن» للرئيس السابق بيل كلينتون باهتا وغير مثير للاهتمام. مليئا بروايات عن رحلاته الخيرية حول العالم والأحاديث الودية مع زعماء العالم. وقد وصفته صحيفة «الجارديان» البريطانية بأنه «يكشف القليل للغاية وجاء متأخرا للغاية» وبأنه أقرب إلى النثر السياسى للعلاقات العامة. بينما يرى آخرون أنه يذكرهم بأحاديث الملياردير بيل جيتس عن تبرعاته وأنشطة مؤسسة «بيل ومليندا جيتس». فهل يحاول كلينتون ارتداء عباءة الترويج للأعمال الخيرية فى صفوف الأثرياء والرؤساء السابقين حقا؟ بينما فى الواقع، جنى هو وزوجته هيلارى كلينتون ثروة طائلة من مؤلفاتهما.
ليست تلك المرة الأولى التى يخوض فيها بيل كلينتون غمار كتابة السيرة الذاتية، ولكنها قد تكون الأخيرة، إذا ما استرشدنا بنبرتها الوداعية الهادئة. فقد بيعت ملايين النسخ من كتابه السابق الشهير "حياتي"الذى صدر عام 2004. ورغم أنه كان يعد بمثابة تمرين تمهيدى أو "بروفة" للكتابة لرئيس سابق فى أوج حياته بعد تركه للبيت الأبيض، إلا إنه انطوى على قصة ورؤية واضحة، تروى تفاصيل نجاح شاب من أركنساس فى مواجهة العديد من التحديات والصعاب وصعوده إلى قمة القوة الأمريكية. لا شك أن أى رئيس سابق لم يعد يستمع إلى العزف الرئاسى عندما يدخل الغرفة، فهذا ليس بإضافة!
عادة ما تقدم مذكرات الرؤساء لمحة عن معتقداتهم ومواقفهم وأفكارهم ومشاعرهم. خصوصا ذكريات الطفولة التى قد تنبئ بأحداث تاريخية خلال إدارة الرئيس، حتى وإن كانت منفصلة عن بعضها البعض من حيث الزمان والمكان. فمن خلال فحص الذكريات المبكرة للرؤساء، من الممكن إعادة اكتشافهم. فعلى سبيل المثال قدمت ذكريات إبراهام لينكولن المسلية عن مغامرة طفولته منظور غير عادى لشخصيته وجاذبيته الدائمة لرواية القصص. وكيف أثرت ذكرى إيزنهاور عن معركته مع أحد الطيور بالمزرعة على أسلوبه التفاوضى كجنرال ورئيس. فالذكريات الرئاسية وغيرها توفر رؤى ثاقبة فى عقول وأفعال القادة عامة.
وهو ما لم يتوافر فى الكتاب الذى بين أيدينا، فما الهدف من وراء نشره؟ هل هو مجرد وسيلة للكسب والتربح؟ خصوصا أن صدوره تزامن مع الانتخابات الرئاسية الأمريكية فى نوفمبر 2024؟
تاريخ تربح آل كلينتون من نشر المذكرات بات أمرا معروفا. فبحسب موقع "فوربس" وبتقرير قديم قبل ثمانى سنوات. ذكر أنه منذ أن غادر بيل وهيلارى كلينتون البيت الأبيض فى عام 2001، قاما بتحويل الشهرة السياسية إلى ثروة شخصية. جمعا أكثر من 240مليون دولار، وفقا لتحليل "فوربس" لـ15 عاما لإقراراتهما الضريبية.
وقد جمع بيل القسط الأكبر، حيث كسب نحو 189 مليون دولار من تأليف الكتب وإلقاء الخطب والاستشارة للشركات الخاصة وتقديم المشورة للملياردير رون بيركل. وبعد أيام من انتهاء رئاسته، حصل على 125 ألف دولار مقابل خطاب ألقاه، وذلك وفقا لنموذج الإفصاح المالى الذى قدمته هيلارى بصفتها عضوا فى مجلس الشيوخ فى عام 2002. وكان هذا أول خطاب من بين مئات الخطب مدفوعة الأجر التى جعلته يحقق ما يقارب نحو 106 ملايين دولار على مدى 15عاما.
وفى عام 2004، نشرت مذكراته الأكثر مبيعا بعنوان"حياتى"، وهى واحدة من بين أربعة كتب كتبها الرئيس السابق كلينتون. وقد حقق أرباحا تقدر بنحو 38مليون دولار كمؤلف فى الفترة ما بين عامى 2001 و2015.
وفى عام 2007، عندما كانت هيلارى تستعد لخوض الانتخابات الرئاسية. لم تكسب سوى 123 ألف دولار كمؤلفة ولم تجن شيئا كمتحدثة. ولكن فى عام 2015، كسبت مليون دولار من إلقاء المحاضرات وثلاثة ملايين دولار من الكتابة. وفى يونيو 2014، صدر كتابها "الخيارات الصعبة" كان توقيته مثاليا لموسم الانتخابات. ودفعت لها دار النشر سايمون آند شوستر 12 مليون دولار من عام 2013 إلى عام 2015.
أما كتاب "مواطن" فإنه أقرب إلى تكملة أو"ملحق" للكتاب السابق. يثير السخرية من العودة إلى حلقة أكثر إغراقا فى الخصوصية ومادة جافة، وإن كان المنطلق أو الفرضية منطقية بل بديهية. فماذا يفعل رئيس سابق فى واقع الأمر بوقته، بصرف النظر عن جمع مبالغ ضخمة من مقدمات النشر وتقاضى 250 ألف جنية إسترلينى مقابل كل خطاب لا تتجاوز مدته ساعة زمن واحدة!
الإجابة التى يقدمها لنا كلينتون هى "العمل الخيرى" فعند مغادرته لمنصبه كانت الأسرة حلى حافة الإفلاس؛ جراء التكاليف القانونية المتعلقة بتحقيقات قضية "وايت ووتر" وعملية عزل الرئيس فى عام 1998. وقد تم إنشاء مؤسسة "كلينتون" كما كانت تعرف آنذاك، فى عام 1997 لإنشاء مكتبة بيل كلينتون الرئاسية. واليوم أصبحت مؤسسة كلينتون عملاقة بميزانية تقدر بملايين الدولارت. وكما يقول موقعها الإلكتروني"منذ عام2001، حولت المؤسسة العمل الخيرى من خلال برامج تعمل على تنمية القادة وتسريع الحلول لأكثر التحديات إلحاحا فى العالم" مثل الزراعة بإفريقيا، إغاثة ضحايا زلزال هايتي، توفير الأدوية المضادة للإيدز بأسعار معقولة. بالنسبة للبعض كانت منظمة كلينتون قوة للحملات الخيرية، وبالنسبة لآخرين فهى مجرد "صندوق سري" مربح بشكل لا يصدق للعائلة وواجهة لتبييض السمعة للمانحين فى جميع أنحاء العالم.
رصد الكتاب قواعد كلينتون السياسية، والتى قال إنه يحتفظ بها فى متناول يده لعقود من الزمن من أجل شرح وتخفيف حدة المحادثات والحوارات السياسية. ومن بين البنود الثلاثة عشر المدرجة نصيحة مفادها "لا تشرب فى الأماكن العامة أبدا" و"الجميع مع التغيير بشكل عام ولكنهم غالبا ضده بشكل خاص "قاعدة أخرى تقول" أنت دائما أكثر عرضة للخطر عندما تشعر أنك غير قابل للهزيمة أو عندما تكون غاضبا ومستنزفا" و"اترك مشاعرك على عتبات قاعة العمل". وأضافت تجربة زوجته هيلارى إليه مزيدا من الحكم والقواعد لعل أهمها "أن الناس قد يتمنون لك الفوز لكنهم لا يرغبون فى أن تتحدث نيابة عنهم"
رغم أن الكتاب يتناول أحداثا حاسمة فى العالم والشرق الأوسط فى القرن الحادى والعشرين، بما فى ذلك حرب العراق، زلزال هايتى، والحروب الثقافية وانتخابات عامى 2008 و2016، وأحداث اقتحام مبنى الكابيتول فى 6 يناير2021، فضلا عن مناقشة اللحظات السياسة التى تعرضت لها هيلارى كلينتون. والتحديات غير المسبوقة التى جلبتها جائحة كورونا، وارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض بشكل مطرد، إلا إنه جاء سردا باهتا لم يكشف جديدا أو يطرح حلولا. فعلى سبيل المثال تطرق للحديث عن منطقة الشرق الأوسط فى عدة فقرات تدعو إلى وضع نوع من التفسير الأولى لتاريخ المنطقة! حيث ورد ما نصه"يجب على أمريكا التخلى عن مغامرتها المنكوبة فى أوهام الانقسام والهيمنة" وحينئذ فقط وفقا لتعبير كلينتون "يمكن لاختلافاتنا الصادقة أن تمنحنا الغد الأفضل".
نقطة تفوق كتاب "مواطن" تكمن فى ربط تجارب كلينتون الشخصية بمعلومات عن الأحداث العالمية. وفى الوقت ذاته يسرد بالتفصيل قصة مؤثرة عن علاقته بزعماء العالم. من أبرز تلك المواقف زيارة الرئيس جورج دبليو بوش وكلينتون سريلانكا لتفقد الأضرار التى خلفتها كارثة تسونامى فى عام 2004. ويروى كلينتون بتعاطف بالغ كيف كان بوش يحمل أعمالا فنية من إبداع أطفال فقدوا سبل عيشهم بسبب بفعل الكارثة الطبيعية وكأنها روائع لا تقدر بثمن. وفى الصفحات الثمانى للكتاب المصورة، هناك صورتان من تلك التجربة. تظهر الصورة الأولى الرئيس بوش الابن وكلينتون وهما يتفاعلان مع أطفال سريلانكا، حيث يحمل كلينتون ورقة ملونة. أما الصورة الأخرى فهى إحدى رسومات الأطفال لمحيط هادئ مع أوراق زنبق وبجع. إن إضافة مثل تلك الصور تضفى طابعا إنسانيا على ضحايا المأساة وتمثل استراحة ممتعة من النص المثقل بالمعلومات الجافة.
كما يلمح كلينتون بين حين وآخر إلى تفاصيل صغيرة دقيقة عن حياته كرئيس سابق تحول إلى مواطن عادي. ويرسم الخطوط العريضة لبعض القيود التى يفرضها عليه كونه رئيسا سابقا. حيث يشير إلى أن البيت الأبيض أمره بالامتناع عن الابتسام وعدم العبوس أيضا، وبدلا من ذلك أن يكون بلا تعبير انفعالى فى بعض الموقف أو لدى زيارة دول بعينها. وتصور القيود المفروضة عليه حياة مليئة بالحركات الحذرة بعد فترة طويلة من حملاته الانتخابية ووجوده بالبيت الأبيض. وهو ما يوفر للقارئ بعض البصيرة فى السلوك الجاد الذى يتسم به الساسة طيلة حياتهم.
ويمكنك استشعار مشاعر الحب العائلى لزوجته هيلارى وابنته فى جميع صفحات الكتاب. فحتى عندما يصف التصميم الداخلى لغرفتهما، يشرح كيف أنه أراد شراء منزلهما فى اللحظة التى لاحظ فيها زاوية تسمح بتسرب شعاع الشمس إلى الغرفة. فأخبر هيلارى على الفور ابنها سوف يستمتع بالاستيقاظ فى غرفة يتدفق عبرها الضوء حتى عندما تكون السماء ملبدة بالغيوم. الأمر الذى يساعد على تهيئة فرصة للمزاج الجيد والفوز فى انتخابات مجلس الشيوخ.
وعلى نحو مماثل يشعر كلينتون بالفخر بابنته تشيلسي. ويكشف أنه أعاد قراءة أطروحتها الجامعية ووجدها مبنية على بحث جيد وغير متحيز ومادة بحثية جادة. ويحرص على استعراض ووصف موضوع أطروحتها، ألا وهو مشاركته فى عملية السلام بأيرلندا.
وفى الوقت الذى ينقسم فيه الرأى العام بشأن بيل كلينتون، حيث يراه البعض رئيسا مؤثرا فى حين يعتبر آخرون ولايته وإرثه موصوما بفضائح وخطيئة الكذب، فإن قراءة كتاب "المواطن: حياتى بعد البيت الأبيض" سوف يدفعهم للتفكير فيه كإنسان يحاول تجاوز رئاسته باعتباره زوجا وأبا داعما.كتبها تحت عنوان «المواطن: حياتى بعد البيت الأبيض»
مذكرات كلينتون
رسالة إنسانية أم بيزنس؟
تاريخ تربح آل كلينتون من نشر المذكرات معروف بعد أن غادر كلينتون وزوجته البيت الأبيض قاما بتحويل الشهرة السياسية إلى ثروة شخصية
كسب نحو 189 مليون دولار من تأليف الكتب وإلقاء الخطب والاستشارة للشركات الخاصة وتقديم المشورة للملياردير رون بيركل
خلافا لتوقعات الكثيرين جاء كتاب»مواطن» للرئيس السابق بيل كلينتون باهتا وغير مثير للاهتمام. مليئا بروايات عن رحلاته الخيرية حول العالم والأحاديث الودية مع زعماء العالم. وقد وصفته صحيفة «الجارديان» البريطانية بأنه «يكشف القليل للغاية وجاء متأخرا للغاية» وبأنه أقرب إلى النثر السياسى للعلاقات العامة. بينما يرى آخرون أنه يذكرهم بأحاديث الملياردير بيل جيتس عن تبرعاته وأنشطة مؤسسة «بيل ومليندا جيتس». فهل يحاول كلينتون ارتداء عباءة الترويج للأعمال الخيرية فى صفوف الأثرياء والرؤساء السابقين حقا؟ بينما فى الواقع، جنى هو وزوجته هيلارى كلينتون ثروة طائلة من مؤلفاتهما.
إيمان عمر الفاروق
ليست تلك المرة الأولى التى يخوض فيها بيل كلينتون غمار كتابة السيرة الذاتية، ولكنها قد تكون الأخيرة، إذا ما استرشدنا بنبرتها الوداعية الهادئة. فقد بيعت ملايين النسخ من كتابه السابق الشهير "حياتي"الذى صدر عام 2004. ورغم أنه كان يعد بمثابة تمرين تمهيدى أو "بروفة" للكتابة لرئيس سابق فى أوج حياته بعد تركه للبيت الأبيض، إلا إنه انطوى على قصة ورؤية واضحة، تروى تفاصيل نجاح شاب من أركنساس فى مواجهة العديد من التحديات والصعاب وصعوده إلى قمة القوة الأمريكية. لا شك أن أى رئيس سابق لم يعد يستمع إلى العزف الرئاسى عندما يدخل الغرفة، فهذا ليس بإضافة!
عادة ما تقدم مذكرات الرؤساء لمحة عن معتقداتهم ومواقفهم وأفكارهم ومشاعرهم. خصوصا ذكريات الطفولة التى قد تنبئ بأحداث تاريخية خلال إدارة الرئيس، حتى وإن كانت منفصلة عن بعضها البعض من حيث الزمان والمكان. فمن خلال فحص الذكريات المبكرة للرؤساء، من الممكن إعادة اكتشافهم. فعلى سبيل المثال قدمت ذكريات إبراهام لينكولن المسلية عن مغامرة طفولته منظور غير عادى لشخصيته وجاذبيته الدائمة لرواية القصص. وكيف أثرت ذكرى إيزنهاور عن معركته مع أحد الطيور بالمزرعة على أسلوبه التفاوضى كجنرال ورئيس. فالذكريات الرئاسية وغيرها توفر رؤى ثاقبة فى عقول وأفعال القادة عامة.
وهو ما لم يتوافر فى الكتاب الذى بين أيدينا، فما الهدف من وراء نشره؟ هل هو مجرد وسيلة للكسب والتربح؟ خصوصا أن صدوره تزامن مع الانتخابات الرئاسية الأمريكية فى نوفمبر 2024؟
تاريخ تربح آل كلينتون من نشر المذكرات بات أمرا معروفا. فبحسب موقع "فوربس" وبتقرير قديم قبل ثمانى سنوات. ذكر أنه منذ أن غادر بيل وهيلارى كلينتون البيت الأبيض فى عام 2001، قاما بتحويل الشهرة السياسية إلى ثروة شخصية. جمعا أكثر من 240مليون دولار، وفقا لتحليل "فوربس" لـ15 عاما لإقراراتهما الضريبية.
وقد جمع بيل القسط الأكبر، حيث كسب نحو 189 مليون دولار من تأليف الكتب وإلقاء الخطب والاستشارة للشركات الخاصة وتقديم المشورة للملياردير رون بيركل. وبعد أيام من انتهاء رئاسته، حصل على 125 ألف دولار مقابل خطاب ألقاه، وذلك وفقا لنموذج الإفصاح المالى الذى قدمته هيلارى بصفتها عضوا فى مجلس الشيوخ فى عام 2002. وكان هذا أول خطاب من بين مئات الخطب مدفوعة الأجر التى جعلته يحقق ما يقارب نحو 106 ملايين دولار على مدى 15عاما.
وفى عام 2004، نشرت مذكراته الأكثر مبيعا بعنوان"حياتى"، وهى واحدة من بين أربعة كتب كتبها الرئيس السابق كلينتون. وقد حقق أرباحا تقدر بنحو 38مليون دولار كمؤلف فى الفترة ما بين عامى 2001 و2015.
وفى عام 2007، عندما كانت هيلارى تستعد لخوض الانتخابات الرئاسية. لم تكسب سوى 123 ألف دولار كمؤلفة ولم تجن شيئا كمتحدثة. ولكن فى عام 2015، كسبت مليون دولار من إلقاء المحاضرات وثلاثة ملايين دولار من الكتابة. وفى يونيو 2014، صدر كتابها "الخيارات الصعبة" كان توقيته مثاليا لموسم الانتخابات. ودفعت لها دار النشر سايمون آند شوستر 12 مليون دولار من عام 2013 إلى عام 2015.
أما كتاب "مواطن" فإنه أقرب إلى تكملة أو"ملحق" للكتاب السابق. يثير السخرية من العودة إلى حلقة أكثر إغراقا فى الخصوصية ومادة جافة، وإن كان المنطلق أو الفرضية منطقية بل بديهية. فماذا يفعل رئيس سابق فى واقع الأمر بوقته، بصرف النظر عن جمع مبالغ ضخمة من مقدمات النشر وتقاضى 250 ألف جنية إسترلينى مقابل كل خطاب لا تتجاوز مدته ساعة زمن واحدة!
الإجابة التى يقدمها لنا كلينتون هى "العمل الخيرى" فعند مغادرته لمنصبه كانت الأسرة حلى حافة الإفلاس؛ جراء التكاليف القانونية المتعلقة بتحقيقات قضية "وايت ووتر" وعملية عزل الرئيس فى عام 1998. وقد تم إنشاء مؤسسة "كلينتون" كما كانت تعرف آنذاك، فى عام 1997 لإنشاء مكتبة بيل كلينتون الرئاسية. واليوم أصبحت مؤسسة كلينتون عملاقة بميزانية تقدر بملايين الدولارت. وكما يقول موقعها الإلكتروني"منذ عام2001، حولت المؤسسة العمل الخيرى من خلال برامج تعمل على تنمية القادة وتسريع الحلول لأكثر التحديات إلحاحا فى العالم" مثل الزراعة بإفريقيا، إغاثة ضحايا زلزال هايتي، توفير الأدوية المضادة للإيدز بأسعار معقولة. بالنسبة للبعض كانت منظمة كلينتون قوة للحملات الخيرية، وبالنسبة لآخرين فهى مجرد "صندوق سري" مربح بشكل لا يصدق للعائلة وواجهة لتبييض السمعة للمانحين فى جميع أنحاء العالم.
رصد الكتاب قواعد كلينتون السياسية، والتى قال إنه يحتفظ بها فى متناول يده لعقود من الزمن من أجل شرح وتخفيف حدة المحادثات والحوارات السياسية. ومن بين البنود الثلاثة عشر المدرجة نصيحة مفادها "لا تشرب فى الأماكن العامة أبدا" و"الجميع مع التغيير بشكل عام ولكنهم غالبا ضده بشكل خاص "قاعدة أخرى تقول" أنت دائما أكثر عرضة للخطر عندما تشعر أنك غير قابل للهزيمة أو عندما تكون غاضبا ومستنزفا" و"اترك مشاعرك على عتبات قاعة العمل". وأضافت تجربة زوجته هيلارى إليه مزيدا من الحكم والقواعد لعل أهمها "أن الناس قد يتمنون لك الفوز لكنهم لا يرغبون فى أن تتحدث نيابة عنهم"
رغم أن الكتاب يتناول أحداثا حاسمة فى العالم والشرق الأوسط فى القرن الحادى والعشرين، بما فى ذلك حرب العراق، زلزال هايتى، والحروب الثقافية وانتخابات عامى 2008 و2016، وأحداث اقتحام مبنى الكابيتول فى 6 يناير2021، فضلا عن مناقشة اللحظات السياسة التى تعرضت لها هيلارى كلينتون. والتحديات غير المسبوقة التى جلبتها جائحة كورونا، وارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض بشكل مطرد، إلا إنه جاء سردا باهتا لم يكشف جديدا أو يطرح حلولا. فعلى سبيل المثال تطرق للحديث عن منطقة الشرق الأوسط فى عدة فقرات تدعو إلى وضع نوع من التفسير الأولى لتاريخ المنطقة! حيث ورد ما نصه"يجب على أمريكا التخلى عن مغامرتها المنكوبة فى أوهام الانقسام والهيمنة" وحينئذ فقط وفقا لتعبير كلينتون "يمكن لاختلافاتنا الصادقة أن تمنحنا الغد الأفضل".
نقطة تفوق كتاب "مواطن" تكمن فى ربط تجارب كلينتون الشخصية بمعلومات عن الأحداث العالمية. وفى الوقت ذاته يسرد بالتفصيل قصة مؤثرة عن علاقته بزعماء العالم. من أبرز تلك المواقف زيارة الرئيس جورج دبليو بوش وكلينتون سريلانكا لتفقد الأضرار التى خلفتها كارثة تسونامى فى عام 2004. ويروى كلينتون بتعاطف بالغ كيف كان بوش يحمل أعمالا فنية من إبداع أطفال فقدوا سبل عيشهم بسبب بفعل الكارثة الطبيعية وكأنها روائع لا تقدر بثمن. وفى الصفحات الثمانى للكتاب المصورة، هناك صورتان من تلك التجربة. تظهر الصورة الأولى الرئيس بوش الابن وكلينتون وهما يتفاعلان مع أطفال سريلانكا، حيث يحمل كلينتون ورقة ملونة. أما الصورة الأخرى فهى إحدى رسومات الأطفال لمحيط هادئ مع أوراق زنبق وبجع. إن إضافة مثل تلك الصور تضفى طابعا إنسانيا على ضحايا المأساة وتمثل استراحة ممتعة من النص المثقل بالمعلومات الجافة.
كما يلمح كلينتون بين حين وآخر إلى تفاصيل صغيرة دقيقة عن حياته كرئيس سابق تحول إلى مواطن عادي. ويرسم الخطوط العريضة لبعض القيود التى يفرضها عليه كونه رئيسا سابقا. حيث يشير إلى أن البيت الأبيض أمره بالامتناع عن الابتسام وعدم العبوس أيضا، وبدلا من ذلك أن يكون بلا تعبير انفعالى فى بعض الموقف أو لدى زيارة دول بعينها. وتصور القيود المفروضة عليه حياة مليئة بالحركات الحذرة بعد فترة طويلة من حملاته الانتخابية ووجوده بالبيت الأبيض. وهو ما يوفر للقارئ بعض البصيرة فى السلوك الجاد الذى يتسم به الساسة طيلة حياتهم.
ويمكنك استشعار مشاعر الحب العائلى لزوجته هيلارى وابنته فى جميع صفحات الكتاب. فحتى عندما يصف التصميم الداخلى لغرفتهما، يشرح كيف أنه أراد شراء منزلهما فى اللحظة التى لاحظ فيها زاوية تسمح بتسرب شعاع الشمس إلى الغرفة. فأخبر هيلارى على الفور ابنها سوف يستمتع بالاستيقاظ فى غرفة يتدفق عبرها الضوء حتى عندما تكون السماء ملبدة بالغيوم. الأمر الذى يساعد على تهيئة فرصة للمزاج الجيد والفوز فى انتخابات مجلس الشيوخ.
وعلى نحو مماثل يشعر كلينتون بالفخر بابنته تشيلسي. ويكشف أنه أعاد قراءة أطروحتها الجامعية ووجدها مبنية على بحث جيد وغير متحيز ومادة بحثية جادة. ويحرص على استعراض ووصف موضوع أطروحتها، ألا وهو مشاركته فى عملية السلام بأيرلندا.
وفى الوقت الذى ينقسم فيه الرأى العام بشأن بيل كلينتون، حيث يراه البعض رئيسا مؤثرا فى حين يعتبر آخرون ولايته وإرثه موصوما بفضائح وخطيئة الكذب، فإن قراءة كتاب "المواطن: حياتى بعد البيت الأبيض" سوف يدفعهم للتفكير فيه كإنسان يحاول تجاوز رئاسته باعتباره زوجا وأبا داعما.