”شارلي شابلن” صانع البهجة.. كتاب جديد لـ”أشرف بيدس”
كيف استطاع "شابلن" ابن لندن البكر والأشهر من اجتياز آلاف الأميال حتي يصل إلي ساحة مولد شعبي أو ديني هنا أو هناك ليستحوذ علي انتباه المريدين، بعدما يرتدي واحد من حواريه ملابسه الرثة ويطوف في الأرجاء يوزع الفرحة علي الكبار والصغار مقتسما القفشات والنكات مع هؤلاء البسطاء الذين يعرفونه جيدا وربما يجهلون اسم عمدة تلك المدينة التي يقام بها الاحتفال!! إنها ببساطة العبقرية التي لا تصنعها جغرافيا معتدلة أو تلفقها سطوة جائرة، إنها الضحكة التي تدخل القلب فتزيل تجعيدة القهر وتضمد جراح الحاجة وتزيح غبار الوجع، فهل استطاع أحد من شرقنا أن يخترق الغرب بكل هذا العنفوان؟ وهل استطاع آخر من غربهم من إعادة الكرة مرة أخري؟، لم يحدث ولن يحدث، لأن "شابلن"حدث يحدث مرة واحدة في الحياة.
بكتاب جديد يدخل إلى المكتبة العربية، عن حياة الممثل الشهير والظاهرة الكوميدية والثقافية في آن واحد معاً، شارلي شابلن، يتوسّع الناقد أشرف بيدس، بصفحات كتابه الـ 600 من القطع الكبير والموسوم بـ"شارلي شابلن. سيرة ذاتية"، في جوانب متعددة لهذا الفنان الذي ألهم العالم ودفعه إلى مساندة قضايا المضطهدين والمقهورين في أي مكان.
تتضمن مقدمة الكتاب والتي تحمل عنوان"قبل أن نبدأ"يشرح فيها الكاتب الأسباب التي دفعته لاقتحام عالم شابلن, ومن أجوائها "في الصغر.. اعتقدت أن شابلن شخصية غير حقيقية أتت من عوالم بعيدة، مخلوقات يشبهون البشر لكنهم لا يتكلمون، وأغلب الظن لا يشعرون، مخلوقات كل مهمتها في الحياة زرع البسمة علي الشفاة دون مقابل". ثم مشهد افتتاحي فانتازي, ثم مشهد مقتبس من أشهر مونولوج سينمائي في القرن العشرين جسده "شابلن"في أشهر أفلامه "الديكتاتور العظيم"1940.
لا يخفي الكاتب انحيازه لـ"شابلن"من السطور الاولي, ويعترف بذلك مستشهدا بـ"بيتر أكرويد"أحد كتاب السيرة الكبار, وهو واحد من عديدين كتبوا سيرة شابلن، مقتبسا مقولته ومعلقا عليها"أن الكتابة عن حياة الناس هي محاولة نقل طبيعتهم, وان الامر لا يعتمد علي الكره أو الحب", ونحن نتفق مع الجزء الاول من المقولة، بالفعل نسعي لنقل طبيعته، لكننا في الوقت نفسه لا ننفي انحيازنا للرجل كقيمة فنية عظيمة".
يدخل الكتاب إلي عالم "شابلن"حتي يصل إلي ساحة الشارع الشرقي، بوالورث، في قلب لندن، وهي الفترة التي اسماها بـ"المرحلة الرمادية"حيث جاء علي لسان "شابلن"في مذكراته بينما عمره لم يتجاوز بعد السادسة ""أذكر أنني كنت في الكواليس، حين ضعف صوت أمي بحيث لم يعد أكثر من لهاث، فأغرق الجمهور في الضحك، وراح يغني بأصوات ناشزة، ويطلق الصفير, وكان كل ذلك مشوشا كفاية بحيث لم أكن أفقه ما الذي يجري, لكن الصخب ازداد إلي حين اضطرت أمي إلي مغادرة المسرح. وحين عادت إلي الكواليس، كانت شديدة الاضطراب، وتناقشت مع مدير المسرح الذي سبق أن رآني أغني أمام أصدقاء لأمي، فقال إن في الإمكان تركي أقف علي المسرح بدلا منها", هكذا يولد الفنان ربما من المعاناة أو السخرية أو الحاجة لسد رمق العيش, ومن الطفولة التعيسة البائسة ودخول الملجأ والضياع الأسري والإنساني, تتفتح ثقوب قليلة تكاد تكفي لمرور هواء شحيح للتنفس تبدأ معركة الحياة التي وصفها شابلن "كنت أعلم وصمة العار الاجتماعي، الذي لحق بنا من جرّاء فقرنا".
ثم يعرج الكتاب بنا، بعد تفاصيل مريرة في رحلته إلي أمريكا مع فرقة الفريد كارنو , ثم العودة مرة أخري في 2 أكتوبر 1912 علي متن الاوليمبيك وبالدرجة الثانية, ومن ستوديو كيستون بمعاونة ماك سينيت الكوميدي العظيم ومكتشفه، تبدأ الرحلة ليقدم 35 فيلما, ثم يترك كيستون لينتقل إلي ايساناي (14 فيلما) ثم ميوتوال (11 فيلما) ومنها إلي فورست ناشيونال (9أفلام) حتي المحطة قبل الاخيرة من خلال شركته (الفنانين المتحدين) التي كونها مع أصدقاء العمر: ماري بيكفورد ودوجلاس فيربانكس, وأخيرا يأتي فيلما "ملك في نيورك"و"كونتيسة من هونج كونج"الذي صورهما في انجلترا بعد منعه من دخول أمريكا!! كان هذا الانتقال المتوالي من شركة إلي شركة يعني أرقاما كثيرة من الدولارات تجاوزت الست أصفار.. بدأها بـ 150 دولارا عن فيلمه الأول "سباق سيارات الاطفال في فينيسيا"1914 وبعد عام علي الاكثر كان يتقاضي مليون دولار كانت تكفي لشراء مقاطعة بيفرلي هيلز الصحراوية في ذاك الوقت.
يقول المؤلف في سياق حديثه عن شابلن: انه لم يكتشف التمثيل الايمائي, لكنه الوحيد الذي قام بتطويره وإحداث تغييرات تكنيكية احتفظ بحقوق اكتشافها وصارت منهجا انتهجه الكثيرون فيما بعد, كما أنه وضع حجر الاساس الذي شيدت عليه الجماهيرية (الشهر).
ويؤكد: عندما انتقل "شابلن"من الأفلام الصامتة الهزلية إلي الواقعية المباشرة, لم يكن هذا الانتقال شكلي, بل حملت أعماله نقدا مباشرا للرأسمالية والبرجوازية الاجتماعية, وكشف عن عيوب رأها البعض انجازات ضخمة للبشرية, كما وقف ضد الفاشية النازية وتهكم عليها, وعادي المكارثية الأمريكية, وقدم رؤي خالفت النظرية الشيوعية التي اتهم انه تبني أفكارها ومعتقداتها.
وفي سياق آخر يضيف: لم يكن المتشرد مجرد فرد بائس هامشي وغريب الاطوار فقط, وإنه يقف علي حافة الحياة ليرقب تصرفات البشر ساخرا منها, بل يمكننا القول أن مكانة المتشرد اتاحت له التحليل والقراءة المتأنية لكل ما يحدث حوله, وناب عن الملايين الذي مثل لهم النموذج والداعم لاحتياجاتهم.
لم يغفل الكتاب مواقفه السياسية التي دفع ثمنها ولم يتنصل منها رغم ما كلفته, ثم يدخل إلي عالمه السينمائي ملقيا الضوء علي العلامات البارزة في افلامه الـ (80) والممثلين الذين شاركوه هذه الاعمال.
ويخصص الكتاب فصلا منفصلا عن آراء النقاد بصفته واحدا من أهم خمس شخصيات في السينما العالمية بحسب تصنيف رابطة الكتاب والنقاد الأمريكية, حيث يؤكد المؤلف من الصعب أن نجد ناقدا سينمائيا أو متخصصا في شئون السينما بالشرق أو الغرب لم يتعرض لأعمال شارلي شابلن وإلقاء الضوء عليها, حتي أن الامر لم يتوقف عند هذه الفئة بل شمل العديد من الكتاب السياسيين والباحثين في مختلف مجالات العلوم الانسانية, من امثال جان بول سارتر , برناردشو, فيلليني, جيري استاين , فرانسوا تروفو , روجر ايبرت, ريتشارد أتينبور, روجيه فردينان, رولان بات, جورج سادول, أ. كوكارين, ولتر كير, رينيه كروفيل, إيفور مونتيجو, ديفيد تومسون, فيديريكو غارثيا لوركا, فرانز كافكا, فيليب سوبو, فلاديمير ماياكوفسكي, جيرالدين شابلن, رولان بارت, أندريه مالرو , ايزابيل رونييه, كاريل تشابيك, صلاح حافظ, كميل داغر, د. رمسيس عوض, محمود السعدني , جلينيس روبرتس, لاوين ميرخان, مارلين فيب, خليل عبد النور, ابراهيم العريس, سمير فريد, ضياء حسني, اندريه تاركوفسكي, انطوان جوكي, وليد خليل يوسف, باميلا هاتشينسون, بلال فضل, مجدي كامل واخرين من الشرق والغرب.
وعن دور المرأة في حياة شابلن يسرد الكتاب قائمة بالنساء الأشهر في حياته بدءا من الأم "هانا"وحتي آخر زوجاته "اونا"ويحلل العلاقة الشائكة حيث شكلت المرأة محطات رئيسية في حياة شابلن.. وصاحبته في رحلته الطويلة منذ الطفولة حتي رقاد اللحد.. تضفرت حكاياتهن مع حكايته خلال مشواره الفني, ونجزم بأنهما التصقا وصارا لا يمكن الفصل بينهما، ليصبح التأريخ لفنه مرتبطا بأحداث كانت للمرأة مشاهد مؤثرة بها، بل حركت الأحداث في كثير منها, مثلت القوة والضعف, النجاح والفشل, الدعم والاحباط, وأحيانا النور بكل بهائه والعتمة بوحشة غياهبها.
ويصف المؤلف: ان المرأة ظلت معضلته الرئيسية التي لم ينجح في فك طلاسمها، إلا بعد مرور نصف قرن من الزمان, وجاء الاستقرار في شكله الطبيعي بعد أن تقاعد عن العمل، فلم يرض الفن بالتعايش مع المرأة، ولم ترض المرأة بالتعايش مع الفن، كان لزاما أن ينسحب احداهما ليفسح مكانا للآخر، ربما يكون "شابلن"عجز عن فهم النساء ولم يدرك أولوياتهن العاطفية والإنسانية, واولي عنايته بفنه أكثر من عنايته بهن, وربما يكون أكثر الرجال فهما لطبيعتهن وادراكا لمواقيت الخريف والربيع ومواسم الحصاد, قد تكون الغيرة تملكتهن من نجاحه, أو أن الرجل عشق الترحال علي صدورهن ولم يعشق الاقامة الجبرية, علي اية الاحوال هناك حقيقة لا يمكن اغفالها أن توتر علاقته بالمرأة صاحبه نجاح فني مذهل، وأن نجاحه كان بالضرورة يجلب عليها الفاتنات الساحرات.
ثم يخصص الكتاب فصلا كاملا عن الاسماء اللامعة في الأدب والسياسة والاقتصاد والصحافة التي صاحبت شابلن في رحلته وتأثر بهم وتأثروا به, وكذلك ضمن هذا القسم توضيحا لكثير من المعاني والاسماء التي وردت في متن الكتاب.
يتضمن الكتاب ملاحق صور لجميع أفلامه وابطاله وافيشاته أعماله, وصوره مع مشاهير القرن العشرين, وكذلك التماثيل والعملات والطوابع التي حملت صورته. وصور لأهم الكتب والمجلات والجرائد.
وينهي الكتاب بالمشهد الأخير من حياته.. "فجأة اختفي الضحك، أو خفت صوته لدرجة جعلت منه نحيبا خفيضا، لكنه علي أية حال لم ينقطع، مات شابلن وعلي الوجوه ابتسامة من الماضي، ففي ليلة 25 ديسمبر 1977، عشية الاحتفال بأعياد الميلاد، وقبل أن تدق الأجراس.. أعلن في حي كورسييه سير فيفي وفي العالم أجمع ان قلب شارلي شابلن توقف ليستريح الرجل الاسطورة ويترك فراغا مازال صداه، لكن التلاميذ النبلاء يحاولون منذ لحظة الرحيل وحتي الآن تعويض الغياب".