كمال ممدوح حمدي يكتب..ليوناردو دافنشي زيارة لوجه الموناليزا
انتظر لحظة أخرى, أو
أبد الدهر, وحدك أو أن كل الوجود يساندك, هناك في قلب صاحبة هذا الوجه يختبئ السر
الذى غاب عن البشر, مكنون حين يذاع, ومفضوح حين يستغلق, وإلا فما الذى سحرك, ووضعك
في مجرى تيار يخرج من العينين أو يفضي اليهما؟
انتظر إنها توشك أن تبوح بسر السنين عبر ذلك الصمت الدافق, أو لعلها للتو
همست به منذ لحظة, قبل مجيئك, للفنان الذي جلست أمامه وصورها ,فتكون قد ضيعت العمر
في انتظار ما مضى ..من أراد المعرفة قبل المغامرة إن كانت قد غيبت عنك أسرارها حين
باحت لراسمها فلا تندم, ربما كان هو السر الواعد بقدر الفناء, وإن كانت قد حفظته
حتى تشد عيناها عينيك فلديك الفرصة كي تسلح روحك بالصبر, أو تمنيها بالوعد..
ماذا فهمت
من تلك النظرة, الهادئة والمجلجلة بالكتمان, مفعمة بالذعون والرضى والتسليم ,ونائمة على طمأنينة وسلام, أم
ساخرة وهازئة ومتعالية, ترثي لحظك, مزج غريب من الأنفة والانكسار, ومن الكبر
والتواضع يزكى عنفوان ذلك التيار الذي يشدك إليها ,لتحذر أو تعاند...,فاجتهد
أن تتصدى لها ,أو فألق بنفسك في راحة
الاستسلام ,ما شئت, فأنت لا تعرف إن كانت
تلك النظرة تدعوك و ترحب بك, أم تنهرك وتصرفك عنها..
جرب أن تنظر
إليها من الجانب الأيمن أو الأيسر, من الأعلى أو الأسفل ,هل رأيت أنها لا تحول
نظرتها عنك في كل الحالات؟ وهل لاحظت أنها تضيق فتحة العينين حين تنظر لها من
الجانب وتفتحها عن آخرها حين تواجه العين بالعين؟ فماذا ترى وقد جربت.. أهي نظرة
الأنثى التي تجذبك إليها ماضية في نسج حبائلها أم نظرة التربص الوحشي مطمئنة إلى
الفوز ..؟
شغلتك النظرة الغامضة
طويلا, فلا تبتئس ,من قبلك خمسة قرون حدق عبرها آلاف الآلاف في العينين فما وقفوا
على السر, واقرأ- اذا شئت –عشرات القصائد التي فاضت بها روح الشعراء. كانوا جميعا
في مثل حيرتك, ربما تكون أنت صاحب الوعد ,انتظرك السر هذا الزمن, وربما تكون, ومن
سبقك, أسأت الفهم. إنها هي التي تنتظر أن تسمع منك, فجرب أن تقول شيئا..
شد عينيك عن
عينيها, هاتان الشفتان تحملان المعنى لابتسامة نضجت على الخدين.. أعرفت لماذا
تبتسم؟ منذ لحظة فرغت من فعل جميل هي الآن تسترجعه, أو بعد لحظة هي موعودة به, هي
الآن تتعجله.
ربما كان
ذلك هو قدومك اليها الآن, إن تركتها ستخرج محملا بالهدايا منها, من النور
والموسيقى, أو ستخرج مطرودا فلست أنت المعني وقد اقتحمت عليها هذه الهدأة
المطمئنة, ابتسامة للحب أو القسوة, تعج
بمشاعر الظفر بك حبيبا أو فريسة.. تناديك لتهمس لك بالسر وأنت على قيد خطوة من
خطوتها, أو تشدك من الأذن لتلقي عليك آخر دروس الحكمة, أنت الآن لا تدرسها لأنك
موضوع للدراسة , فلا تهمس بشيء لأنها تحاول أن تدخل خزانة أسرارك, وبعد لحظة
ستعريك أمام نفسك لترى بداخلك عالما محشوا بالغرور والظلمة يتحدر منهارا أمامها
وأمامك.. اغمض عينيك قليلا ليكون نظرا ثاقبا ,وارسم على وجهك تقاسيم الحكمة فقد
تنجو منها ..إن انطلت حيلتك..
هذه الابتسامة هدية لك, مثل هدية اليونانيين لأهل طروادة
– الحصان الخشبى - مدججة بالسلاح!!
انتزع نفسك عن النظرة والابتسامة كي ترى بقية
الصورة.. صخور تجلس عليها ليزا, هي الآن أقدم من تلك الصخور,ذابت عبر القرون التي
مضت, أما هي فباقية في جلستها منذ خمسة
قرون وأبقت معها تلك الصخور الضائعة .. أرأيت كل شيء في اللوحة يردك ثانية الى
صاحبة الوجه..
البحر في تلاشي زرقته, والتقائه في البعيد مع تلاشي زرقة
السماء يصنعان سهما يدفع بصاحبة الوجه الى سطح الصورة, اليك, على الملامسة من
وجهك.. وأنت تنصرف عنها, وبلورية الجماد المحايدة في نصاعة الشجر والصخر تدفع الى
التلاشي بكل شيء عداها ..كل شيء مكرس لها, ولشعورك يشبعه أو يقلقه , يهبه سانحة
للراحة , أو للضجر.
ان كنت قد تعبت فعد الى صاحبها
..ليوناردو دافنتشي (1452-1519م) ,والذي رسمها عام 1503 لم يكن يلتقط ظاهر الأشياء بل أسرارها, وهو في لوحته يصور سرا دون أن يجهر
به, لا مجرد وجه، فبقى السر في الفن ومات صاحبه, أو فكفاك للراحة, أن تعيد على
نفسك كلمات هورا س في " فن الشعر" .
الحياة قصيرة .. والفن باقٍ.
اعلامي وكاتب موسوعي