د. عزة القصابي تكتب (ولد البلد) عرض مسرحي يبحث عن الضمير الغائب!
مسرحية تصب جرعات الفساد في قنينة زجاجية…وتطالب بالعدالة!
بدل أن يستهل (مسرح العرفان) ليلة الافتتاح بعرض موسيقي أو استعراضي ، كان الافتتاح بعرض مسرحي بعنوان (ولد البلد) للكاتب والمخرج مالك
المسلماني بصحبة الفريق الفني من
المشاركين في هذا العمل الفني. ويُعد
(مسرح العرفان) الأكبر على مستوى الشرق الأوسط، الذي يتسع
لنحو 3200 مشاهد. ويقع هذا المسرح في مركز عمان للمؤتمرات والمعارض في مدينة مسقط،
ويتميز باحتوائه على تقنيات وفنيات في الإضاءة
والصوت والتكنولوجيا البصرية المزودة
بكابلات التيتانيوم المتصلة بأجهزة الإضاءة Artnet. إضافة إلى ذلك فإن النظام الصوتي في هذا المسرح
وفق نظام فيديو داخلي يسمح بعرض البرامج
المصورة بجودة عالية وعلى مساحات قياسية.
ومن منطلق ذلك، قررت شركة (اكاسيا ) للإنتاج الفني والتوزيع، تقديم عرضها المسرحي (ولد البلد) في فضاء مسرح العرفان ، وجاء هذا العرض كثمرة لجهود متواصلة من التمرينات المسرحية التي دامت لشهور عديدة.
النجم العماني يتألق في عرض (ولد البلد) بمسرح العرفان
وانتقى المسلماني نجوم الصف الأول: (صالح زعل، فخرية خميس، عبدالغفور البلوشي، جمعة هيكل) ليكونوا الخط الأمامي لتحريك الحدث المسرحي، وسنادهم الصف الثاني(عبدالحكيم الصالحي، وقحطان الحسني، ومحمد السيابي والصلت السيابي، وفيصل الجهوري وأنغام المطروشية) .
لقد اسهمت مشاركة نجوم الفن العماني في عرض مسرحية (ولد البلد) على استقطاب الجماهير الواسعة، وغالبا ما تقترن العروض المسرحية الجماهيرية بشهرة نجوم الصف الأول، خاصة في ظل التمويل الذاتي، مع مساندة الراعيات والاعلانات والاخبار الاستباقية بهدف الترويج للعرض المسرحي.
ورغم أهمية وجود النجوم في الأعمال المسرحية الجماهيرية، إلا أن صناعة النجم العماني، تأخرت عن مثليتها في البلدان الأخرى، ووقع على الفنان عبء كبير ليشق طريقه بنفسه، وأن يناضل من أجل الظهور لإنتاج أعمالا درامية، يحرص على استدامتها ليحظى باعتراف الآخرين .
في الغالب على مستوى الوطن العربي، يتوجه
المتفرج لمشاهدة عرض مسرحي معين، نظرا لوجود نجمه المفضل لديه ، عندما تذهب
الجماهير المصرية لمشاهدة عرض مسرحي من بطولة محمد صبحي، فإن هدفها الأول مشاهدة
الفنان محمد صبحي، الذي يحظي بثقة متابعيه
عنداختياره لمسرحياته
الهادفة التي تعبر عن قضاياهم الاجتماعية
والثقافية . ومحمد صبحي نجم غني عن التعريف، استطاع أن يؤسس مدرسة مسرحية، لها مبادئها
وقناعتها، كونها تمثل
الشريحة الُعظمى من المجتمع المصري
المتعطشة للمسرح الهادف، لذلك فإنه لا
غرو أن يشهد شباك التذاكر إقبالا جماهيريا كبيرا.
وفي
مسرحية (ولد البلد) تمكن مالك المسلماني
من إيجاد شخصية (مرهون) وهو مواطن بسيط، لا يمتلك حق شفط بلاعته المنزلية! ...وهو يفتقد الكثير من المقومات المادية التي تمكنه العيش بيسر ورخاء. وفي ظل تكالب
الديون والضغوطات الاقتصادية، يضطر مرهون
للعمل في أعمال غير شرعية، ويعقد
العزم على التخلص من ضميره والقضاء عليه،
وقتله لكي لا يشعر بتأنيب ضميره الذي قد يكبح لجام رغباته، وبموته فإنه سيتمكن
من التغاضي عن الزلات والحصول على المال ونيل المناصب بأساليب غير أخلاقية ووصولية.
تستمد شخصيات العرض الدعم اللوجستي من قوى الشر المتمثلة في
شخصية (أمينة) التي تؤديها الفنانة (فخرية خميس)، وهي تمثل الجانب المظلم من حياة مرهون بأسلوب رمزي،
إضافة إلى أعوانها برئاسة والدها (صالح زعل) ، وأخويها اللذين قام بأداء أدوارهما الفنانين القديرين (جمعة
هيكل وعبدالغفور البلوشي).
في خضم الصراع بين الخير (المثل والقيم) والشر (الفساد،
ضياع الضمير) تتكشف عدد من الشخصيات التي
بدت في مجملها متناقضة في آرائها وتصرفاتها ، فهي تقول شيئا
وتفعل شيئا آخر! بأسلوب كوميدي
ساخر يقترب من كوميديا الموقف، ويؤكد أن (الأمور طيبة).
واتصف الحدث الدرامي في هذه المسرحية، بأنه ظل يدور وسط دائرة لا متناهية ، عندما جعل مؤلف النص ومخرجه الاحداث تبحث عن الضمير الإنساني في ظل انعدام الأمانة وانتشار الفساد بكافة أشكاله بين الناس، دون وجود رادع رقابي.
مع تبرير ذلك بضعف الرقابتين الذاتية و
الخارجية عند ارتكاب الفساد بأشكاله وأنواعه المختلفة. ومن المؤكد أن اضمحلال
القيم والاخلاق تكون عاملا في تأخر الأوطان، وضياع الجهود وتشتتها بسبب
وجود شخصيات غير أمينة، و غير قادرة على
احتواء قضايا المجتمع .
فصلا عن ذلك، فقد تعرض المؤلف المسلماني في نصه المسرحي لصفة (الحسد) وتفشيها بين الناس، كونها تقترن بأفعال أخرى مشينة مثل الفساد والرشاوي
وغياب الضمير. ونجد (مرهون) بأسلوب كاريكاتيري ساخر يقترح أن تصب جرعات الحسد المتفشية في المجتمع في قنينة
زجاجية ، تعرض في سوق انحلال القيم والمبادئ واضمحلال الضمير الإنساني.
كما أحالنا نص هذه
المسرحية إلى بعض الظواهر السلبية عند المسؤولين، مثل اعطاء مصوغات واهية، تختبأ ضمنها
الكثير من التجاوزات المهنية، كما يحصل
عندما يقوم المسؤول وأعوانه بالاستيلاء على مهام العمل الرسمي كما هو الحال في بعض
الجهات الحكومية ، وتحويلها إلى رحلات سياحية مدفوعة الأجر؟!
إضافة إلى عدد من الاحالات المجازية، التي تصف الواقع
العقيم الذي يغيب فيه الضمير الذاتي، ويغرق في لجة من التجاوزات التي تؤكد تدني المستوى الأخلاقي،
المرتبط بسلسلة من الجرائم المستترة؛ سرقة
الأموال العامة والاختلاسات وسلب الأموال العامة. ويسوق المؤلف مشهدا كاريكاتوريا
آخر، عندما يقوم المفسدون بالتستر تحت مظلة الدين، فنجدهم يقومون ببناء مساجد كنوع من التكفير عن استلاب المال العام ، والتخفي تحت شعارات وهمية
، تشرعن أفعالهم، وتبيح لهم العبث بالمال
العام جملة وتفصيلا.
زاوج عرض مسرحية (ولد البلد) بين
تيارين مسرحين: الواقعي والرمزي، وفي حالة
المزاوجة بين هذين التيارين في
العروض الجماهيرية ، فإنه يصعب وضع تصور إخراجي واضح وفق مدرسة معينة. و ساد في هذه المسرحية الحوار السردي، التفصيلي ، الذي يفند القضية المطروحة على لسان أبطاله، الذين يظهرون
وهم يتحدثون عن قضية ضياع الضمير وأزمته ...مرارا وتكررا.
وأكدت سينوغرافيا العرض المسرحي بجميع عناصرها؛ الأزياء والديكور والمكياج موضوع المسرحية، الذي
نأى بنفسه عن الانتماء لبيئة معينة، حيث ظهر وكأنه موضوع يمكن أن يحدث في أي بقعة
من العالم. مع الاعتماد على الديكور الثابت كالكتل في عمق المسرح، بعضها استغل والآخر ظل كمفردة من مكونات الفضاء المسرحي .
وارتدى الممثلون أزياء عالمية منفصلة
الهوية عن الواقع العماني، حتى يسهل تجريدها من الزمان والمكان وتحويلها إلى رموز بشرية عامة، يمكن ان تجدها في كل مكان.
بشكل عام فإن البشر تتفاوت لديهم نسب الالتزام بالأخلاق الإنسانية؛ كالأمانة والأخلاق الفاضلة. والكثير منهم من
يتنكر وينتهج طريق آخر قائم على الفساد، وعدم المساواة والعدالة، وأكل حقوق الناس،
فالغاية تبرر الوسيلة كما أكدها نيقولا مكيافيلي في كتابة (الأمير) منذ خمسمائة
عام مضت.
لقد تمكن عرض مسرحية (ولد البلد) من
التعبير عن قضية ملحة ومهمة في واقعنا المعاصر الذي أصبح يعاني من أزمة
الضمير!...وسانده في ذلك وجود ممثلين لهم
تاريخ فني، مكنهم من التميز في الأداء
والتمثيل رغم الحوارات السردية الطويلة ، إضافة إلى الصف الثاني من النجوم الصاعدين.
ولابد من الإشارة إلى المجاميع او
الكومبارس الذين كانوا يرتدون اللون الأسود، ويؤدون أدوارا استعراضية تعبيرية راقصة، تتآلف
من الأرواح الشريرة المحرضة على موت الضمير الإنساني، وهي بمثابة (الجوقة) التي
تتشكل وفق الموقف الدرامي وسط المجموعات الاستعراضية، والتي تمكنت من التقليل من الحوار السردي على لسان الشخصيات، وشاطرتها شخصيات أخرى في الأداء والاستعراض والغناء .
ولما كان الاستعراض والأداء الحركي التعبيري هو الفاصل الحقيقي بين مفردات النص الذي تشرب بمفردات فقدان الضمير وضياع الأمانة، صاحب ذلك تخلل المؤثرات الموسيقية من تأليف وألحان الفنان وليد الهشيم، والتي مزجت بين الحدث الدرامي والألحان الموسيقية ، وبقية المؤثرات الصوتية عبر تآلف جمالي ونغمي، وبعض الألحان المأخوذة من التراث العماني .. جميع ذلك صنع لوحة فنية بصرية نابضة برسالة العرض، تميزت بزيادة جرعة الجرأة والصراحة والمباشرة في التنديد بقوى الفساد في احداث المسرحية لقرابة ساعتين من الزمان.
د. عزة القصابي
ناقدة فنية