الكاتب الصحفى مصطفى أمين يكتب ”الرقمنة والقوة الذكية”
مفهوم القوة واحداً من المفاهيم الكبرى والرئيسية في أدبيات العلوم الاجتماعية والسياسية. و قد صيغت كثير من المفاهيم المترادفة له، أو المشتقة منه، باعتباره "القدرة على التأثير على الآخرين"؛ لتحقيق الأهداف العامة المرجوة. لقد كان الاهتمام بالقوة غير المباشرة، أو القدرة على التأثير دون تدخل عسكري، أو ما عرف بالقوة الناعمة، هو نتاج طبيعي لإدراك النخبة فى الدول الكبرى لحاجتها إلى كسب التأييد العالمي دون اللجوء للقوة العسكرية ذات التكلفة العالية، سواء أكانت تكلفة اقتصادية أو بشرية، أو تبعاتها الخطيرة المدمرة.
يعد مفهوم ( القوة الناعمة ) والذى ظهر فى تسعنيات القرن الماضى و اخذ عدة تعريفات مختلفة والذى قامت فكرتة الاساسية فى طرحة على وجود وجه غير مادى للقوة قوامة الجاذبية المستمدة من ثقافة الدولة وقيمها ومصدقيتها الناتجة عن ممارستها وما ينتج عنها يعتبر مكونا وأصلا من أصول القوة الناعمة، مثل جاذبية شخصية القيادة، والثقافة، ومؤسسات الدولة والقيم السياسية، والسياسات التي يراها الآخرون مشروعة أو ذات سلطة معنوية أخلاقية والتى تتسق مع هذه القيم وتاكيد ضرورة عدم تجاهلها فى هذا الجانب المهم من القوة والأكتفاء بالتركيز على الأبعاد المادية والعسكرية والأقتصادية الى جانب ذلك هناك مفهوم اخر للقوة الناعمة وهو الحصول على ما تريد من خلال الاقناع وليس الاكراه والاجبار وذلك عن طريق الجاذبية والتى تنشا من ثقافة بلد ما .
ومع تطور مفهوم "القوة الناعمة" والذى تغير، ليؤسس لمفهوم جديد حيث اثبتت الدراسات صعوبة التعامل والرهان على القوة الصلبة بمفردها، أو القوة الناعمة فقط في الشأن الدولي، بل يجب الجمع بين القوتين معا والذى اطلق على المفهوم الجديد ( القوة الذكية )
لكى تصبح الدول عظمى لابد لها من استيفاء عدة شروط وتوافر مقومات كثيرة بدءا من امتلاك مستوى مرتفع من عناصر القوة الشاملة انتهاء باقرار الدول الاخرى لها بتلك الوضعية فى النظام العالمى ففى ضوء الطفرة التى تشهدها دول العالم فى مختلف الأتجاهات على المستويين الاقليمي والعالمي والتحول الى عالم الرقمنة التكنولوجية فان ( القوة الذكية) صارت تمثل ركنا مهما فى الادوات لدى الدول يستلزم التعرف عليها وكيفية استخدامها ورصد وتحليل أوجه القوة والضعف فيها بما يساعد على تحديد مدى اسهامها فى تثبيت وضمان استمرارية الدولة واستعادة مكانتها فى الساحة العالمية على المديين القريب والبعيد خاصة ان ثمة مجالات جديدة للتنافس وادوات مختلفة للتفاعلات صراعا وتعاونا بين الدول فى ظل ظهور ما اطلق عليه ( القوى الذكية) واعادة ترتيب اولوياتها فيما يتعلق بتنمية مصادر هذه القوة واستخدامها على الوجة الامثل وتطوير كفاءة المؤسسات المعنية ببناء القدرات وتوظيف واستثمار مصادرها بحيث تتناسب مع مخرجاتها والموارد المخصصة لها . وتعد هذه القوى واشكالها غير التقليدية هى المقابل العكسى لأدوات الصراع والتنافس العسكرى والمادى (القوة الصلبة )
فعندما تبدو السياسات مشروعة فى عيون الأخرين تتسع قوتنا الناعمة ومع انتشار مفهوم هذه القوة كمفهوم جديد فى العلاقات الدولية والذى يخالف مفهوم القوة التقليدى الموجود . واصبح مفهومة استخدام جميع اشكال ممارسات القوة عدا اللجوء للحرب . واصبح الصعود العالمى والاقليمى للقوى المختلفة بشكل سلمى و البحث والاعتماد على مصادر وعناصر اخرى للصعود مثل الجذب والاقناع والاعجاب فى مختلف الجوانب والتى اصبحت اساس القوة الناعمة والتى تستمد اهداف قوتها عن طريق وسائلها ومفرداتها
وبكل تاكيد ان استخدام القوة الناعمة لأبد من تعزيزها بتحسن صورة الدولة بالخارج ومكانتها فى النظام الدولى القائم على اهم مصادر قوتها الناعمة وتعريف الاخر بمدى قوتها والتى تقدم فيها وتشرح اهمية جغرافيا بلادهم وتنامى قوتها العسكرية ودورها فى تشكيل السياسات العالمية وتاريخها الممتد من اجل تحسين صورة البلاد فى الخارج وتوحيد جهود الدبلوماسية الرسمية والشعبية فى استخدام القوة الناعمة بما يخدم هيبة الدولة على الصعيد الدولى والتاكيد على
اهمية جذب المجتمع المدنى الى السياسة الخارجية باسهام المنظمات الغيرحكومية وجمعيات رجال الاعمال فى منتديات السياسة الدولية مع الاخذ فى الاعتبار المخاطر المصاحبة لاستخدام القوة الناعمة بهدف التدخل فى الشئون الداخلية للدول وذلك من منطلق الوعى باهمية دورة فلابد من حصر ووضع اجراءات وسياسات للبلاد لأستخدام القوة الناعمة فى الحفاظ على ثقافتها واستغلالها على نحو يجعل منها قوة فاعلة لتحقيق تقدم ملموس فى المحافل الدولية وتحقيق تقدم ثقافى يرتكز على تصدير الثقافة للخارج بما يخدم مصالح الدولة وافكارها ومنتجاتها .فالقوة الناعمة اصبحت جزءا من الجهود المبذولة لتحقيق اهداف السياسة الخارجية للدولة و بدون شك ترتبط مقومات القوة الناعمة بالتكامل والتنسيق بين المؤسسات الرسمية وغير الرسمية مع ضرورة توافر الحد اللازم من كفاءة وفاعلية ومهاراة الدبلوماسية والسياسات العامة فى الميادين الاقتصادية والثقافية والتعلمية والدينية والرياضية والعلاقات الشعبية مع المجتمعات الاخرى بما فى ذلك تنظيم المهرجانات والمعارض والمسابقات وتشجيع الابتكار والاختراع والدراسات التطبقية التكنولوجية المتقدمة
فلم يعد العالم يتحدث فقط عن الثقافة كعنصر وحيد في تعريف القوة الناعمة فهناك عددا من المؤشرات والتى تقيس مدى قدرة الدولة على أن تكون نموذجا يحتذى به، منها ( مؤشرات حجم الصادرات الإبداعية، وعدد الأفلام المشاركة في مهرجانات دولية، وعدد المتاحف والزائرين لها ..إلخ)، وايضا فقضايا التعليم والدور الدينى لهما مكانة واهمية كبيرة الى جانب ما سبق عن طريق ضرورة الارتقاء بالتعليم لمواكبة التطورات العالمية وتطوير المناهج التعليمية لمسايرتها وتعزيز قدرتها على جذب الطلاب من الخارج الى جانب تطوير التعاون بين البلدان (مثل عدد الجامعات في التصنيف الدولي ، وعدد الطلاب الأجانب، والأبحاث المنشورة في دوريات علمية عالمية، وعدد مراكز التفكير، وحجم الإنفاق على التعليم، ونسبة الأمية)، ودرجة الشفافية والمساواة بين الجنسين والعدالة الاجتماعية، ودرجة الثقة، علاوة على مؤشر المشاركة الدولية (عدد السفارات، والعضوية في المنظمات الدولية، وعدد المكاتب الثقافية، )، ومؤشر الثورة الرقمية (عدد مستخدمي الإنترنت، والخدمات الحكومية على الانترنت واستخدام التكنولوجيا المتطورة والخدمات الحكومية على الانترنت، وعدد المتابعين والمتواصلين على السوشيال ميديا، وأخيرا المؤشرات الاقتصادية المرتبطة بالابتكار والريادية في ( قطاع الأعمال) .
اما العامل الدينى حيث يتم توظيف الدين لتحقيق المصالح القومية للدول واهداف سياستها الخارجية من خلال تبنى سياسات وبرامج تنسجم مع قيم الدولة ومبادئها وما تعليه من شعارات وما تسعى اليه من اهداف كما ان القوة الناعمة الدينية وتصحيح الخطاب الدينى تشير الى قدرة الدولة على التاثير والجذب والاقناع
مما سبق يتضح لنا انه لأبد ان نمتلك ادوات ومقومات هامة للتاثير وبناء الوعى وبدون شك سوف يكون الأعلام هو صاحب التأثير الاكبروالضخم بشقية (المكتوب والمرئى ) لما له من دور كبير خاصة اذا كان يقدم بعده لغات وذات تاثير قوى وتفعيل نشاط المراكز الثقافية والعلمية عن طريق تنظيم شتى الفاعليات الثقافية كالمعارض الفنية والحفلات الموسيقية وعمل دورات لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها وايضا كما ينبغي أن تتوافر الجهود لحركة ترجمة و نشر طموح للإبداعات الفنية والفكرية التي تحصل على أرفع الجوائز لدينا. فالحديث عن قوة ناعمة، دون حركة ترجمة تنقل للعالم ما نفكر فيه وما نؤمن به من قيم، يبدو عملا لا معنى له.
الى جانب ذلك تلعب منظمات المجتمع المدنى دورا هاما على تعزيز وتصحيح صورة الدولة وتعزيز اواصر التعاون الاقتصادى والثقافى من خلال توفير المعلومات الموثوقة والموثقة واتاحة البيئة الملائمة على التفاعل الخلاق فى التنمية الاجتماعية والعلمية ايضا الى جانب ذلك الدور المهم والكبير لمجالس الاعمال فى توطيد العلاقات سواء على المستوى الاقتصادى او السياسى
إن التعامل مع مفهوم ( القوة الذكية )على أساس كونه مفهوما يتصل بالقدرة السياسية الخارجية على التأثير في العالم الخارجي فقط هو تعامل يتجاهل تحولات مع بعد ثورة التقنية الرقمية التي فتحت الحدود بين الخارج والداخل، ومن ثم فإن أي سياسة داخلية، إنما تعكس طبيعة التعامل الخارجي مع العالم، فلن يكون مقبولا إتباع سياسة خشنة في الوقت الذي يتم فيه التعامل مع العالم بوجه ناعم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الحديث عن سياسة خارجية جذابة يتطلب أن تضع السياسة الخارجية على رأس أولوياتها القضايا التي تثير اهتمام العالم، دون التقيد بالقضايا الإقليمية .
واؤكد هنا الى ان التميز الكبيرله اهمية كبيرة فى المرحلة الراهنة من تاريخ العالم اذ توجد دول مستوفية كل شروط الدولة العظمى لكن ثمة شرطا جوهريا هو ما يجعل بعض الدول خارج دائرة الدول العظمى هو الارادة فا الدول لاتصير عظمى تلقائيا ولا رغما عنها لمجرد امتلاكها المقومات والامكانات اللازمة فلكى تاخذ موقع الفاعل الرئيسى والمحورى فى العالم لابد من امتلاك الرغبة والارادة لتنفيذه ومن ثم توظيف الامكانات والمقومات التى تتمتع بها للعب ادوار وممارسة سلوكيات تعكس مكانة دورك فى هذا العالم
فالارتقاء الى مصاف الدول العظمى صعب جدا على الدول الصاعدة ويستغرق اعواما طويلة ولكن الاكثر صعوبة هو استعادة مكانة ووضعية الدولة العظمى بعد فقدانها لمكانتها لان الانهيار له تبعات سلبية شديدة . فلابد ان تعمل مؤسسات الدولة والنخب على تجاوز تلك المحنة واعادة بناء المقومات المعنوية للدولة عند الراى العام مرة اخرى والذى لايتم الا عبر الوعى باحياء الشعور الوطنى القومى .
كاتب المقال الكاتب الصحفى مصطفى امين مدير تحرير وكالة أنباء الشرق الاوسط