تربعت على عرش الرقص ومشى فى جنازتها رجلان ...اسرار فى حياة شفيقة القبطية
عام 1871م كان يوجد في مصر العديد من الراقصات، ولكن كانت هناك واحدة هي الأشهر بينهن ووصلت شهرتها إلى منازل العائلات الكبيرة والعريقة، حيث كانت هى الراقصة الوحيدة التى تدخل إلى منازلهم، وأيضًا هى الراقصة الوحيدة التى ترقص فى حفلات الخديوى، كما رقصت فى حفل افتتاح قناة السويس الذى تم فيه تكريم الإمبراطورة أوجينى، وكانت تدعى (شوق)، وعندما دعيت الأخيرة لترقص فى منزل عائلة قبطية عريقة وشهيرة، بمناسبة زواج أحد أفراد هذه العائلة، استطاعت أن تخلب ألباب السيدات والفتيات برقصها الرائع.
وفي فترات استراحة (شوق) كانت الفتيات المدعوات يرقصن مشاركة للأسرة فى فرحها وكان هذا عرفًا سائدًا فى ذلك الوقت، ونهضت من بين المدعوات آنسة سمراء جميلة التقاطيع فاتنة القسمات جميلة الملامح ملفوفة الجسد، وبدأت بالرقص بطريقة بارعة جدًا أدهشت الجميع وأيضًا أعجبت بها شوق إعجابًا شديدًا، وعندما انتهت الفتاة من الرقص ذهبت إليها "شوق" وراحت تقبلها معبرة عن إعجابها، وقالت لها: اسمك إيه يا عروسة؟
فقالت الفتاة فى استحياء: شفيقة.
فقالت شوق: أنت خسارة.. ما تجى أعلمك الرقص أنت موهبة.
وسمعت والدة شفيقة هذا الحديث فغضبت بشدة ورأت أن ذلك إهانة شديدة، إذ كان الرقص فى ذلك الوقت حرفة منحطة فى نظر الأسر الكبيرة، وكان يطلق على محترفاته «الغوازى» والجدير بالذكر أن شفيقة كانت من عائلة مسيحية متدينة جدًا ومحافظة، وقامت والدة شفيقة على الفور مصطحبة ابنتها ولكن «شوق» و«شفيقة» تبادلا النظرات التي كانت تقول إن هذه ليست النهاية.
اعتبرت شفيقة نفسها محظوظة جدًا أن راقصة شهيرة مثل شوق تعجب بها، لذلك استغلت تدين عائلتها وكانت تخرج من المنزل على اعتبار أنها سوف تذهب إلى الكنيسة للصلاة، حيث ولدت عام 1851م بشبرا، وكانت تتردد على كنيسة سانت تريز، ولكنها فى الحقيقة كانت تذهب إلى منزل (شوق) بشارع محمد على، من أجل أن تتدرب على الرقص بشكل احترافى، حتى جاء يوم واختفت شفيقة تمامًا ولم تعد إلى المنزل، وقلقت عليها أسرتها وجن جنونها، وقام أهلها بالبحث عنها فى كل مكان، لكن دون فائدة، وبعد ستة أشهر علمت عائلتها أنها تعمل راقصة فى أحد الموالد الكبرى بالوجه البحرى، فأرسلت إليها قسيسًا من أصدقاء الأسرة لينصحها بالرجوع عن هذا الطريق الذى يزلزل مكانة عائلتها، ولكن القسيس فشل فى إقناع الفتاة التي بدأت تضع قدميها على أولى درجات الشهرة والغنى، ولم يسع الأسرة المحافظة إلا أن تتبرأ من ابنتها المارقة، فما كان منها إلا أن أرفقت أسمها بالقبطية تيمنًا بدينها.
ولم تعبأ الفتاة بهذا القرار، وعادت إلى القاهرة لتعمل مع أستاذتها (شوق) فى الأفراح الكبرى، وبعد ستة أشهر ماتت (شوق) فخلا الميدان لشفيقة، وفى فترة قصيرة تربعت على عرش الرقص الشرقي، ولمع اسمها، فأصبحت الأسر الكبيرة تتباهى بأنها جاءت بـ«شفيقة القبطية» فى فرحها.
وأرادت شفيقة أن تجري تجديدًا يتناسب مع شهرتها، فابتدعت «رقصة الفنيار» فكانت تميل بجسمها إلى الخلف وتحمل على بطنها منضدة صغيرة تضع عليها أربع أكواب مملوءة بالشربات، وتضع على جبينها فنيارًا «شمعدان» مضاء بالشموع، ثم ترقص وفى يدها الصاجات على هذه الحال، فلا تسقط الأكواب ولا ينزلق الشمعدان لقدرتها العجيبة على حفظ توازنها.
وسرت شهرة هذه الراقصة، فسعى إلى شفيقة أصحاب الملاهى الكبرى يغرونها بالأجور لترقص فى ملاهيهم، حتى استطاع ملهى «الإلدورادو» أن يظفر بالتعاقد معها.
وبذلك بدأت حياة جديدة، وبدأت الثروة تتدفق عليها، وبدأت فى حياة شفيقة قصة جديدة تشبه قصص ألف ليلة، كانت يومئذ قد تم نضخها، واكتملت أنوثتها، وبدت فاتنة، فالتف حولها عشرات من المعجبين الأثرياء، وأحاط بها رهط من العظماء والكبراء، وتوافد لمشاهدة رقصها كبار السياح الأجانب الذين نقلوا اسمها وشهرتها إلى الخارج.
وعندما تقف شفيقة على خشبة المسرح لترقص كانت الجنيهات الذهبية تتناثر تحت أقدامها تحية لها من المعجبين والعشاق، ولكنها كانت لا تمد يدها إلى شىء منها، بل كانت تستخدم ثلاثة من الخدم يجمعون هذه الجنيهات ويقدمونها لها بعد انتهاء وصلة الرقص، وقيل إن واحدًا منهم كان يحتفظ لنفسه ببعض هذه الجنيهات، فاستطاع فى مدى قصير أن يقتنى ثروة اشترى بها عقارات فى حي شبرا، وبذلك استطاع أن يعتزل الخدمة.
وانتقلت شفيقة للرقص فى ملهى ألف ليلة، فكانت تظهر فى ملابس موشاة بخيوط من الذهب، وتلبس حذاءً غطت كعبه طبقة من الذهب، وزينته قطع من الماس الحقيقى.
واتسعت شهرة الراقصة العجيبة، فبدأت إحدى الشركات الفرنسية التي تصنع أدوات ومواد الزينة تضع صورة شفيقة على منتجاتها، فظهرت زجاجات عطر ومراوح وعلب بودرة تحمل صورتها، فراجت فى أنحاء العالم، وظهرت مناديل رأس عليها صورة شفيقة فتهافتت عليها حسان مصر، وتلقت شفيقة كثيرًا من الهدايا التي بعث بها السياح الذين شاهدوها فى مصر، ومن بين هؤلاء تاجر فرنسى أعجب بشفيقة وأحبها، وأراد أن يتزوجها فرفضت، وعاد يقترح عليها أن يأخذها إلى باريس لتعرض فنها هناك، فاستهوتها المغامرة، وسافرت حيث رقصت فسحرت باريس التي كانت يقام فيها يومئذ معرض دولى كبير، استأثرت الراقصة المصرية بمعظم رواده.
وعادت شفيقة إلى مصر لتستأنف استقبال المجد والثراء، وكانت عاصمة الأناقة باريس قد صقلت ذوقها، فازدادت أناقتها، وأصبحت الملابس التى تلبسها والحلى التى تتجمل بها هى موضة العصر عند سيدات الطبقة العليا.
وأحست أنها ملكة الرقص فأرادت أن تستكمل أبهة الملك فاقتنت ثلاث عربات حنطور فاخرة، واقتنت عشرات من الخيل الأصيلة، فكانت إذا خرجت صباحًا ركبت عربة "كومبيل"، وإذا خرجت ظهرًا ركبت "تينو"، وإذا خرجت ليلًا فى الصيف ركبت "الفيتون" المكشوف.
وكل عربة من هذه العربات يجرها أربعة من الخيول، ويحيط بها اثنان من «الأمشجية» ويتقدمها اثنان من السياس يصيحان: "وسع.. وسع".
وحدث أن كانت تتنزه مرة بموكبها هذا فى الجزيرة، وكان الأمير حسين كامل يتنزه فى نفس المنطقة، فلما رأى الموكب ظنه لأحد الأمراء، ولما عرف الحقيقة غضب وذهب إلى الخديوى وأخبره بأن هناك سيدة مصرية تنافس الأمراء، بل تنافس الخديوى نفسه فى الأبهة والعظمة وسرعان ما أصدر الخديوى «ديكريتو» يمنع أصحاب العربات من استخدام السياس والأمشجية، وقصر استخدامهم على الخديوى والأمراء.
ومن مظاهر الأبهة التى كانت تعيش فيها أميرة الرقص «شفيقة» أنها كانت تستخدم طائفة من الخدم الإيطاليين، وكانت لا تفصل لهم ملابسهم إلا عند أشهر خياطين فى مصر وهما «كلاكوت، وديفز براين» اللذين كان الوزراء يفصلون ملابسهم عندهما.
وكانت إذا انتقلت من بلد إلى بلد استأجرت صالونًا خاصًا فى القطار تركبه مع حاشيتها وخدمها، وفى حياة شفيقة القبطية جوانب إنسانية رفيعة، فقد كانت كريمة إلى حد الجنون أحيانًا، فيروى أنها رأت مرة مشاجرة بين رجلين، فسألت عن سببها فقيل لها إن أحد الرجلين استأجر من الآخر دكانًا وعجز عن دفع إيجاره عدة أشهر فقامت بينهما هذه المعركة، فتقدمت شفيقة ودفعت متأخر الإيجار كله ومنحت مستأجر الدكان منحة سخية.
وسمعت مرة أن تاجر أقمشة كبيرًا ممن كانت تتعامل معهم، موشك على إعلان إفلاسه، فأسرعت إليه لتمده بمال يحول دون إفلاسه.
وإلى جانب هذا كانت لا تحجم عن إحياء أفراح بعض الفقراء دون أن تتقاضى أجرًا، بل وكثيرًا ما كانت تمنح العروسين مساعدة مالية تعينهما على قضاء شهر عسل سعيد.
وكان هناك اثنان من أثرياء مصر يعشقون شفيقة القبطية، ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ ﺃﻧﻔﻖ فى ﺳﺒﻴﻞ رضاها ﻣﺌﺎﺕ ﺍﻷﻟﻮﻑ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻨﻴﻬﺎﺕ ﺣﺘﻰ ﻓﻘﺪ ﺛﺮﻭﺗﻪ ﻋﻦ ﺁﺧﺮﻫﺎ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﻈﻔﺮ ﻣﻦ ﺷﻔﻴﻘﺔ ﺑﺄﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻟﻤسة يد، ﻭﺍﻟﺜﺎنى ﺛﺮى ﻛﺒﻴﺮ ﻛﺎﻥ ﺩﺧﻠﻪ ﻻ ﻳﻘﻞ ﻋﻦ 300 ﺟﻨﻴﻪ ﺫهبى فى ﺍﻟﻴﻮﻡ، ﺑﻠﻎ ﺇﻋﺠﺎﺑﻪ ﺑﺸﻔﻴﻘﺔ ﺇﻟﻰ ﺣﺪ ﺃﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﻳﺄﻣﺮ ﺑﻔﺘﺢ ﺯﺟﺎﺟﺎﺕ ﺍﻟﺸﻤﺒﺎﻧﻴﺎ ﻟﻠﺨﻴﻞ ﺍلتى ﺗﺠﺮ ﻋﺮﺑﺔ "ﺍﻟﺴﺖ ﺷﻔﻴﻘﺔ ﺍﻟﻘﺒﻄﻴﺔ".
كانت شفيقة تملك الكثير مثل ﻋﺪﺓ ﻗﺼﻮﺭ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﻴﺶ ﻓﻴﻬﺎ، ﻭاﺳﺘﻄﺎﻋﺖ ﺃﻥ ﺗﺤﻘﻖ ﻛﻞ ﺃﻣﻨﻴﺔ ﻟﻬﺎ فى ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺇﻻ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﺣﺎﻝ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﺩﻭﻥ ﺗﺤﻘﻴﻘﻬﺎ، ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﻤﻨﻰ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺃﻣًﺎ، ﻭﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻨﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﻣﻨﻴﺔ ﻓﺘﺒﻨﺖ ﻃﻔﻼً ﺳﻤﺘﻪ «ﺯكى» ﻭﺃﻏﺪﻗﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺤﻨﺎﻥ ﻭﺭﻓﻬﺘﻪ ﻛﻞ ﺍﻟﺘﺮﻓﻴﻪ ﻓﻨﺸﺄ ﻣﺪﻟﻼً ﻭﻛﺎﻥ ﻳﺮﻫﻘﻬﺎ ﺑﺎﻟﻤﻄﺎﻟﺐ ﻓﻼ ﺗﺒﺨﻞ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﺃﻓﺴﺪﻩ ﺍﻟﺘﺪﻟﻴﻞ ﻓﺘﻌﺎﻃﻰ ﺍﻟﺨﻤﺮ ﻭﺍﻟﻤﺨﺪﺭﺍﺕ، ﻭﺃﺭﺍﺩﺕ ﺃﻥ ﺗﻔﺮﺡ ﺑﻪ ﻓﺰﻭﺟﺘﻪ ﺯﻭﺍﺟًﺎ ﻣﺒﻜﺮًا، ﻭﺃﻗﺎﻣﺖ ﻟﻪ ﺍﻷﻓﺮﺍﺡ ﺳﺘﺔ ﺃﻳﺎﻡ، ﻭاﺷﺘﺮﻙ فى ﺇﺣﻴﺎﺀ ﻓﺮﺣﻪ ﻋﺪﺩ ﻛﺒﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻄﺮﺑﺎﺕ ﻭﺍﻟﻤﻐﻨﻴﻦ، ﻭﻟﻜﻦ ﺍﻟﺸﺎﺏ ﺃﻣﻌﻦ فى ﺇﺩﻣﺎﻧﻪ ﻟﻠﻜﻴﻮﻑ ﻓﻤﺎﺕ ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﺯﻭﺍﺟﻪ، ﻭﺣﺰﻧﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﺷﻔﻴﻘﺔ ﺣﺰﻧًﺎ ﻫﺰ ﻛﻴﺎﻧﻬﺎ.
ومع مرور الوقت تقدم السن بشفيقة، فبدأ طابور المعجبين يتناقص، وبدأوا يتخلفون واحدًا فى إثر واحد، وتلفتت وراءها فلم تجد منهم أحدًا، فعادت إليهم تناديهم فلم يستجب أحد للنداء، وبدأت تدفع ثمن إعراضها عنهم وإمعانها فى إذلالهم، بسطت يدها بالمال للشباب المحروم، فكان ينعم بمالها ولا يعطيها من الحب غير القشور، وكانت كلما ضنوا عليها بالعاطفة سخت عليهم بالمال لتشترى جرعة من الحب تطفئ بها ظمأ نفسها.
وبدأت الثروة تتبدد بعد أن بطل السحر وولى الشباب، ولم يبق لشفيقة من كل ذلك المجد غير ذكراه، ولم يبق لها من ثروتها غير بيت واحد فى شبرا أرادت أن تعيش فيه فأجرت بعض غرفه، ولكنها أحبت شابًا حملها على بيعه، فباعته وافتتحت محلاً لبيع الخمور فى شبرا، ولكنها اضطرت لبيعه إرضاء لفتى جديد لم يلبث أن هجرها.
فاضطرت للرقص مقابل ما يسد الرمق، وأشاحت الوجوه عن شفيقة لتتجه الى ثلاث حسان جديدات ظهرن فى عالم الرقص هن "معتوقة، وزهرة العربية، ونفوسة غرام"، ومع أن هؤلاء لم يبلغن ما بلغته شفيقة من القدرة إلا أن جمالهن كان كفيلًا بتفوقهن عليها.
وخبأ ضوء شفيقة، فراحت تتسول فى الطرقات وتطلب العون من قدامى العشاق، وافترشت الحصير فى أحد البيوت الشعبية، ومرضت وأصبح جسدها هزيلًا وضعيفًا، حتى أشفق عليها صاحب هذا البيت الشعبى وحاول أن يعالجها ولكن فى النهاية توفيت شفيقة القبطية بعد عناء و مذلة عن عمر يناهز الخامسة والسبعون عامًا، فى عام 1926 وأغمضت شفيقة عينيها، بشارع نخلة مسقط رأسها بشبرا، ولم يمشِ فى جنازتها إلا اثنان، هما زوجها الكمسرى الذى بدأت نجوميتها تلمع بعد زواجها منه مباشرة، والذى كان دائم المطاردة لها بسبب الترف والثروة الهائلة التى تحصلت عليها شفيقة من عملها كراقصة، والآخر عربجى الكارو الذى كان يحميها من زوجها بعد انفصالها عنه، حسبما ذكر في كتاب "ألرقص بين أهل الدين وأهل السياسة".