«غربة المنازل» تنتصر على الخوف بالفكاهة والحب
فى «غربة المنازل» الصادرة عن الدارالمصرية اللبنانية يتخذ عزت القمحاوي من عزلة كوفيد خلفية لأحداثها وشخصياتها المتعددة، لكن الوباء لا يحرك الأحداث إلا بوصفه فسحة من الصمت تركت للحواس التعبير عن نفسها، كما أتاحت للشخصيات الوقت لمراجعة ما عاشته لاهثة دون أن تتحقق إن كانت حياة الانتصارات والنجاحات المهنية هي ما أرادته فعلا؟.
تعطل الكلام بفعل الإغلاق والعزلة فأفسح المجال لملمس الحياة ورائحتها وطعمها وألوانها، وإذا كان الاهتمام بالحواس ملمح أساسي في كتابة عزت القمحاوي، فقد بدا أكثر وضوحًا في «غربة المنازل» يمنحها الكثير من البهجة ويجعلنا نرى عالما من الأحلام وقصص الحب تحت مظهر العزلة الحزين.
تتعانق في الرواية الفنتازيا مع الواقع، كما تبرز الفكاهة والسخرية في الكثير من المواضع.
كثير من الأحداث ذات مرجعيات حقيقية تتطور بعد ذلك إلى هوس عام ووسواس جماعي لا تتبين فيه الحقيقة من الخيال، بالإضافة إلى أن كل شخصية من شخصيات الرواية لديها هوسها الخاص، الطبيب الذي تعطلت حياته بسبب قوة حاسة شمه الخارقة، لكن هذه الحاسة بالذات هي التي ستجعله يتقاعد ويتفرغ للعيش،
اكتسب خبرة كشف أكثر السرقات خفاء، منحته الثقة لمطاردة الفيروس حتى أعماق شقق جيرانه، ما أوقعه في مشاكل بسبب ما اكتشفه من أسرار، مؤرخ يحلم بآلة توقف آلة التاريخ الخربة، فيعتزل الحياة قبل عزلة كوفيد الجماعية ويختبئ في مشاهدة مسلسلات الأطفال مستريحًا إلى هذا التاريخ الموازي الذي ينتصر فيه الخير دائمًا، ثم يعود إلى الغرق في أوبئة التاريخ عاقدًا المقارنات بين أوبئة الماضي ووباء الحاضر. وهناك الباحث البيولوجي الذي أفنى حياته في تجارب فاشلة لتهجين الذباب، لكنه ينجح في العثور على الحب، وسط هدوء الحديقة التي يتريض فيها وقت العزلة.
ومما جاء في الرواية:
كان من الممكن أن يواصل وديع هذا الانقسام حتى مماته، لكنه استأنف المشي في الحديقة بعد إلحاح من ابني شقيقه اللذين أصابهما القلق من أن ينتهي نهاية والدهما. وجد سيدة الكلب كما كانت، لا تخلف توقيتها اليومي قبل الغروب.
واظب كل منهما على الدوران في اتجاه مختلف، والتقاطع، في مصادفة يدبِّرها أحدهما، ثم بدأ تعارفهما، كما يتعارف الناس؛ كلمة حول الطقس ذات أصيل. كلمة حول الكلب في يوم آخر، كلمة حول سنوات غربة وديع، كلمة حول وحدتها، وهكذا توطدت علاقتهما، وبدآ الدوران باتجاه واحد في تلك الحديقة المهجورة.
طرح اليأس خلفه، واكتشف أن الحياة ليست حربًا عبثية مع الذباب، بل مباراة شطرنج تكفي نقلة واحدة موفقة للفوز فيها، بشرط أن يكون القدر قد أنجز نقلتين أو ثلاث متعاطفات.
لو قضى بقية عمره دائرًا في الحديقة وراء لطيفة العراقي، ما كان لشيء أن يحدث بينهما لولا أن الحياة أخذتها إلى دربه. كان لابد أن تعمل في قسم الترجمة بمنظمة دولية، وتعشق زميلها الهندي هيرام باندي، ويموت هيرام بعد خمس سنوات ويترك لها طفلهما راجي، فتربيه وحدها، وكان لابد أن يضجر راجي من الحياة في مدينة الغبار ويرحل إلى مدينة «الله أباد» مسقط رأس أبيه، التي صار لها اسم جديد لا تتذكَّره لطيفة بسهولة. وتتباعد اتصالات راجي، فتشعر بثقل الوحدة.
بعد أن مزجهما الحب صار كلاهما يتدلل على الآخر:
ـ كُنتَ تتبع خطاي مثل «ليل».
ـ كُنتِ تحاصرينني كذبابة.