حوار بين جيلين (1/3).. صلاح بوسريف: تركت السياسة رغم انتمائي الحزبي
صلاح بوسريف واحد من أبرز شعراء جيل الثمانينات في المشهد الثقافي والشعري المغربي، قدم على مدار رحلته مع الشعر العديد من الأعمال الشعرية منها “فاكهة الليل 1994”، و"على إثر سماء"، "شجر النوم"، و"نتوءات زرقاء"، و"حامل المرآة"، و"شهوات العاشق" إلى جانب العديد من الكتابات الفكرية ومنها "المثقف المغربي.. بين رهان المعرفة ورهانات السلطة".
بوسريف حاصل على شهادة الدكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها، في موضوع الكتابة في الشعر العربيّ المعاصر، رئيس سابق لاتحاد كتّاب المغرب، فرع الدار البيضاء، عضو مُؤسِّس لـ "بيت الشعر" في المغرب.
في حوار بين جيلين، يحاوره الشاعر والناقد التشكيلي الشاب عز الدين بوركة، والذي يعد أحد أبرز الأصوات الشعرية والنقدية الشابة، قدم عبر رحلته مع الشعر أعمال منها "حزين بسعادة"، و"ولاعة ديوجين"، إلى جانب العديد من الدراسات والكتابات النقدية في مجال الفن التشكيلي منها كتابه "الفن التشكيلي في المغرب من البدء إلى الحساسية".
وإلى نص الحوار :
ليكون حوارنا من مرحلة البدايات، والمرحلة الزمنية التي جاءت منها تجربة صلاح بوسريف الشعرية.. بالتحديد سنوات الثمانينيات من القرن الماضي، وهي مرحلة توصف بـ"الانعطاف" ! عن أي انعطاف نتحدث؟ وما دمنا في صدد الحديث عن الانعطاف، يعني نحن إزاء أزمة، فما هي الأزمة التي جعلت تلك المرحلة تنعطف إلى تصور مختلف للشعر وممارسته؟
يفرض علي السؤال، قبل الإجابة عنه، أن أقف عند كلمة «انعطاف» التي وضعتَ بعدها علامة تعجُّب[!]، ما يعني أنك تشكُّ، أو لا ترى أن هناك انعطافاً كما سميتَه. الأمر هنا يتعلَّق بالشِّعْر، والشعر إبان ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كان شعارات، استغرقتْهُ السياسة والحزب، إما مَالَ إلى ما هو قومي، وهذا من شعارات الخمسينيات، من نفس القرن، أو إلى الفكر اليساري الاشتراكي، أو الشيوعي.
كان الصراع على أشده، من أجل التحرُّر والتقدم، وكان الفكر تقليداني محافظ يميني، إذا شئت، وأنا هنا أتحدَّث عن نُظُم سياسية رأسمالية أو ليبيرالية، في مقابل نُظُم يسارية تقدمية. فكر جَرَّ خلفه الثقافة، وضعها في سياق السياسة، ما انعكس، بصورة خاصة على الشِّعْر الذي كانت تهيمن عليه «القصيدة»، ببنياتها الشفاهية الإنشادية، ما سأعد على توظيف الشِّعْر ليكون صراخاً في وجه ما اعْتُبِر نُظُماً ذات منحى رجعي، أو حتَّى أحزاب كانت بهذا المعنى.
المغرب، لم يكن استثناء ما سُمِّيَ عندنا بسنوات الرصاص، يدل على احتدام المواجهة، وعلى انسلاخ الشعر عن سياقه الفني الجمالي، ليكون أداة سياسية أيديولوجية، وهذا ما يمكن أن تعثر عليه ببساطة في دواوين هذه المرحلة، وفي عناوينها التي كانت مؤشراً على هذا المعنى.
أنا، واحد من الجيل الذي شرع ينتبه إلى السياق الفني الجمالي في الشِّعر، لن أبالغ إذا قلت لك، كنت أول من كتب بهذا المعنى، شعرياً ونظرياً، وديواني الأول «فاكهة الليل»، حين تفتحه لن تجد فيه أي أثر لما هو سياسي، بل إنه جاء من أفق آخر، كان «انعطافة» بالفعل، دون أي استغراب أو تعجُّب، لأن مرجعياته كان تميل إلى المعنى الإنساني الكوني، وتركتُ خلفي السياسة، رغم أنني، آنذاك، كنت منتمياً سياسياً، وأنا فكري يساري، لكن ليس بمعنى الانتماء الحزبي المغلق.
عليك، إذن، أن تُزِيل هذه الأداة من سؤالك، لأن الانعطافة كانت فعلاً وحقيقة، وكان لها أثر على من جاؤوا بعدنا. بعض الأعمال تدل على هذه الانعطافة، رغم أن بعض أفراد هذا الجيل لم يخرجوا من سياق الانتماء الحزبي والأيديولوجي، وأعمالهم بقيت غارقة في الصراخ السياسي، وأنت تعرف هذه الأعمال، كما تعرف أصحابها.
البداية، كانت شعرية، أو فنية جمالية، في أفق إنساني كوني، ولم تكن انحيازاً لـ «القصيدة» أو الشفاهة والشعار والخطابة، وهو ما سيتبلور بوضوح أكثر في الأعمال الشعرية والنظرية اللاحقة.
خاض صلاح بوسريف "معارك" كبرى في ساحة المثقف والسياسي.. هل دور الشاعر أو الكاتب أن يخوض تلك المعارك؟
عطفاً على ما سبق، إذا كنت قرأتَ كتاب «المثقف المغربي بين رهانات المعرفة ورهان السلطة»، ستنتبه إلى أنني ميَّزْتُ بين السياسة والسياسي، بالمعنى الذي أعطته حنه أرندت، للسياسي الذي هو تفكير المثقف في السياسة بالوعي المعرفي والثقافي أو الفكري، أو أنه لا يدخل السياسة، إذا شئت من باب السياسة نفسها، لأن هذا شغل المشتغل في السياسة، بل من باب الثقافة والفكر والمعرفة، وهذا ما يجعل المثقف تكون عينه غير عين السياسي، وقراءته غير قراءة السياسي، ورؤيته عير رؤية السياسي. جميع الشعراء والفلاسفة والفنانين الكبار، عبر التاريخ، كانوا بهذا المعنى. لذلك، فأنا نظرياً أُعَزِّز رؤيتي الثقافية، بوعيِ سياقاتها الفكرية، من خلال الوعي السياسي، الذي هو تفكير في السياسة بالسؤال، وبالتفكيك والنقد، وبتجديد معنى السياسة، لا بتجميدها، وتحويلها إلى معتقدات جامدة ميتة.
لا يمكن للمثقف أن يكون دون وعي سياسي، وهذا الوعي يشحذ رؤيته، يُجلِّيها ويُعمِّقُها، إذا كانت السياسة عنده هي ما يقرأ به الكون والوجود والأشياء، لا ما يرهن به خياله، كما حدث لشعراء ما قبل الثمانينيات في المغرب، و في غيره من جغرافيات العالم العربي.
هل نحن إذن نتحدث عن مفهوم المثقف عينه، إن نظرنا إلى السجل التأليفي في مواضيع ثقافية وسياسية داخل المغرب والعالم العربي، التي كتبها بوسريف؟ وأين يكمن دور الشعر في كل هذا "الحدث" وهذه العقود في ظل بزوغ فجر تيارات أدبية التهمت هذا الحقل الأدبي، مثل الرواية؟
الأدب بدوره أصبح مفهوماً يحتاج إلى المراجعة والفحص والتفكيك. ما الذي نعنيه بالأدب، وهذا التعبير هو تعبير جاءنا من ماضي الثقافة العربية، ولا يمت بصلة إلى الكتابة الإبداعية التي ضمنها الشِّعر، مثل «القصيدة» التي هي ماض ما زال يُقيم في الحاضر دون مراجعة ونقد. إذا كان وضع المفاهيم المرتبطة بالإبداع، فيه نظر، فكيف يمكن أن نطمئن إلى مفهوم المثقف، الذي هو مفهوم نسبي، إذا ما بقي في حدود اهتمام الكاتب بالشِّعر دون غيره، أو بالفن دون غيره.
الحقول والمعارف والعلوم تشعبَّت، وتداخلت، بعضها صار يتصادى مع بعض، بشكل يصعب حسمه، أو فصله، بالأحرى، لذلك، الشِّعْر في تجربتي أفقه ثقافي معرفي جمالي، السياسي فيه جوهر، وليس قشرة وسطحاً، بالمعنى الذي يجعل السياسي، هو فكر وخيال الإنسان، وهما يتجدَّدان، ويفتحان الطُّرق والآفاق.
أنا اليوم لا أكتب «القصيدة»، ذهبت منذ عقدين من الزمن أو أكثر إلى النص، في مقابل الخطاب الذي هو الشفاهة والقصيدة، أو إلى العمل الشعري، أو الكتاب، نص واحد في كتاب، أو في أكثر من كتاب، وأنت قرأت بعض هذه الأعمال وكتبت عنها، وهي أعمال تفرض علينا، بل عليّ بإلحاح، سؤالاً، هو ضمن كتاب نظري يدخل في سياق هذه التجربة: لماذا لا نتكلم في هذه الأعمال عن شعر آخر، وليس عن الشعر كما نعرف؟
ما لم نُنْصِت إلى الأعمال الشِّعرية، وإلى الكتابات النظرية المُحايثة لها، لا يمكن أن نعرف ما يجري في الشِّعرية العربية من اختراقات كبيرة وخارقة. السبب، هو أن بعض الأشجار اعتبرناها الغابة، ولم نعد ننظر إلى الشِّعر في اختراقاته واقتراحاته.
رغم كل ما عرفه الشعر من تراجع من حيث المقروئية والاهتمام بالنشر، ظل صلاح بوسريف مخلصا بشكل شبه نضالي إلى هذا "النداء" بتعبير هايدغر؟ لماذا إذن أخلص بوسريف للإقامة في الشعر؟
وُجِدْتُ شاعراً، لأموت شاعراً. الشِّعر هو الشمس التي أتاحت لي أن أكتشف مساحات الظل التي هي انعكاس ليدي، لأناملي، لعينيّ، وللألوان التي أراها في أحلامي، أو هو شكل إقامتي على الأرض، صوتي وطريقة رقصي وأنا أمشي، لأن الشِّعر رقص، وليس مشياً، كما ذهب إلى ذلك بول فاليري.
في الشِّعْر أجد ما يكفي من وقت لأتخيل، وأسْتَشْعِر الطبيعة وهي تَسْتَجْوِبُني، وتسعى إلى معرفة رأيي في ما تقترحه عليَّ من جمال وغناء، لأن الشعر هو الإيقاع والخيال، وليس الوزن بالضرورة، باعتباره «دال الشِّعْر الأكبر» كما توهَّم ذلك بعض الباحثين والشُّعراء، في ما أنجزوه من أطاريح جامعية.
أنا لا أناضل، أكتب الشِّعر دون غيره، بل أدافع عن شكل وجودي وإقامتي على الأرض، وأكتب شهادتي، في ما عليه الإنسان كما رأيته، وعشتُ معه، بكل أفراحه وأحزانه، بما فيه من شر وخير، وما يسعى إليه من بناء وتدمير. حين كتبت عن الجنة والجحيم، كتبت لأرى ما يمكن أن يُتِيحه لي الوجود في العدم، هل هما بنفس الطعم، كما «في الذبول الأخير من الحلم»، أم أن طعم الرماد هو ما يبقى في حلوقنا، لا طعم الورد.
عطفا على اشتغال مغاير، وقليلون من يعرفون ذلك، بدأت موهبة صلاح بالرسم، ما زلتم تحتفظون برسومات البدايات، ثم عرجت الموهبة صوب اللغة الشعرية، لماذا تخلت يد بوسريف عن الريشة لترسم الكلمات؟
نعم، كانت الألوان هي ما أخذني قبل الشِّعْر، لذلك، وإلى اليوم، ما تزال عيني تعمل دون هدنة، في تأمل العمارة والطبيعة والأشياء بكل تفاصيلها. وستجد فيما أكتبه، العين وهي تحضر بقوة في التخييلات والتركيبات المجازية للصوُّر الشعرية. لا أترك حاسَّة تهيمن على أخرى، لكن العين، كانت عندي، منذ الطفولة، هي نفس عين الماء، النبع الذي يُتِيح الورد في الرماد.
منعتني أسرتي من الرسم، لأنه في اعتقادهم سيمنعني عن متابعة دراستي، ولم يدركوا أنني كنت، أصلاً، تلميذاً فاشلاً، وبقيت هكذا إلى أن طُرِدتُ من السنة الأخيرة من التعليم الابتدائي.
ربما الشِّعر، في المرحلة الإعدادية، في مدارس التعليم الحر، التي لجأتُ إليها لاستكمل تعليمي، كان هو ما عوضت به هذا القهر الذي انتابني، وربما أن الشِّعر، كان ثاوياً في الرسم، لم أعِهِ إلا لاحقاً. الأمر صعب أن أفسره بغير هذا الغموض.