الكاتب الصحفى طه خليفة يكتب .. ” ما تسرسبيش يا سنينا من بين إيدينا ”
كل عام وأنتم بخير بمناسبة العام الجديد 2022.
وقد اخترت عنواناً غير تقليدي لهذا المقال، وهو بيت من إحدى الروائع الغنائية، لواحد من روائع الشعراء الغنائيين المصريين والعرب، الراحل سيد حجاب، وهو شاعر أكبر من أي وصف، وكلمة المبدع بمعناها الحقيقي يستحقها وأكثر.
مقدمة دستور 2014، شارك النابغة سيد حجاب في كتابتها، وتقديري أنه وحده من كتبها، وهى آية في الكتابة السياسية بلغة وعمق ورصانة وبلاغة الشاعر الأديب المثقف، كلما رجعت لهذه الوثيقة الدستورية أظل اتمعن في عبارات هذه المقدمة لأتعلم كيف ينتقي المبدع الكلمات، ثم ينظمها في عقد قشيب، فتخرج العبارات مثل اللؤلؤ النادر.
من يتابع الدراما سيعرف فوراً أن البيت الذي اخترته عنواناً ورد في كلمات أغنية المقدمة لمسلسل،(ليالي الحلمية)، الذي يحوز شهرة ومكانة متقدمة في سجل الدراما المصرية الحافل بالقوة والرسوخ والبهاء.
هذا العمل، واحد من أيقونات الفن المصري، في زمن العنفوان والسخاء الفكري والفني، وتقديري أن القديم يحتفظ برونق خاص، وأن الجديد يصعب أن يكون مثله، رغم التقدم في التقنيات الحديثة التي يُستفاد منها في الإبهار في المشاهد والصور والإخراج، والقديم في سينما الأبيض والأسود أيضاً هو كنز ثمين لا يقدر بثمن، ولو أُعيد إنتاج أحد أعماله اليوم، ودون استخدام الألوان، فإنه لن يكون مماثلاً للقديم أبداً.
هناك تطور طبيعي في الحياة، وهذه سنة الوجود، لكن المدهش أن الماضي يحتفظ بنوع من الأصالة والخصوصية لا تجدها في الحاضر. الناس أيضاً اليوم، ليسوا كمن كانوا في أجيال سابقة؛ الآباء والأجداد، وكذلك منظومات الأخلاق والقيم والأعراف والتقاليد الإيجابية.
ولا أدري مع مرور السنوات، هل تجد الأجيال اللاحقة لنا أن عصرنا كان أفضل من عصرهم أيضاً، هل التطور لا يتجه اجتماعياً وفنياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً وعلى مختلف المستويات نحو الأجود والأحسن؟.
(ما تسرسبيش يا سنينا من بين إيدينا
ولا تنتهيش ده إحنا يا دوب إبتدينا..
واللي له أول بكرة حيبان له آخر..
وبكرة تفرج مهما ضاقت علينا).
أربعة أبيات من المقدمة الشعرية لدراما، (ليالي الحلمية)، ترتبط بالزمن والسنين التي ينفرط عقدها من بين أيادينا، وحجاب يستخدم الفاظ العامية المصرية الجميلة الندية العفية التي تزداد ألقاً وتألقاً مع التعمق في معانيها، ومع توظيفها بشكل طبيعي وسلس واحترافي في مختلف مجالات الإبداع.
(ما تسرسبيش، يا دوب، بكرة، حيبان، تفرج ...)، عظيم سيد حجاب، صاحب قاموس شعري نادر، ونحات بارع للألفاظ والكلمات ذات المغزى العميق.
ومقدمة، (ليالي الحلمية)، صارت خالدة في كتاب الدراما، وسكنت الأذن والقلوب بلا خروج، وحينما تستمع للنغمة الأولى منها تعرف أننا بصدد مقطوعة نظمها فنان بديع هو سيد حجاب، ولحنها أستاذ كبيرهو ميشيل المصري، وغناها مطرب أصيل هو محمد الحلو الذي شكل مع الكبير علي الحجار أهم ثنائي لغناء مقدمات ونهايات الأعمال الدرامية الرائعة.
كنت محظوظاً بمشاهدة الجزء الأول من،(ليالي الحلمية)، عام 1987، وكنت وقتها في بداية السنة الرابعة والنهائية بكلية الإعلام، جامعة القاهرة، وانتبهت مبكراً إلى أننا بصدد دراما تطابق الواقع، أوكأنها الواقع في كل تفاصيله، وأنها ليست مجرد تشخيص وتمثيل، وتأكد ذلك مع متابعة المصريين والعرب باهتمام واسع وحتى اليوم وبعد مرور سنوات على إنتاج وعرض أجزاء المسلسل.
وقد تابعت الأجزاء التالية بشغف، مثلما كنت أشاهد رائعة،(رأفت الهجان)، للراحل العظيم صاحب الوطنيات صالح مرسي، ودروس الأخلاق في (المال والبنون) للمبدع الكبير محمد جلال عبدالقوي، وغيرها من سيمفونيات الدراما التلفزيونية السامية، وتقريباً تابعت كل أو معظم أعمال عكاشة، وكان أول تلاقي لي معه وأنا طفل مع مسلسل (المشربية) الذي تم إنتاجه عام 1978.
أين الفن اليوم؟. نحن في مرحلة تتسم بالقحط الفني والإبداعي من سينما ومسرح ودراما وغناء وتلحين وكتاب ومؤلفين، أخشى أن نكون أمام تجريف وتشويه للعقل والوجدان باسم فن سفيه ولقيط، ونتمنى أن تكون هذه المرحلة استثنائية، وتأفل سريعاً، ولا تعود مرة أخرى أبداً.
ومن الفن المصري الأصيل، وعظمته، والقدرات المذهلة لصناع هذا الفن في مراحله الذهبية، إلى عامنا الجديد والسنين التي تتعرض لـ (السرسبة من بين إيدينا) دون أن نشعر، وننتبه فقط حين تأتي ذكرى يوم المولد، فنجد أننا كبرنا عاماً، وأن سلسة العمر تزحف نحو نهايتها.
الأمل نعمة من الله، ولولاه لأصيب الإنسان باليأس مع التقدم في العمر، الأمل يُطمئن النفس بعدم القلق، فالعمر لايزال ممتد، والأفكار والطموحات والأشغال كثيرة، والخطط موضوعة لسنوات قادمة، وهذا أمر طيب، ولا مشكلة فيه، فالإنسان مُطالب بمواصلة إعمار الأرض، والعمل حتى آخر لحظة في عمره، ورسولنا الكريم صل الله عليه وسلم يقول: إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فليغرسها، أو فليزرعها، وهذا تقدير لقيمة العمل المفيد النافع.
ولهذا لا يجب القعود، أو التثّاقل إلى الأرض، الكفاح مطلوب، والحركة فيها تجديد للحياة، لا ينام إلا الخامل، ولا يقعد إلا القانط، ونحن مأمورون بعدم القنوط، وعدم اليأس من روح الله ورحمته، بناء الإنسان لكيانه، وسعيه في الحياة، وبناء الأوطان، بحاجة لأصحاب الهمم الذين يصرون على بلوغ القمم.
الكاتب الصحفي الكبير الراحل الأستاذ حسنين كروم ظل يعمل ويكتب ويعد رسالته اليومية من القاهرة لصحيفة (القدس العربي) اللندنية حتى وفاته، رغم مرضه واستقواء آلام القلب عليه، إلا أنه لم يستسلم.
وكثيرون غيره لقوا ربهم والقلم في أيديهم، والفأس بين قبضتهم، والماكينة في المصنع في أمانتهم، وكذلك كل من هم في أعمالهم يشاركون في بناء الوطن، والسيدات المكافحات فاتحات البيوت والساعيات على الرزق الحلال للعيش في ستر وكرامة.
الحياة شغل لا يتوقف، وإيمان بالله وعبادة، تقول العبارة أو الحكمة: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا،ً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً)، وساعة الرحيل لا يعملها إلا الله وحده، ولا ننشغل بها، فلن نذهب لنجلس أمام القبر، نستعد لهذا اليوم بالعمل الصالح، ونواصل تعمير الأرض بكل ما هو نافع للإنسان والبشرية.
ليس عندي ذكريات معينة أقولها مع نهاية عام، وبدء عام جديد، سوى رحيل والدي رحمه الله في آخر ديسمبر قبل أكثر من عقدين ونصف العقد، والتقسيم الزمني لا يعنيني كثيراً، فاليوم الأخير في العام، مثل اليوم الأول في الجديد، والفارق هو مدى رضا الإنسان عن حياته واجتهاده فيها بالحلال.
كل الأيام عندي جميلة، وكل الأعوام طيبة، بما مر فيها من حلو أو مُر، وهذا المُر نجتهد لتحويله إلى حلو، أوالاستفادة من دروسه.
كل أيام الله مشرقة، فلا نَسُبْ يوماً، ولا ننتقد دهراً، ولا نتململ، أو نتمرد، أو نعترض، بل نحمد الله ونشكره ونركع ونسجد له، وعشنا ونعيش أياماً كثيرة كلها فرح وسرور.
أسعدكم الله جميعاً، وحقق أحلامكم، وحفظ بلادنا، وجعل الإنسانية كلها تعيش في سلام ووئام ومحبة.
[email protected]