الكاتب الصحفى طة خليفة يكتب.. هل حلال على أردوغان .. حرام على السيسي ومحمد بن زايد؟!
قبل عدة أيام أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن زيارة سيقوم بها الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوج إلى تركيا خلال شهر فبراير المقبل، مشيراً إلى أن الزيارة يمكن أن تفتح فصلاً جديداً في العلاقات بين بلاده وإسرائيل. وأضاف أردوغان أنه على استعداد للقيام بخطوات نحو إسرائيل في كافة المجالات. وكان قد تحدث في نوفمبر الماضي عن رغبته في تحسين العلاقات مع إسرائيل.
هذه تصريحات واضحة وصريحة ومباشرة تعكس رغبة جارفة لدى أردوغان في استعادة العلاقات التركية الإسرائيلية قوتها وزخمها على مختلف المستويات.
أيها القارئ الكريم..
من فضلك، استبدل اسم أردوغان، باسم الرئيس السيسي، أو اسم الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي، في تصريح مشابه، أو له علاقة بإسرائيل، ثم تابع إعلام الخارج، وانظر إلى الحفلات التي ستُقام عن الهرولة المصرية، أو الإماراتية تجاه إسرائيل، والتطبيع معها، والركون إليها، والارتماء في أحضانها، وطعن الشعب الفلسطيني وقضيته.
وهذا الحديث الإعلامي والسياسي المغالي في الخصومة سيمتد إلى تصور حدوث أزمات تواجه هذه العواصم وتريد من تل أبيب مساعدتها في حلها عبر تحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة.
لكن، راجع هذا الإعلام منذ إطلاق أردوغان لتصريحاته قبل عدة أيام، وقم بمتابعته حتى موعد الزيارة، ثم بعد نهاية الزيارة، فلن تجد أحداً فيه يفتح فمه بكلمة واحدة ضد أردوغان، أو حتى كلمة عتاب بسيطة له، أو تسجيل موقف في جملة مفيدة لمجرد رفع العتب عن أنفسهم، ولن تجد بكائيات على الشعب الفلسطيني المظلوم صاحب الحقوق المشروعة المنتهكة، أو الأرض والقدس والمقدسات المحتلة، أوالشهداء الذين يرتقون إلى السماء.
هنا صلب المشكلة التي تتعلق بالأداء الإعلامي والموقف السياسي الإخواني الذي يقف خلفه، والمشكلة هى في الوجهين، والمكيالين، والازدواجية، والتناقض، والمعارضة من أجل المعارضة، والهجوم لأجل الهجوم، وتغييب المهنية في صناعة وصياغة وتوجيه الرسالة الإعلامية.
المصداقية أمام الجمهور بمختلف أطيافه - سواء من يقف معك، أو ضدك - تتطلب قراءة تصريحات أردوغان، وتحليلها ونقدها إذا كان في ذلك ضرورة، والتعامل معها وفق نفس المسطرة والمقياس الذي يتم التعامل به مع أي تصريح أو موقف أو لقاء بين أي مسؤول عربي ونظيره الإسرائيلي.
ليست شجاعة أن يتم نصب مأتماً لا ينفض من الحزن على العروبة التي تُذبح، والقومية التي تضيع، والنخوة التي تسقط، والقضية التي يتم بيعها بأثمان بخسة، بينما يكون التجاهل والصمت والإخفاء ودس الرؤوس في الرمال هو مسلك هذا الإعلام تجاه السياسة التركية.
الأصل أن يكون المحتوى ملتزماً بمواثيق شرف مهنية وأخلاقية، وأن يتسم بالعدالة والإنصاف والموضوعية والاتزان، واحترام الحقيقة ورصدها من مختلف وجوهها، وتقديمها للجمهور دون تلوين أو تحريف، وهذه المبادئ العامة موجهة للإعلام المعارض والمؤيد على السواء، فهى القواعد المُؤَسِسة للإعلام، وهى الضمير اليقظ له باستمرار.
نحن لا يعنينا، من يقول ماذا؟، أو من يستقل من؟، إنما اهتمامنا هنا هو الكفتين المتزنتين، دون خلل ولو هامشي في مخاطبة الناس بلا خداع أو تضليل، ودون إخفاء متعمد لجانب من الصورة، ثم إبراز هذا الجانب والتركيز عليه مع آخرين لأسباب انتهازية وثأرية.
أن تقيم في ديار أردوغان شيئ، لكن لا يجب أن تفتقد للعدالة، وتتعمد الانحياز في عرض الرسالة الإعلامية، فهذه طعنة مميتة لها، وهو أمر غير مقبول، ولهذا نشدد على ضرورة أن يكون الإعلام صادقاً متجرداً منزهاً عن كل هوى وغرض ومرض وجهل وسطحية، كل أطياف الإعلام بلا استثناء.
وهنا نتساءل وفق المنطق الذي نتحدث به وعنه: هل حلال على أردوغان التركي أن يذهب بعيداً في علاقته مع إسرائيل، ويتشوق لاستعادة الأوضاع لطبيعتها، رغم الخطاب المتكرر بالخصومة معها، مما يمثل تلاعباً بعقول ومشاعر الرأي العام العربي، ومحاولة كسبه بأساليب فيها التفاف؟.
وهل حرام على الرئيس المصري، أو ولي عهد أبوظبي، أو أي حاكم عربي اعترفت بلاده بإسرائيل، أن تتم زيارات متبادلة بين مسؤولين في بلدانهم وبين نظراءهم في الدولة العبرية، أو يستقبلون هم مسؤولين من هذه الدولة، أو يجري تطوير العلاقات الثنائية؟.
لمن لا يعلم، تركيا أول دولة إسلامية تعترف بـ إسرائيل منذ عام 1949، وتقيم علاقات دبلوماسية كاملة ومتينة معها منذ وقت مبكر جداً، والمدهش أن يكون الاعتراف الرسمي عقب إعلان تأسيسها في مايو 1948، وهنا نجد أنقرة تسبق القاهرة بـ 30 عاماَ، والإمارات بـ 70 عاماً في الاعتراف وتبادل البعثات الدبلوماسية مع هذا الكيان، والمدهش مرة أخرى أن تركيا ليست دولة مواجهة مع إسرائيل، ولم تقع بينهما حروب واحتلال أراضي، ولم تتضرر منها أو تعاني من عدم استقرار، ومع هذا كانت من أوائل دول العالم في الهرولة تجاه دولة تؤسس وجودها على تراب فلسطين التي كانت تحت حكم العثمانيين أجداد أردوغان.
والتطبيع التركي شامل وعميق ولا يترك مستوى في العلاقات إلا وله وجود بارز فيه، أما التطبيع المصري، فهو محدود، وينحصر في ملفات وقضايا معينة، والسلام بين البلدين أقرب للسلام البارد، ورغم تعزيز العلاقات خلال الفترة الأخيرة، إلا أنها تظل غالباً في دائرة معينة أغلبها في المجال الأمني، والحقيقة يصعب مساواة الحالة المصرية بالحالة التركية العميقة في التعامل مع إسرائيل منذ عقود طويلة.
وإذا كانت العلاقات السياسية بين تركيا وإسرائيل اعترتها توترات خلال السنوات الأخيرة، فإن العلاقات العسكرية والأمنية والاستخبارية تسير في طريقها المعتاد بعيداً عن الأضواء.
ومنذ جاء أردوغان للحكم وعلاقاته جيدة مع تل أبيب، باستثناء فترات محدودة، وتصريحه الأخير بشأن فتح فصل جديد في العلاقات يؤكد رغبة تركيا بوصول الدفء لدرجة كبيرة بين البلدين، وهو زار تل أبيب عام 2005، وحديثه الودي آنذاك كان يعكس متانة الصداقة بين البلدين، وقد هاجم نقل السفارة الأمريكية للقدس المحتلة عام 2017، وهدد بقطع العلاقات مع إسرائيل، لكنه لم يفعل، فالسياسة والعلاقات الدولية والمصالح لها أحكامها، وما يُقال علناً يختلف عما يجري في الغرف المغلقة.
ورأيي أن تصريحاته التي بدأنا بها هذا المقال أمر طبيعي من رئيس دولة براجماتي باحث عن مصالح حكومته وبلاده ومستقبله السياسي، كما أن مساعيه لتصفير المشاكل مع المحيط العربي كاشف عن استعداده للذهاب إلى أبعد مدى في سبيل تحقيق ما يخطط له من منافع.
أردوغان ليس شيخ الإسلام، هو مدني ورئيس دولة شديدة الانفتاح، وفيها ثقافات متعددة، بعضها على النمط الغربي تماماً، وهو يحكم تركيا وفق دستورها العلماني، وهى علمانية أشد من النهج الفرنسي، وهو مؤمن بهذا النمط من الحكم الذي يفصل الدين عن الدولة، وتقديري أنه إذا تم تخييره بين حكم ديني واستمرار الحكم بالدستور العلماني الذي وُضع في عهد مصطفى كمال مؤسس الجمهورية التركية، فإنه سيظل منحازاً لهذا الدستور، ولنفس طبيعة الحكم، وسيرفض إقحام الدين بفجاجة في الحكم المدني، فلا ينخدع (الدراويش) كثيراً في السياسة ومبدأها الرئيسي القائم على المصلحة، وأن الغاية تبرر الوسيلة.
بالتالي، عندما يستقبل السيسي رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، أو الحالي نفتالي بينيت، وعندما يجتمع الشيخ محمد بن زايد مع الرئيس الإسرائيلي هرتسوج خلال زياراته لـ أبوظبي (تبدأ الأحد 30 يناير2022، وتستمر يومين)، ويلتقى بينيت أثناء زياراته للإمارات (13 ديسمبر 2021)، أو تتم لقاءات متبادلة هنا وهناك، فهى أمور طبيعية بين عواصم ترتبط بعلاقات دبلوماسية، وعندما تدور طاحونة الهجوم من إعلام الخارج ضد هذه اللقاءات، ويصمت نفس الإعلام عن سياسات تركية تطبيعية أكبر وأعمق، فإنه بذلك يخرج من نطاق الإعلام المفيد إلى الدعاية السوداء.
هذا المقال أراد وضع نقاط على حروف تتعلق بمصداقية وعدالة الرسالة الإعلامية المقدمة إلى الجمهور، واحترام الإعلامي لنفسه، وعدم سقوطه في حفرة الجُبن أو النفاق، وما طرحناه هو نموذج للتضليل بالتغطية على توجه ثابت لدولة، وسلوك سياسي لحاكم، فالرئيس التركي تحدث علناً، وبشكل واضح وحاسم، لأنه يدير السياسة والحكم وفق ما يعتقد أنه في مصلحة بلاده وشعبه، كما تفعل عواصم عربية، أما الاتفاق أو الاختلاف مع هذه السياسات والعلاقات واللقاءات والزيارات والأبواب المفتوحة بإتساع للإسرائيلي، فهذا شأن آخر.
ومن جانبنا نجد وجاهة للمقولة الذكية بشأن هذا الملف الشائك والحساس، بأن للأنظمة ضروراتها وللشعوب خياراتها، فالأنظمة تختار التطبيع، والأفراد والشعوب من حقهم أن يأخذوا موقفاً من هذا التطبيع، وهذه معادلة مُجّربة في مصر، وهى مريحة لكل الأطراف.
ويبقى أخيراً، أن السلام العادل لا يتحقق إلا باستعادة الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة كاملة، وقيام دولته المستقلة قولاً وعملاً، وما لم يكن التطبيع مع كيان الاحتلال يقود إلى سلام جاد وراسخ، وإنصاف الفلسطيني، ومنحه الأمل في حياة طبيعية في وطنه، دون ظلم وقهر واستيطان وإحلال، فإننا سنكون أمام علاقات لا تفيد العربي، والتركي، وكل بلد يدخل فيها، إنما المستفيد الفعلي هو الإسرائيلي، المدعوم بالكامل من الأمريكي.
[email protected]
كاتب المقال الكاتب الصحفي طه خليفة