الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد يكتب .. فبراير .. إغتيالات وأحداث ( ٢ )
تفاصيل أول عملية إغتيال فى تاريخ مصر المعاصر
شيعت جنازة بطرس باشا غالى رئيس الوزراء فى اليوم التالى لعملية الإغتيال وأصبحت الحكاية هى الحديث الدائر بين الأهالى فى كل مكان ليس فى القاهرة فقط التى شهدت واقعة الإغتيال وإنما فى كل ربوع الوطن خاصة وأنها الأولى من نوعها ولم يسجل التاريخ الحديث مثل هذا العمل البطولى .. وأطلق الأهالى لقب " غزال البر " على المناضل الشاب إبراهيم ناصيف الوردانى تبجيلا وتقديرا له ولدوره الوطنى العظيم ذلك الشاب الذى ضحى بحياته فى سبيل مواجهة الخونة المتآمرين على البلد الذين يتعاونون مع قوات الإحتلال ويسهلون لهم السيطرة والهيمنة على الوطن شعبا وأرضا .. شاب زهد الحياة فى سبيل غرس قيم الفداء والنضال فى قلوب كل فئات الشعب نجح فى وقف تنفيذ مخططات مشبوهة على رأسها إتفاقية مد إمتياز قناة السويس أربعون سنة إضافية.
تآمر الخونة
فى هذه الأثناء سيطرت حالة الرعب والفزع على أعوان الإنجليز ومحاسيبهم فالكل يخشى أن ينال نفس مصير بطرس باشا غالى حتى أباطرة الإحتلال إنتابتهم حالة من الهلع خوفا من إستهدافهم على أيدى شباب ورجال المقاومة فى أعمال فدائية مماثلة ولذلك لجأ الإنجليز إلى حيلة حقيرة تتناسب تماما مع شخصية الطغاة والمستعمرين حيث حاولوا الترويج لفكرة أن عملية الإغتيال تمت بسبب التشدد والتعصب الإسلامى تجاه الأقباط وأن الشاب المسلم المتشدد إبراهيم الوردانى قتل رئيس الوزراء لإنه قبطى وذلك حتى لا يتحول الوردانى إلى بطل قومى يسعى إلى محاكاته العديد من شباب الوطن الغاضب من الإحتلال وأعوانه.
قام الإنجليز وأعوانهم بالدفع بمجموعة كبيرة من أتباعهم وعملائهم والموالين لهم وعدد من المأجورين على رأسهم عناصر معروفة بالتشدد الدينى لاحظ إستخدام هذه العناصر المتشددة ممن يرفعون رايات الإسلام فى تنفيذ مخططات الإحتلال على مر الزمن _ وجابوا هؤلاء المأجورين شوارع القاهرة مرددين هتاف " تسلم إيدين الوردانى .. قتل بطرس النصرانى " حتى يرسخ فى أذهان الجميع أن الجريمة طائفية وليست إعتراضا على الحكومة العميلة للإحتلال.
الرد الحاسم
ولكن دهاء الشعب المصرى فى هذه الفترة فاق حد التصور فقد فطنت جموع الشعب لهذه المحاولة الخسيسة والتى كادت تؤدى إلى الدخول فى آتون صراعات دموية طائفية بين الأقباط والمسلمين ولكن توحدت الصفوف الوطنية ووضع المسيحى يده فى يد شقيقه المسلم وخرج الجميع فى مواكب ومسيرات جابت قاهرة المعز طولها وعرضها وإخترقت الشوارع والحوارى والأذقة ودارت داخل الميادين يردون بهتافات تنفى ما حاول الخونة المأجورين توصيله إلى أذهان الجماهير ورفعوا صور الوردانى ولافتات تندد بالاحتلال وأعوانه ورددوا هتاف ردا على هتاف الخونة حيث قالوا " تسلم إيدين الوردانى .. قتل بطرس البريطانى " فى إشارة واضحة بأن الشعب يدرك حقيقة الأمر وأن الإغتيال لرئيس الوزراء تم لأنه أحد أكبر أعوان المحتل الغاشم .. وهذه المسيرات نجحت فى تفويت الفرصة على قراصنة الإستعمار وكشفت زيف أكاذيبهم.
المحاكمة
وبدأت رحلة التحقيقات مع الشاب الوردانى تلك التحقيقات التى أجراها معه عدد من الشخصيات المرموقة فى المجتمع آنذاك مثل فتحى باشا زغلول وكيل وزارة الحقانية وهو شقيق سعد باشا زغلول بالإضافة إلى عبدالخالق باشا ثروت النائب العمومى.
حاول فريق النيابة توريط عدد آخر من الشباب فى القضية من أصدقاء الوردانى وزملاء كفاحه فى التنظيمات والجمعيات الوطنية السرية وبالفعل تم إلقاء القبض على الكثير منهم مع سماع أقوال الزعيم محمد فريد بإعتباره رئيس الحزب الوطنى الذى ينتمى " غزال البر " غير أن الوردانى الشهم المتسم بكل صفات الوطنية والفداء والتضحية قطع الطريق على جهات التحقيق وكتب بخط يده إعترافا يوم ٣ مارس من نفس العام بأنه المخطط والمنفذ الوحيد لعملية إغتيال بطرس باشا غالى لأنه خائن لوطنه وأنه لا يوجد أى شخص على علم بهذه العملية قبل تنفيذها فلم يجد فريق النيابة مبرر لمحاكمة أى فرد آخر سوى الشاب إبراهيم ناصيف الوردانى.
وقد تطوع عدد كبير من كبار المحامين للدفاع عن البطل الثائر من أمثال أحمد بك لطفى السيد وعبدالعزيز باشا فهمى ومحمود بك أبو النصر وجميعهم من رموز العدالة فى ذلك الوقت ثم أصبحوا رموزا لثورة ١٩ فيما بعد وكانت المفاجأة إنضمام المحامى إبراهيم الهلباوى الأشهر فى ذلك الوقت إلى هيئة الدفاع عن الوردانى وهذا المحامى يعرف بإسم " جلاد دنشواى " لأنه المدافع عن الإنجليز فى قضية دنشواى الشهيرة وتسبب فى الحكم بإعدام ٤ أبرياء وجلد أكثر من خمسون فلاحا من أهل دنشواى وقد تم تنفيذ الأحكام أمام أهالى القرية.
وخلال مداولات وجلسات عديدة فى محكمة جنايات مصر التى كان يرأسها رجل إنجليزى يدعى " دولبر ويجلى " قال عبدالخالق باشا ثروت أن العملية سياسية وليست مجرد جريمة قتل وطالب بإعدام الوردانى _ والغريب أن هذا الرجل تم تكريمه وأطلق إسمه على أحد أشهر شوارع القاهرة _ فيما أكد فريق الدفاع أن رصاصات الوردانى لم تقتل بطرس باشا غالى وإنما قتله الخطأ المهنى حيث أجريت له جراحة خاطئة مات على أثرها ولذلك تم تشكيل لجنة طبية تضم طبيبان إنجليزيان وثالث مصرى يدعى د. بهجت وهبة والتى قررت فى جلسة ١٢ مايو ١٩١٠ عدم القدرة على تحديد السبب الرئيسى للوفاة فالرصاصات قاتلة والخطأ المهنى أيضا موجود ولكن المحكمة إستندت إلى الخطاب الذى وقعه الوردانى بخط يده ولإعترافاته المستمرة بأنه القاتل وتم تحديد جلسة ١٨ مايو ١٩١٠ للنطق بالحكم.
وفى اليوم الموعود والمحدد له سلفا إعتلى منصة المحكمة رجل أحمر الوجه إنجليزا فردا من أفراد عصابة الإحتلال الغاشم وهو كما سبق أن ذكرنا يدعى دولبر ويجلى بإعتباره رئيس محكمة جنايات مصر والذى أصدر حكما بإحالة أوراق الشاب إبراهيم أفندى ناصيف الوردانى إلى فضيلة مفتى الديار المصرية لإعدام المتهم شنقا.
المفاجأة
وأحيلت أوراق الشاب الثائر إبراهيم ناصيف الوردانى إلى مفتى الديار المصرية الشيخ بكرى الصدفى والذى فجر مفاجأة تاريخية لم ولن تحدث مطلقا وهى أن الشيخ الصدفى رفض المصادقة على حكم الإعدام متعللا بأن الجانى مختل عقليا ويجب عرضه على لجنة طبية للتأكد من سلامة قواه العقلية فى محاولة لإنقاذه من حبل المنشقة إلا أن المحكمة لم تأخذ برأى المفتى الذى لم يصدق على حكم الإعدام وكانت هى المرة الأولى والأخيرة حتى الآن التى يعترض فيها مفتى الديار على حكم أصدرته محكمة الجنايات.
الإعدام
ما أن صدر حكم الإعدام على غزال البر فى تلك الأيام التى كانت البلاد تشهد فيما موجة شديدة الحرارة ولد من رحم التراث الشعبى الجميل جملة صارت تتردد على ألسنة الجميع من محبى وعشاق الشاب المناضل " غزال البر " وهذه الجملة هى " قولو لعين الشمس ما تحماشى لاحسن غزال البر صابح ماشى " وشاء القدر أن تتحول تلك الكلمات الخالدة إلى أغنية للمؤلف الغنائى مجدى نجيب ولحنها بليغ حمدى وأصبحت من أجمل أغانى الفنانة الراقية شادية رحمها الله .. إمتزجت مشاعر الجماهير ما بين فرحة أن ينال الشاب المناضل إبراهيم الوردانى الشهادة ذلك الشاب الذى أصبح فى عيون الشعب بطلا قوميا علقت صوره فى كل الأماكن العامة والخاصة وما بين حزن دفين على فراق البطل " غزال البر ".
اليوم .. ٢٨ يونيو ١٩١٠ عقارب الساعة تشير نحو الخامسة و٤٥ دقيقة صباحا عساكر أشاوس يقتادون الشاب الثائر نحو غرفة الإعدام .. مأمور السجن يقرأ منطوق حكم الإعدام .. الفتى المناضل يقف بكل ثبات وجأش وقوة وعظمة وصلابة الفدائيين يدرك أن هذا هو مصير كل من يدافع عن الوطن فى ظل جبروت وقسوة المحتل الغاشم ينطق الشهادتين ثم يقول " إن الحرية والإستقلال من آيات الله " ثم ينفذ حكم الإعدام ويسدل الستار على قصة مناضل مصرى عظيم كان أحد أسباب قوة وإستبسال جيل كامل أصبح متأهبا الصورة ضد الإحتلال السافر فكانت ثورة ١٩١٩ .
لم يكتف الإحتلال وأعوانه الخونة بقتل المناضل وإنما أرادوا أن تختفى صوره من الوجود فأصدروا قرارا بتجريم تعليق صورته فى أى مكان وهو القرار الذى ظل معمولا به حتى قامت ثورة يوليو المجيدة علما بأن صورة الوردانى ظلت خالدة فى عين وقلب كل وطنى عاشق للوطن رافض للإستعمار يحلم بيوم تتحرر فيه مصر من عبودية الإحتلال .
كاتب المقال الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد مدير تحرير موقع بوابة الدولة الاخبارية والمختص فى الشأن الاقتصادى والمالي
مقالات قد تهمك:-
الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد يكتب .. فبراير .. إغتيالات وأحداث ( ١ ) أضغط هنا
الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد يكتب - وزير التعليم .. وسياسة ” لله يا محسنين ” !!أضغط هنا
الكاتب الصحفي عبد الناصر محمد.. يكتب.. ” عصير ” المدارس فيه سم قاتل !! أضغط هنا
الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد يكتب.. ثغرة ” الدفرسوار” فى حرب أكتوبر .. وهم إسرائيل وعظمة مصر ” 1 ”
الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد يكتب .. كمال أبو عيطة .. مناضل بدرجة وزير
الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد .. يكتب .. عبدالناصر .. إغتيالات وموت مفاجىء ( 1 ) أضغط هنا
الكاتب الصحفى .. عبد الناصر محمد .. يكتب .. عبدالناصر .. إغتيالات وموت مفاجىء ( 2 ) أضغط هنا
الكاتب الصحفي عبد الناصر محمد يكتب.. شركة الحديد والصلب .. أم تبكى على فراق أبنائها أضغط هنا
الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد .. يكتب .. ” ُخرم ” وزارة التعليم اضغط هنا
الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد .. يكتب .. حكاية حوار مع ” شهبندر ” التجار أضغط هنا