فبراير .. إغتيالات وأحداث ( ٤ )
الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد يكتب .. حين إقتحمت الدبابات الإنجليزية قصر عابدين ( ب )
بعد الإنذار الذى وجهه السير مايلز لامبسون المندوب السامى البريطانى فى صباح يوم ٤ فبراير ١٩٤٢ للملك فاروق خلال إتصاله برئيس الديوان الملكى أحمد حسنين باشا ، عقد قادة الإحتلال إجتماعا أطلق عليه " مجلس حرب " تمت فيه مناقشة الأمر وتم الإتفاق على أنه ما لم يستجب الملك للإنذار قبل السادسة مساء وإذا لم يذعن فسوف يتم تنفيذ الخطة البديلة والتى تقضى بعزل الملك فاروق ، وتم إصدار أوامر للقوات البريطانية بوضعها فى حالة طوارىء وأن تكون على أهبة الاستعداد لتنفيذ أى أهداف تطلب منها ، كما تمت مناقشة مصير الملك بعد خلعه عن العرش حيث إقترح قائد القوات البحرية الإنجليزية تحديد إقامة الملك على ظهر إحدى السفن وغيرها من الإقتراحات المشابهة.
فى هذه الأثناء إندلعت مظاهرات طلابية تهتف بحياة " روميل " وفاروق وبسقوط إنجلترا وقام طلاب الزقازيق بإلحاق الخسائر ببعض المحلات التجارية ، فضلا عن الإعتداء على بعض الأشخاص المعروف ولائهم للإنجليز .. كل هذه الأحداث أشعلت نار الغضب والخوف فى صدور أباطرة الإحتلال وذادت الحالة العصبية لديهم سوءا مما جعلهم يتفقون على العمل على سرعة تنفيذ مخططاتهم.
ووسط هذا الزخم من الأحداث التى شهدها ذلك اليوم الرابع من فبراير ١٩٤٢ قام أمين عثمان - الذى كان مقربا بشدة للإحتلال وأيضا له علاقة طيبة بالقصر فضلا عن دوره فى حزب الوفد والذى كان يلعب دور الوسيط السرى بين لامبسون والنحاس ولعب أيضا دور الوساطة فى كثير من المواقف التى يكون الاحتلال طرفا فيها ، بإختصار كان مجرد دمية فى أيدى قراصنة الإستعمار _ بالإتصال بالسير لامبسون ونقل له رسالة من النحاس أنه علم من مصادره أن الملك فاروق بحزم حقائبه سرا تمهيدا لهروبه خارج البلاد لأنه يشتم رائحة الغدر من جانب الإنجليز ، وعلى الفور إتخذ لامبسون قرارا بالسيطرة على مطار القاهرة.
رفض الإنذار
---------------
وداخل أروقة قصر عابدين عقد الملك إجتماعا عاجلا بعد عصر ذلك اليوم العصيب حضره كل القوى السياسية ورؤساء الأحزاب على رأسهم حسين سرى باشا رئيس الوزراء المستقيل ومحمد حسين هيكل رئيس حزب الأحرار الدستوريين وأحمد ماهر باشا رئيس الحزب السعدى بالإضافة إلى مصطفى النحاس باشا زعيم حزب الوفد فضلا عن حاشية الملك ورجال القصر على رأسهم أحمد حسنين باشا.
عرض الملك فاروق تفاصيل الإنذار البريطانى على الحضور قائلا: أنا لا أخشى شىء ولا أخاف من أحد ولا يعنينى ولا أقبل أن تمس كرامتى أو كرامة المملكة المصرية.
وأمام هذه الكلمات الجريئة قرر المجتمعون رفض هذا الإنذار وأعدوا صيغة لإرسالها للمندوب السامى البريطانى السير مايلز لامبسون تعبر عن هذا الرفض وموقعة من جميع الحضور بما فيهم النحاس باشا والذى أكد بصفة شخصية أنه يرفض أن يتلقى أوامر من الإنجليز وأن قبوله تشكيل الحكومة نزولا على أمر الملك ورغبته.
وفى المقابل كان لامبسون يتوقع أن يصله ردا سريعا قبل السادسة بموافقة الملك على كل الأوامر البريطانية ولكن حين تأخر الرد الملكى وتجاوزت الساعة السادسة إلا الربع من مساء ذلك المشحون بالأحداث قام بإرسال برقية للخارجية الإنجليزية يوضح فيها تفصيلات الإجراءات التى تقرر إتخاذها حال رفض " الولد " The Boy كما كانوا يطلقون على الملك فاروق تنفيذ الأوامر وتجاهله للإنذار البريطانى ، وذلك على الرغم من أن لامبسون كان مفوضا من قبل الحكومة البريطانية بإتخاذ أى قرارات أو إجراءات دون الرجوع لأحد ولكن يبدو أنه يريد تأمين نفسه خاصة وأن الإجراء الذى سوف يقدم جلل وخطير وسيكون له صدى كبير سواء فى مصر أو بريطانيا وحتى لا يتحمل وحده عواقب هذا الإجراء.
وفى السادسة والربع من مساء ذلك اليوم الساخن حمل أحمد حسنين باشا رسالة رفض الإنذار وذهب بها إلى المندوب السامى البريطانى والذى بدأ يقرأها بكامل تركيزه وكان نصها كالآتى : " إن الإنذار البريطانى يعد خرقا لمعاهدة ٣٦ وإعتداء على إستقلال البلاد ولذلك وعملا بنصيحة الجميع فإن جلالة الملك لا يمكن أن يقبل إجراء يترتب عليه إنتهاك المعاهدة أو يمس سيادة البلاد. "
عقب قراءة رسالة الإحتجاج بدا الغضب واضحا على وجه لامبسون ووجه حديثه لرئيس الديوان الملكى أحمد حسنين باشا قائلا بلهجة عصبية حادة " إن هذا الأسلوب جد خطير وأننى سوف أحضر إلى القصر فى تمام التاسعة مساء لمقابلة الملك وأننى سوف أقود بنفسى عملية تشكيل الحكومة.
*كان بإمكان لامبسون أن يأمر بتحرك القوات البريطانية فى التو لإنها كانت على أهبة الإستعداد لتنفيذ أى مهام وهى قادرة على دحر قوات الحرس الملكى فى حالة دفاعها عن الملك فاروق أو محاولة منع أى تصرف بريطانى إلا أنه أعطى للخارجية البريطانية فرصة للرد على برقيته التى أرسلها لمسئوليها فى السادسة إلا ربع.
وبعد إنتهاء المقابلة مع حسنين باشا عقد المندوب السامى البريطانى إجتماعا مع قيادات الإحتلال وعلى رأسهم الجنرال ستون قائد القوات العسكرية البريطانية لبحث الترتيبات النهائية واللمسات الأخيرة لإعتقال الملك فاروق وإجباره على التنازل عن العرش ، وقد إنتقد كثير من القيادات موقف النحاس لتوقيعه على مذكرة الإحتجاج.
وخلال الاجتماع الإستعمارى حضر أمين عثمان للقاء السير مايلز لامبسون والذى على الفور ترك الإجتماع وخرج لمقابلته منفردا فى غرفة أخرى وتبين أنه جاء ليبلغ لامبسون التفاصيل الدقيقة لاجتماع قصر عابدين فضلا نقل وجهة نظر النحاس فى التوقيع على المذكرة حيث قال أمين عثمان أن زعيم حزب الأغلبية وقع على وثيقة الإحتجاج محرجا من الملك ومن الحضور ولكنه مع الإنجليز قلبا وقالبا .. وهو ما يدع مجالا للشك أن النحاس كان يلعب على كل الحبال.
بعد إنتهاء اللقاء مع أمين عثمان عاد لامبسون لإستكمال إجتماعه مع قيادات الإحتلال وأعد وثيقة للتنازل عن العرش ليقوم فاروق بالتوقيع عليها وكان نصها .. " نحن فاروق ملك مصر ومن منطلق حرصنا على مصلحة البلاد فإننى أعلن التنحى والتنازل بإرادتنا عن العرش وعن كافة حقوقنا فى عرش المملكة المصرية وكل حقوق السيادة والإمتيازات على المملكة.. كما نخلى رعايانا من ولائهم لشخصنا. " صدر فى الرابع من فبراير ١٩٤٢.
الحدث
عقارب الساعة تقترب من التاسعة إلا ربع من مساء ذلك اليوم المشئوم فى تاريخ مصر .. موكب من السيارات يتجه نحو قصر عابدين تقل زعماء الإحتلال يترأسهم اللورد كيللرن المندوب السامى البريطانى الذى له إسم آخر هو السير مايلز لامبسون .. طابور من الدبابات واللوريات والعربات العسكرية تحمل جنودا فى وضع الإستعداد للقتال يصوبون فوهات بنادقهم نحو صدر كل من يقابلهم من الشعب المقهور .. يسير ذلك الموكب المسلح فى أماكن شتى من شوارع قاهرة منها من يسير خلف الموكب الرئيسى والكل يتجه أيضا نحو القصر الحزين .. الشوارع مظلمة كظلمة الوطن الأسير.. علامات إستفهام عديدة ترتسم على وجوه كل من يشاهد موكب المستعمرين لسان حال الجميع يطرح سؤالا واحدا " ما ذا يحدث ؟ " .
موكب الغزاة يقترب رويدا رويدا من قصر عابدين الدبابات تتخذ أماكنها .. جنود الاحتلال على أهبة الاستعداد لإبادة كل من تسول له نفسه أن يمنعهم من إلتهام فريستهم.
وصل المندوب السامى البريطانى وعصابته إلى قصر عابدين .. الدبابات تحاصر القصر من كل جانب وعلى الباب الرئيسي للقصر يتجه أحد ضباط الإحتلال حاول أحد الحراس منعه غير أنه دفعه بعنف ويفتح الباب بالقوة لتدخل منه عدة دبابات.. الملك يصله الخبر فيأمر الحرس الملكى بعدم التعامل مطلقا مبررا ذلك بعدم إراقة الدماء عبثا.. لامبسون ينزل من السيارة التى يقلها يصاحبه الجنرال ستون .. كبير أمناء القصر يستقبلهما بوجه شاحب ترتسم عليه علامات الفزع يحاول منع ستون من الدخول إلى غرفة للملك غير أن لامبسون ينهره بشدة وينحيه جانبا.
دخل لامبسون ومعه ستون غرفة الملك الذى على ما يبدو أنه أخذ على غرة والذى أصر على أن يحضر أحمد حسنين باشا هذا اللقاء المثير .. لامبسون يضع يده فى جيبه ويستخرج ورقة بل هى خطاب التنازل عن العرش ويقدمها للملك ويطالبه أن يوقع عليه ويهدده أنه فى حالة الرفض سوف يقدم على أمر غير محمود.
يمسك فاروق الخطاب ويده ترتعش .. مترددا لا يدرى ماذا يفعل وبعد برهة سكون كان الملك على وشك التوقيع على خطاب التنازل إلا أن حسنين تدخل وطلب من لامبسون بمنتهى التخاذل والضعف أن يمنح الملك فرصة أخرى وهنا تحدث الملك بعد أن بلع ريقه قائلا بكل ذلة وإنكسار أنه سوف يستدعى النحاس فى الحال كى يكلفه بتشكيل الحكومة، وسوف تكون حكومة يختار النحاس كل أعضائها ، وهنا حل الصمت لبرهة حيث سرح لامبسون بخياله وراح يدرس الأمر سريعا ورأى أن هذا قد يكون حلا لتجنب البلاد أى إضطرابات خاصة وأن بريطانيا مشغولة فى الحرب العالمية الثانية وقرر أن يمنحه بالفعل فرصة ثانية.
وعقب تهدئة الأمر قال على ماهر موجها حديثه إلى النحاس فى حضور الملك فاروق " إنك يا نحاس باشا ألفت الحكومة توليت الوزارة على أسنة الحراب البريطانية بعد أن رأيت الدبابات الإنجليزية بعين رأسك.
وهكذا تم تنصيب النحاس رئيسا للوزراء يقبع على رأس حكومة كل أعضائها وفديون ، وتمكن بفضل فوهات دبابات القوات الإستعمارية
أن يتبوأ هذا المنصب الرفيع.
كاتب المقال الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد مدير تحرير موقع بوابة الدولة الاخبارية والمختص فى الشأن الاقتصادى والمالي
مقالات قد تهمك:-
الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد يكتب .. حين إقتحمت الدبابات الإنجليزية ” قصر عابدين ” (أ) أضغط هنا
الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد يكتب .. فبراير .. إغتيالات وأحداث ( ٢ )أضغط هنا
الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد يكتب .. فبراير .. إغتيالات وأحداث ( ١ ) أضغط هنا
الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد يكتب - وزير التعليم .. وسياسة ” لله يا محسنين ” !! أضغط هنا
الكاتب الصحفي عبد الناصر محمد.. يكتب.. ” عصير ” المدارس فيه سم قاتل !! أضغط هنا
الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد يكتب.. ثغرة ” الدفرسوار” فى حرب أكتوبر .. وهم إسرائيل وعظمة مصر ” 1 ”
الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد يكتب .. كمال أبو عيطة .. مناضل بدرجة وزير
الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد .. يكتب .. عبدالناصر .. إغتيالات وموت مفاجىء ( 1 ) أضغط هنا
الكاتب الصحفى .. عبد الناصر محمد .. يكتب .. عبدالناصر .. إغتيالات وموت مفاجىء ( 2 ) أضغط هنا
الكاتب الصحفي عبد الناصر محمد يكتب.. شركة الحديد والصلب .. أم تبكى على فراق أبنائها أضغط هنا
الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد .. يكتب .. ” ُخرم ” وزارة التعليم اضغط هنا
الكاتب الصحفى عبد الناصر محمد .. يكتب .. حكاية حوار مع ” شهبندر ” التجار أضغط هنا
تعظيم سلام .. كتيبة بوابة الدولة الإخبارية اضغط هنا
المراجع
كتاب ٤ فبراير للدكتور محمد أنيس
مذكرات مرتضى المراغى وزير الداخلية عقب حريق القاهرة
مذكرات محمد حسين هيكل رئيس حزب الأحرار الدستوريين
مذكرات اللورد كيللرن المندوب السامى البريطانى " السير مايلز لامبسون "