بوابة الدولة
الجمعة 22 نوفمبر 2024 09:59 صـ 21 جمادى أول 1446 هـ
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرصالح شلبي
مستشار التحريرمحمود نفادي
بوابة الدولة الاخبارية

الساقية.. قصة قصيرة بقلم حمدي كسكين

حمدي كسكين
حمدي كسكين

لا تزال في أعماق ريف الشرقية المئات من السواقي القديمة والتي نطلق عليها في الشرقية الطمبوشة أو التابوت بعضها مازال يعمل والاخر تحول الي اطلال تروي كثير من الذكريات والشجون وتثير ذكريات حميمة في النفوس، أتذكر ساعة الفجرية عندما كان والدي يصلي الفجر ويوقظني من سبات نوم عميق لأخرج البهائم من الزريبة وهويمتطي حماره حاملا فأسه ومن تحته الغبيط وامامه ناف الطمبوشة، وأغمي البقرة وما ان تطأ اقدامنا مدار الساقية حتي اربط انا بقراتي في المدود وأضع لهم بعض التبن والدريس ووالدي يسحب البقرة الشغالة واضعا علي عنقها ناف الطمبوشة ويغمي البقرة بالأغمي ويتركني وحيدا مع الساقية ويسرح هو مع الماء الرقراق المنساب من عيون الساقية.


وانا اجلس علي المدود بجوار بقراتي تحت شجرة الجميز العتيقة الوارفة الظلال والتي ارخت سدولها وأعرافها المتشابكة فارضة وصايتها علي مدار الطمبوشة والمدود هي وشجرة التوت الكثيفة وتكعيبة العنب التي تسلقت فروع شجرة الجميز وبعض فروع التوتة تتدلي عناقيد العنب كأنها مصابيح تهدي الناظرينا في لوحة فنية ربانية غاية في الابداع
ساعة الفجرية والصمت القاتل يطبق علي المكان ....لا تسمع لاغية الا نقيق الضفادع وهدير الماء المنساب من الطمبوشة
وأصوات خرفشة التروس الخشبية الدوارة التي تشبه الي حد بعيد موسيقي جنائزية ....مازال الظلام يخيم علي المكان الي حد ما وكلما سمعت ازيز الساقية وهدير الماء ووأصوات ارتطام الماء وصوت الماء في بئر الساقية حتي ترتجف اوصالي فبير الطمبوشة مرتبط بالخرافة في وجدانا الشعبي نحن ابناء الفلاحين فكنت اعتقد ان بئر الساقية تسكنه العفاريت والجنيات وكنت اظن ظنا كاذبا ان ستخرج لي احدي هذه الجنيات في هيئة قروية تملأ الجرة وتنادي عليا
لتخنقني في البير
سرعان ما يتبدد ظلام الليل رويدا رويدا وينقشع ويلوح في الأفق نور الصباح خافتا
وعيناي شاخصة في السماء تارة اعد النجوم وتارة أخري اتابع شكل القمر وهو وهو يجر أذياله معلنا الانسحاب لقدوم الصباح.

مع اول ضؤ للنهار تأتي اسراب الحمام لتحط فوق تكعيبة العنب وتلتقط بعض حبات العنب المتدلية من العناقيد التي لم تنضج بعد او تلتقط بعض حبات القمح مما تجود به ارضنا الطيبة وأسمع زقزقة العصافير ممزوجة بهديل الحمام وهدير الماء المنساب من الساقية في سيموفونية موسيقية رائعة وكأنها مقطوعة موسيقية لبتهوفن العظيم.


وتبصر عيناي من بعيد والدي الذي خلع جلبابه وشمر عن ساعديه وتحزم بحزام من بقايا حبال تيل بالية والماء يتدفق رقراقا في جدوله وقد غطت أسراب ابو القردان ما سقاه والدي يظهر في الأفق نور الصباح وتتعالي صيحاتي للبقرة المطيعة ( عا..عا ..عا ) لاستنهض همتها في حركة الدوران بعد ان اعياها التعب والانهاك من فرط الدوران في مدار الساقية
أشعر بالجوع فانا لم اتناول طعام الفطور بعد
تتسلق ساقيا النحيلتين شجرة الجميز والتقط بعض ثمرات الجميز المختوم والتقفها لأسد رمق جوعي كانت حبات الجميز المختوم طرية غضة ناضجة وردية اللون وكأنها قمع السكر ثم امتطي ناف الطمبوشة جالسا عليه وأرخي أذنيا لاستمع لصوت والدي يشدو بالغناء
قضت حياتها تدور وتدعي....الله اكبر عليك ياظالم
الله اكبر ..الله اكبر.. الله اكبر


سبع سواقي بقت بتضحك وتقول يا مصري النهاردة فرحك
الأرض ارضك والطرح طرحك وبكرة تعمر وخيرها يكتر
وهي رائعة الفنانة شادية التي كان لحنها لها رياض السنباطي
وينجلي والدي ويرتفع صوته بالغناء
حل السواقي القبلية ...... دلوقتي ساعة عشوية
الغيط صلاة الزين يضوي .... والقلب بيشوفه بيفرح


وهي رائعة كان يشدو بها في هذه الايام الراحل العظيم محمد قنديل
وتأخذ والدي حالة من الروقان والنشوة والطرب ويستمر في أغنياته
طلعت يا محلي نورها شمس الشموسة
يلا بينا نملا ونحلب لبن الجاموسة
قاعد ع الساقية خلي اسمر وحليوة
عوج الطاقية وقالي غني لي غنيوة


وبعدها يتعالي صوت والدي بالغناء الحماسي وتتغير نبرة صوته وكأنه قائد ثورة العبيد السود بأمريكا الذين يحلمون بالانعتاق من ربقة العبودية والثورة علي الملاك البيض
ويشدو في حماس


اقلع غماك ياتور وارفض تلف
اكسر تروس الساقية واشتم وتف
قال / بس خطوة كمان ...وخطوة كمان
يا أوصل نهاية السكة يا البير تجف
وعجبي
وهي رائعة الثائر صلاح شاهين
وبينما انا غارق ومنصت لسماع اغنيات والدي اذ بأمي وبعض النسوة قد احضرت لنا الفطار ..الذي كنا نسميه ( لقمة الضحوية )
تنادي امي علي والدي وعلي الانفار المنكفئة علي الفئوس وهم انفار بعضهم جاء باليومية والاخر جاء بالمثانية اي مقايضة يعمل مع والدي يوم ووالدي يقايضه بيوم العمل بيوم اخر عنده
وتشعل امي الحطب بجوار مدار الساقية وتلقم كنكة الشاي وتضعها علي النار وتسخن بعض الارغفة الزاهية التي لو شمها جائع من فرسخ وثبا
يتجمع الانفار ووالدي ونتناول سويا لقمة الضحوية التي تسد رمقنا وتشبع جوعنا ويأتي جارنا الطيب ليفك بقرتنا من الساقية ويعلق بقرته في مشهد من التاخي والتلاحم والمؤازرة
تضع امي طراطيف الذرة الخضراء لبقرتنا الشقيانة في الساقية من الفجرية وتفطر بقية البهائم في المدود
ثم تجلس هي ورفيقاتها وتخرج من بغجتها الصوف والوبر لتغزله ثم تنسجه طواقي للفلاحين وهي طواقي من صوف الغنم ، والإكثر وجاهة يلبس الطاقية الوبر

كانت امي تبيع هي ورفيقاتها ما تنسجه من الطواقي لاحد التجار ليبيعه هو بدوره في سوق القرية وبينما النسوة منهمكين في غزل الصوف وانا مستغرق في صناعة ناي من البوص قطفت عوده من علي شط الترعة لأعزف به بعض النغم الحزين، الذي يعيننا علي مشقة الايام وارهاق العمل ويصبرنا علي قسوة الحياة.

وما ان فرغت من صناعة الناي من قصبة الغاب وبدأت اعزف علي الناي الحزين لازجاء الوقت والترفيه عن النفس في هذه البيئة الجدبة التي لا تؤمن بحقوق الطفل في اللعب او تحارب عمالة الأطفال حتي ناداني والدي لأجمع البامية المزوعة علي حواف مساقي الغيط ...جمعت البامية وبعض عيدان الرجلة وغمر من الخبيزة المنتشرة في غيط الذرة

حيث كان بين جدتي وأمي وبين البامية والرجلة والخبيزة ميثاق غليظ وعروة وثقي وعقد مبرم ان يكونا اوفياء لهم فلا يدخل جوفنا او يشبع بطننا اوتمتلئ قدورنا ولا تشتعل لنا حطبا في موقد الا علي البامية والخبيزة والرجلة
وبينما انا مستغرق في العزف علي الناي الحزين و تشدو أمي والنسوة المنهمكات في غزل الطواقي ببعض الاغنيات والاهازيج التراثية الا واسمع طقطقة تروس الساقية الخشبية وانكسارها ..تتسمر البقرة المعلقة في الساقية فوق المدار بعد ان اصبحت عاجزة علي الحركة وتقل اندفاع الماء في المسقي الواصل لوالدي ويأتي مهرولا يحل البهيمة الشقيانة
ويوبخني ببعض الكلمات وقد ظن ظنا كاذبا ان ركوبي فوق ناف الطمبوشة هو سر العطب الذي اصاب الساقية
طالبا مني ان اذهب للصحصاحي نجار السواقي ليصلح ما اصابه العطب
كانت مهمة نجار السواقي في غاية الاهمية حيث هو المتعهد
والمتخصص بصيانة واصلاح الساقية وكان يتقاضي أجره علي الزرعية حيث يجود عليه الفلاحين بكيلة من كل غيط يروي من الساقية التي يتعهدها بالصيانة والاصلاح والصيانة
وما ان نتم سقية الغيط العطشان يأتي من له الحق بالري والدور ليعلق ماشيته حيث كان الفلاحون يبدلون الماشية
حسب ادوارهم فمن له الحق في الري يعلق ماشيته
في الساقية الي ان ينتهي من ري ارضه وكان بعضهم يتشاركون في الأدوار ويتبادلون الماشية لاراحتها
كان ماء المسقي كي يروي ارضنا يمر بأرض الجيران دون من او سلوي وظلت هذه الاعراف معمولا بها لا يجوز لاي صاحب ارض ابدا ان يمنع مرور ماء الري لارض جاره
وهوما صاغه القانون الحديث وحدده باسم ( حق ارتفاق الري )
كان من رفق والدي بماشيته انه كان يغميها بعصابة علي عينيها تسمي ( الأغمي ) حتي لا تشعر بالدوار لكثرة عدد اللفات في مدار الساقية ولطول مدة الري
كبرت وسافرت للعمل في الكويت ورجعت للساقية ومدار الطمبوشة ومدود البهايم وشجرة الجميز العتيقة والتوت وتكعيبة العنب والمصلية المفروشة بقش الارز واماكن تجمع الفلاحين وقت القيلولة وبيتنا الطيني القديم وسواقي قريتنا وصوتها الشجي واماكن تجمع الاحبة في حجب الساقية
لم اجد سوي اطلال وبقايا ذكريات تحمل شجونا

كانت الساقية تمثل لجيلنا ملتقي للاحبة ومكانا للراحة والقيلولة وتناول الفلاحين الغداء
ذهبت الساقية ادراج الرياح هي والزمن الجميل
تذكرت وانا واقف علي اطلال الساقية بعد رجوعي من غربتي يوم وقعت بقرتنا في بير الساقية وتجمع الفلاحين من كل صوب وحدب من الغيطان علي صياحي وصراخ امي طالبة النجدة والانقاذ لبقرتنا المسكينة الشقيانة

حاولوا اخراجها بكافة الطرق وعجز اهل القرية علي انقاذها من بير الساقية واشاروا علي والدي بذبحها كي لا تموت فطيسة فأومأ والدي يهذي ببعض الكلمات وجاء احد الفلاحين بمنجل حاد شفراته ومحفوف وقام بنحر رقبتها وسط صراخ امي وهذيانها وجموع الفلاحين يلطفون من الموقف بالدعاء لإمي المكلومة علي بقرتنا ربنا يعوض عليكي ياحاجة وامي تصرخ في هذيان عوضي عليك يارب ..عوضي علي الله
وتتجمع القرية وتوزع لحم البقرة اكوام علي الفلاحين والذين سرعان ماجمعوا ثمن البقرة وتم شراء بقرة مثيلتها وافضل منها خلال يومين
مما استرعي انتباهي والمثير للدهشة في مثل هذه الأهمية للساقية وارتباطها التاريخي بالزراعة والموروث الثقافي المصري وارتباطها بالوجدان الشعبي للفلاحين
الا اننا لا نجد لها توثيقا اي لا يوجد اي دراسات توثيقية للساقية وخاصة انها اصبحت اطلالا ومهددة بالاندثار

لكن استرعي نظري عند زيارتي لفرنسا انا وبعض اصدقائي من الكويتيين وتحديدا لمتحف حضارات اوربا والبحر المتوسط في مارسيليا الفرنسية
وجود احد السواقي المصرية الخشبية احضرت من الفيوم وتم ترميمها واعادة ما تلف منها علي يد ( ادوارد ديلابوري ومريام موري )
المتخصصين في حفظ التراث وهناك خضعت لاصلاح وترميم
الاجزاء المنكسرة واعداد مكان لعرضها علي مساحة ضخمة
وحرص الفرنسيون علي نقل جذع النخلة التي تعلق فيها الساقيةما اعطاها مصداقية لدي الجمهور الفرنسي
واتمني ان يقوم احد المتاحف المصرية او وزارة الثقافة او وزارة الزراعة بنقل واحدة من السواقي التراثية القديمة
قبل اندثارها نهائيا من مصر
كانت السواقي قديما ملهما لابداع المبدعين وقد جسدت لنا السينما المصرية العديد من الافلام التي صورت الساقية منها
فيلم العزيمة ....وصراع في الوادي والأرض الذي جسد تعاون اهل القرية في اخراج البقرة التي سقطت في البئر
وألهمت الساقية العديد من الفنانين التشكيليين فجسدوها في لوحاتهم مثل راغب عياد ويوسف كامل
اندثرت السواقي ولم يتبق منها سوي اطلال لكن بقيت الذكريات وحديث ذو شجون وتراث محفور في اعماقنا
بعد ان عجزت المتاحف المصرية عن تخليده

موضوعات متعلقة

أسعار العملات

متوسط أسعار السوق بالجنيه المصرى21 نوفمبر 2024

العملة شراء بيع
دولار أمريكى 49.6247 49.7247
يورو 52.2102 52.3204
جنيه إسترلينى 62.7058 62.8520
فرنك سويسرى 56.1112 56.2560
100 ين يابانى 32.0760 32.1489
ريال سعودى 13.2174 13.2454
دينار كويتى 161.3130 161.6906
درهم اماراتى 13.5092 13.5390
اليوان الصينى 6.8525 6.8672

أسعار الذهب

متوسط سعر الذهب اليوم بالصاغة بالجنيه المصري
الوحدة والعيار سعر البيع سعر الشراء بالدولار الأمريكي
سعر ذهب 24 4274 جنيه 4251 جنيه $85.83
سعر ذهب 22 3918 جنيه 3897 جنيه $78.68
سعر ذهب 21 3740 جنيه 3720 جنيه $75.10
سعر ذهب 18 3206 جنيه 3189 جنيه $64.37
سعر ذهب 14 2493 جنيه 2480 جنيه $50.07
سعر ذهب 12 2137 جنيه 2126 جنيه $42.91
سعر الأونصة 132945 جنيه 132234 جنيه $2669.56
الجنيه الذهب 29920 جنيه 29760 جنيه $600.80
الأونصة بالدولار 2669.56 دولار
سعر الذهب بمحلات الصاغة تختلف بين منطقة وأخرى