كسوة الكعبة.. 670 كيلو جرامًا من الحرير المطرز بالذهب تتغير كل عام في وقفة عرفات
لحظة من أهم لحظات رحلة الحج المباركة، هي تغيير كسوة الكعبة الشريفة، التى يترقب رؤيتها يوم وقفة عرفات من كل عام.. ليس فحسب حجاج بيت الله الحرام بل والمسلمون فى كل بقاع العالم.
وتتزين الكعبة المشرفة يوم التاسع من شهر ذي الحجة، بكسوة جديدة من الحرير المبطن بالقطن، منسوج فوقها بضع من الآيات القرآنية المشغولة بخيوط من الذهب والفضة.
تصنع كسوة الكعبة المشرفة من الحرير الطبيعي الخاص الذي تم صبغه باللون الأسود، ويبلغ ارتفاعه 14 مترًا، ويوجد بالثلث الأعلى منه الحزام الذي يبلغ عرضه 95 سنتيمترًا وبطول 47 مترًا، مكونًا من 16 قطعة محاطة بشكل مربع من الزخارف الإسلامية، فيما تتكون الكسوة من 5 قطع تغطي كل واحدة وجهًا من أوجه الكعبة المشرفة، والقطعة الخامسة تمثل الستارة التي توضع على باب الكعبة المشرفة.
في منطقة أم الجود بمكة المكرمة يقضي رجال جميعهم من المملكة السعودية، ما يقرب من تسعة أشهر في صناعة كسوة الكعبة لتغطي الكعبة مرة كل عام في يوم الوقوف بجبل عرفات، وهو يوم وقفة عيد الأضحى.
ترجع الروايات التاريخية إلى إسماعيل بن سيدنا إبراهيم عليهما السلام، كساء الكعبة للمرة الأولى في التاريخ، وإن كان هناك اختلاف حول ذلك، فحسب روايات أخرى كان عدنان أحد أجداد الرسول، محمد صلى الله عليه وسلم، هو أول من قام بكساء الكعبة، في حين ترجح رواية ثالثة أن تبع الحميري ملك اليمن أول من كسا الكعبة قبل الإسلام بعد أن زار مكة، حيث كساها مستخدمًا "الخصف" وهو ثوب من النوع الغيظ، ثم كساها بالملاء وهو ثوب رقيق من نسيج واحد، ثم تبع ذلك كساء الكعبة باستخدام الوصائل وهو ثوب من اللون الأحمر.
وتذكر كتب التاريخ أنه منذ ذلك الوقت صار كساء الكعبة تقليدًا، وتفنن الكثيرون في استخدام نوعية النسيج الذي كان يستخدم في عمله فاستخدم البعض الجلد والقباطي.
وانتقلت كسوة الكعبة بين العديد من القبائل وكانت تغير كلما بليت، إلى أن توليها قصي بن كلاب الجد الرابع للرسول والذي جمع القبائل، على أن يتعاونوا فيما بينهم لكسوة الكعبة حسب مقدرة كل قبيلة منهم.
وتذكر الروايات أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، كان أول من قام بكساء الكعبة بعد دخول الإسلام، بعد احتراقها على يد امرأة كانت تسعى إلى تبخيرها، فقام الرسول الكريم عقب تلك الواقعة بكسائها باستخدام الثياب اليمانية، ثم واصل الخلفاء الراشدون من بعده الأمر، ومنهم أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان، رضي الله عنهما.
وفي عهد بني أمية كانت تكسى الكعبة مرتين في العام، واستمر الأمر في عهد العباسيين حتى عهد الخليفة العباسي المأمون، إذ تم كساء الكعبة ثلاث مرات خلال العام بألوان مختلفة، إلى أن كسيت باللون الأسود في عهد الناصر لدين الله أبو العباس أحمد، واستمرت تكسى بهذا اللون حتى يومنا هذا.
ويرجع تاريخ تصنيع مصر لكسوة الكعبة إلى عهد الدولة الفاطمية، حيث باتت ترسل الكسوة سنويًا من مصر، واستمر ذلك الأمر في عهد الدولة المملوكية إذ كان سلاطين وملوك الدولة المملوكية يعتبرون أن إرسال الكسوة من مصر شرف لهم وتشريف لا يمكن أن ينافسهم فيه أحد مهما بلغ من قوة، فتذكر بعض المراجع التاريخية أن ملك اليمن"المجاهد" أراد في عام 751 هجرية أن ينزع كسوة الكعبة المصرية ليكسوها من اليمن، فلما علم بذلك المماليك استشاطوا غضبًا وألقوا القبض عليه وأرسل إلى القاهرة مكبلاً في الأغلال.
ولأن تكلفة كسوة الكعبة كانت مرتفعة للغاية، فقد أمر السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون حاكم مصر بوقف خراج قريتين هما باسوس وأبو الغيط.
واستمرت مصر ترسل كسوة الكعبة سنويًا وبانتظام بعد سقوط دولة المماليك وخضوعها للدولة العثمانية، فقد اهتم السلطان سليم الأول بتصنيع كسوة الكعبة وكسوة الحجرة النبوية وكذلك كسوة مقام إبراهيم الخليل، واستمرت كذلك كسوة الكعبة يحملها سنويًا أمير الحج معه في قافلة الحج المصري.
وكان الاحتفال بخروج المحمل الشريف الذي كان يحمل كسوة الكعبة من القاهرة، قاصدًا بلاد الحجاز من أكثر الاحتفالات بهجة على المستويين الرسمي والشعبي، حيث كانت رحلة المحمل تنطلق من مقر وزارة المالية داخل صناديق إلى "وكالة الست" بالجمالية وتنقل جزءًا من كسوة الكعبة من مصنعها بالخرنفش إلى المصطبة بميدان صلاح الدين، حيث يقام هناك احتفال كبير كان يعرف باسم "زفة المحمل" حيث كان يلتف حولها العوام تقديسًا للكسوة وتبركًا بها.
وفي عهد محمد علي باشا توقفت مصر عن إرسال الكسوة بعد الصدام بين أتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب في الأراضي الحجازية وقافلة الحج المصرية عام 1222 هجرية، ولكن أعيدت مرة أخرى إلى مصر عام 1228 هجرية.
وظلت كسوة الكعبة تصنع سنويًا في مصر حتى عام 1962م/1381 هجرية، حيث وصلت الكسوة إلى ميناء جدة على متن إحدى البواخر فحدث خلاف أدى إلى عودة الكسوة إلى مصر، ونظرًا لضيق الوقت فقد كلف وزير الحج وقتها بإعداد كسوة من القطع المحفوظة بمستودع الحرم، حيث صبغت وكسيت بها الكعبة في موعدها في العاشر من ذي الحجة.
وفي العام التالي 1382 هجرية صنعت كسوة ثانية في مصنع الكسوة في مكة المكرمة وأهداها الملك سعود إلى الكعبة المشرفة، إذ كتب عليها نص الإهداء التالي:"صنعت هذه الكسوة في مكة المكرمة وأهداها إلى الكعبة المشرفة الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود.. تقبل الله منه سنة 1382 هجريًا".
تستورد المملكة السعودية لصناعة كسوة الكعبة 670 كيلو جرامًا من الحرير الخام من إيطاليا، فيما تستورد خيوط الفضة والذهب من ألمانيا.
وبحسب وزارة الحج السعودية، تمر صناعة كسوة الكعبة المشرفة بعدة مراحل تبدأ بصباغة الحرير باللون الأسود ثم نسجه وطباعة الآيات القرآنية عليه من نفس لون النسيج، ليبدأ بعد ذلك الحرفيون المهرة في نسج الكسوة الداخلية المصنوعة من القطن وتطريز الآيات القرآنية بخيوط الذهب والفضة لتخرج في الشكل الذي نراه جميعًا فوق الكعبة.
تشكل الآيات القرآنية ما يعرف باسم حزام الكعبة ويتكون من 16 قطعة ويحيط بالكعبة من الجهات الأربع. ويبلغ محيط الكعبة نحو 47 مترًا، يبلغ طول القطعة الواحدة 240 سنتيمترًا وعرضها 95 سنتيمترًا، ويستغرق تطريزها نحو شهرين.
وبعد انتهاء الحج تقطع الكسوة القديمة إلى قطع صغيرة وتوزع على شخصيات بارزة ومنظمات دينية، إذ تعتبر هذه القطع تراثًا نفيسًا.