بعد زيارة «بلينكن ولافروف».. البحث عن شركاء جدد مع القارة الإفريقية
لم تكن جولة وزير الخارجية الأمريكى، أنتونى بلينكن، إلى عدة دول إفريقية منذ أيام، مجرد زيارة عابرة، التى استمرت عدة أيام، كانت أولى محطاته "بريتوريا" عاصمة جنوب إفريقيا، التى خصص لها محطته الأولى، مؤكدا أن بلاده تريد "شراكة حقيقية" مع القارة الإفريقية، وأنها لا ترغب فى "تجاوز" نفوذ القوى العالمية الأخرى فيها، وهو بذلك لم يكرر المسار الذى سلكه وزير الخارجية الروسية، سيرجى لافروف فى نهاية شهر يوليو الماضى، فقد زار دولا أخرى فى القارة نفسها، وذلك بعد أن أعلنت واشنطن عن الوثيقة السياسية، التى تنوى من خلالها مواجهة الوجود الروسى والصينى، وتطوير أساليب غير عسكرية ضد الإرهاب فى منطقة جنوب الصحراء. "الأهرام العربى" تستعرض آراء عدد من الخبراء السياسيين، حول أبعاد زيارة بلينكن عبر السطور المقبلة.
يتحدث د. عبد القادر حمدونى، الأستاذ بجامعة قرطاچ بتونس، قائلا: الحج إلى إفريقيا هدفه خطب ودها أم تحويلها إلى منطقة صراع؟ فقد تسببت الحرب الروسية - أوكرانيا فى ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء والأسمدة، مما فاقم معاناة الدول ذات الاقتصادات الهشة، خصوصا المستوردة منها للغذاء من روسيا وأوكرانيا، ومع تصاعد أزمة الغذاء العالمى، يتوقع أن يتسبب ذلك فى اتساع رقعة الجوع خصوصًا بإفريقيا، ما ينعكس على أوضاعها الاجتماعية والأمنية، وهو ما يشعل التنافس خلال هذه الأيام بين الغرب وروسيا، من أجل سحب دول القارة الإفريقية إلى صفها فى أى معركة دبلوماسية مقبلة، ويسعى كل طرف إلى التودد لها، ومع احتدام الصراع الروسى الغربى فى إفريقيا ستُقسم إلى دول صديقة وأخرى غير صديقة.
ويضيف حمدونى: فى إطار هذا التنافس الحاد، تتابع وتتزامن الزيارات لكبار المسئولين من كلا الطرفين إلى البلدان الإفريقية، خصوصا المؤثرة منها أو ذات الرمزية، وفى هذا الإطار قام وزير الخارجية الروسى، سيرجى لافروف، بجولة فى الدول الإفريقية، والتى جاءت بعد توقيع كل من روسيا وأوكرانيا وتركيا بإسطنبول، على وثيقة مبادرة الشحن الآمن للحبوب والمواد الغذائية من الموانئ الأوكرانية، وهى رسالة روسية للأفارقة بأنها تأخذ أمنهم الغذائى بالحسبان، وأنها غير مسئولة عن أزمة الغذاء العالمية، التى نتجت عن عمليتها العسكرية فى أوكرانيا، وهذا يؤكد امتلاك روسيا لقدرات تصديرية مهمة من النفط والغاز والحبوب والأسمدة، وهو ما يقلق الغرب من أن تستخدم موسكو هذه القدرات، لفرض نفوذها على القارة السمراء واستقطاب الدول الإفريقية فى صفها فى صراعها مع الغرب، كما جاءت هذه الجولة بعد الزيارة التى قام بها الرئيس الأمريكى “جو بايدن” للشرق الأوسط، التى زار خلالها إسرائيل والأراضى الفلسطينية والسعودية. كما شارك بايدن فى قمة جدة للأمن والتنمية التى ضمت الدول الست الأعضاء فى مجلس التعاون الخليجى، بالإضافة إلى مصر والأردن والعراق.
ويتابع: كما قام ماكرون، بشكل متزامن، بجولة بغرب إفريقيا، شملت الكاميرون وبنين وغينيا الاستوائية، وجميعها مستعمرات فرنسية سابقة، فى الوقت الذى يشهد نفوذ بلاده تصدعاً فى أكثر من بلد إفريقى، أمام منافسة عدة دول صاعدة بينها روسيا والصين، كما توجهت مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة إلى إفريقيا، قائلة: إنها ستركز على كيفية مساعدة الولايات المتحدة، لكل من أوغندا وغانا والرأس الأخضر، فى التعامل مع أزمة الغذاء التى عصفت بالقارة بشكل خاص، وليس التنافس مع الصين وروسيا، وفى الحقيقة هذا يتنافى مع أهداف زيارتها، وتبعت رحلتها على الفور، زيارات وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن، إلى جنوب إفريقيا والكونغو ورواندا.
ويوضح أن وزير الخارجية الصينى وانج يى، بدأ عام 2022، قام بزيارة استغرقت أربعة أيام إلى إريتريا وكينيا وجزر القمر، محافظًا على تقليد دام 32 عامًا، بأن يقوم أكبر دبلوماسى فى البلاد، بأول رحلة له فى العام إلى إفريقيا. وهذه الزيارة تؤكد أنها طرف رئيسى فى الصراع حول إفريقيا، ولكنها غير مستعدة للتنازل عما حققته من نفوذ بل هى راغبة فى تحقيق المزيد، ويحاول كل طرف تحميل الآخر مسئولية أزمة الغذاء العالمية، والتى ستكون الدول الإفريقية أولى ضحاياها، وتراشق الاتهامات بين الغرب والروس، حول المسئولية فى ارتفاع أسعار الحبوب والمواد الغذائية عالمياً، يعكس رغبة فى حشد أكبر قدر من الحلفاء الأفارقة.
ويمضى حمدونى فى الحديث، قائلا: الغرب لم يتردد فى اتهام موسكو، بأنها تستخدم أزمة الغذاء العالمية، كأحد أسلحة الحرب، نافياً ما يردده الروس بأن العقوبات الغربية على بلادهم وراء هذه الأزمة. بالمقابل، أكد لافروف، أن روسيا لم تكن المسئولة عن أزمة الطاقة والمواد الغذائية، نتيجة لعمليتها العسكرية فى أوكرانيا، فزيارة لافروف إلى الدول الأربع لا تخلو من رسائل طمأنة بشأن إمدادات الغذاء، لكنها بالمقابل تهديد للدول التى تتخذ مواقف متشددة، ضد روسيا، وقد أكدت زيارة لافروف الأخيرة للقارة أن موسكو لا تزال تملك القوة الدبلوماسية، التى تمكنها من تحدى الغرب فى الوصول للحكومات الإفريقية، وبلورة علاقات قوية، مع تلك الدول المهمة فى القارة الإفريقية تتواكب مع التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية الراهنة.
ويشير إلى أن رحلة وزير الخارجية الأمريكى، أنتونى بلينكن، إلى إفريقيا وصفها كبار المحللين الأمريكيين بالفاشلة، على خلفية الجولة التى سبقه فيها لإفريقيا وزير الخارجية الروسى، سيرجى لافروف، وأكد أغلب المحللين والمتابعين أن رحلة بلينكن لم تنجح فى تغيير الموقف المحايد للدول الإفريقية الرائدة، فيما يتعلق بالعقوبات ضد روسيا، نظرا لرحلة لافروف الأخيرة إلى إفريقيا الناجحة تظهر فشل الغرب فى عزل موسكو.
وقد سجلت كل من روسيا والصين فى المرحلة الحالية، نقاطا مهمة على حساب أمريكا وفرنسا، لكن الأيام المقبلة ومع استعمال كل طرف أوراقا جديدة فى الصراع، ومع تشكل تحالفات جديدة، ستشهد القارة تحركات وضغوطات، من أجل معرفة كيف يقف بلدان القارة إلى جانب هذا الطرف أو ذلك أو إعادة تقييم مناطق النفوذ فى إفريقيا.
ويستكمل الحديث د. عبد الباسط السمارى، الخبير السياسى والاقتصادى، قائلا: تتسابق القوى العظمى من أجل الهيمنة على السوق والثروات الإفريقية، فلقد نهب الغرب ثروات إفريقيا المادية والبشرية، لعدة قرون مرتكبا أبشع الجرائم ضد البشرية، وإثر ظاهرة التحرر التى انطلقت من العقد الثالث إلى العقد الثامن من القرن الماضى، التجأ الغرب إلى حيل وتكتيكات جديدة يؤيد بها استعماره لهذه الدول عن طريق المديونية تحت ضغط متطلبات "حقوق الإنسان"، وما يسمى باتفاقيات "الشراكة" التى تنص على أهداف لم يرها الأفارقة قط وهى الشراكة من أجل التنمية والازدهار والرفاه المتبادل. وهكذا وجدت اقتصادات إفريقيا، صعوبات كبرى لتحقيق التنمية المنشودة فى ظل غياب البنية التحتية الضرورية.
ويضيف: على عكس سياسات أمريكا، كان الاتحاد السوفيتى، أكثر نفعا للأفارقة فى تطوير البنى التحتية والبشرية، لكنه انهار فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى، ولقد عمقت الأزمات المالية، خصوصا أزمة 2008 الهوة بين الأفارقة والغرب، الشىء الذى أحسنت استغلاله الصين، لتصبح أكبر مستثمر فى إفريقيا، تحت شعار “نحن لسنا قوى استعمارية، ونريد شراكة رابح رابح"، ولا نطلب منكم شيئا ولا نملى عليكم أى تعليمات سياسية. وحقيقة يجب الاعتراف بأن هذه المقاربة نجحت، وكانت كبرى ثمارها هو الحياد وعدم الاستمرار فى الدعم السياسى الأعمى للغرب، وهو ما لم يرق للغرب، وراحت قياداته تكثف الزيارات مشحونة بسياسات ترغيبية وترهيبية لقادة الدول الإفريقية، لتدارك ما يمكن تداركه جيوسياسيا أولا، والحصول على الموارد الطبيعية، ثانيا: الحفاظ على أكبر قدر ممكن من السوق الإفريقية ثالثًا، لكن وحسب اعتقادى لقد فاتهم القطار، أولا أمام قوة الشراكات بين الأفارقة والصين وروسيا، وثانيا لظهور اقتصادات ناشئة وواعدة كجنوب إفريقيا ونيجيريا ومصر والجزائر والمغرب.
ويؤكد د. محمد الهراق، المتخصص فى علم الاجتماع السياسى، أن القطبية الثنائية التى كانت قائمة بين الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة الأمريكية، إبان الحرب الباردة بدأت فى الظهور من جديد، لكن هذه المرة بطريقة مختلفة، ترتكز أساسا على البعد الاقتصادي، والتحالفات الدولية القائمة اليوم، لهى خير دليل على ذلك، فمنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، بدت تلك القطبية فى الظهور من جديد، حيث سعت الولايات المتحدة وحلفاؤها فى الناتو إلى فرض عقوبات اقتصادية على روسيا، الشيء الذى كان له انعكاسات اقتصادية كبيرة على دول عديدة فى العالم، خاصة فى إفريقيا.
ويضيف: لهذا تبين لروسيا أن معظم دول أوروبا، إن لم نقل أغلبها على الإطلاق قد انضمت إلى المعسكر الغربى، الذى تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية، وجل هذه الدول ساندت أوكرانيا فى حربها ضد روسيا، بل أن هناك دول وإن لم تسهم عسكريا، فقد أسهمت اقتصاديا، وذلك بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا. لهذا اتجهت الخارجية الروسية إلى البحث عن نافذة للخروج، من هذا الوضع المتأزم الذى أصبحت تعيشه داخل العالم، من أجل ذلك بقى الحل الأنسب هو توجه سياستها صوب إفريقيا، وهو بالفعل ما تم تطبيقه على أرض الواقع، حيث قام وزير الخارجية “لافروف” بجولة إفريقية قادته لمجموعة من الدول فى الفترة من 24 إلى 28 يوليو من الشهر الماضى.
ويتابع: لأن الصراع مازال قائما حول البحث عن النفوذ والسيطرة والهيمنة الاقتصادية، فإن الولايات المتحدة لن تبقى مكتوفة الأيدى، وتتفرج على التوغل الروسى والصينى فى إفريقيا، بل على العكس من ذلك سعت، وكشفت أخيرا عن وثيقة توجيهية جديدة، تتضمن إعادة صياغة شاملة لسياستها فى إفريقيا جنوب الصحراء، لمواجهة الوجود الروسى والصينى ومكافحة الإرهاب. يأتى ذلك فيما بدأ وزير خارجيتها أنتونى بلينكن جولته الجديدة قادته إلى بعض الدول فى إفريقيا على رأسها جنوب إفريقيا ورواندا وجمهورية الكونغو الديموقراطية. ولعل قولة بلينكن فى جنوب إفريقيا تؤكد بالملموس ما تحدثنا عنه سلفا حين قال: “إن واشنطن لا ترى القارة الإفريقية على أنها مكان للمنافسة بين القوى العظمى".
ويقول الهراق: من أجل ذلك تحاول واشنطن رسم إستراتيجية جديدة داخل القارة السمراء، تقوم أساسا على فرض التوازن، والبحث عن شركاء جدد داخل القارة، وفى هذا الصدد قال “بلينكن” فى بريتوريا بجنوب إفريقيا: “نتطلع قبل كل شىء إلى شراكة حقيقية بين الولايات المتحدة وإفريقيا، لا نريد علاقة غير متوازنة”. وبما أن هذه الزيارة التى قام بها “ بلينكن”، جاءت مباشرة بعد زيارة وزير الخارجية الروسى للمنطقة بأيام فقط، وتحديدا نهاية يوليو، فقد رأى المتابعون والخبراء فى الشأن السياسى، أن هذه الزيارة تهدف أساسا إلى التصدى للتوغل الروسى والصينى فى إفريقيا، ولهذه الغاية فقد أعدت الولايات المتحدة وثيقة توجيهية، تحت عنوان "إستراتيجية الولايات المتحدة تجاه إفريقيا جنوب الصحراء"، وغالباً ما كان اهتمام الولايات المتحدة بإفريقيا، لا يطغى على أولوياتها وتأمل الإدارة الأمريكية فى تغيير سياستها، ومن المقرر عقد قمة أمريكية - إفريقية فى 13 ديسمبر فى واشنطن.