الدكتور محمد عناني: الترجمة تحتاج إلى لمسة أدبية من المترجم
أقول لنهاد صليحة: أشعر بالوحشة في غيبتك
ترجمت «الوعد الحق» و«خطبة الشيخ» و«على هامش السيرة» لطه حسين وأتمنى ترجمة باقي أعماله
فعلت ما بوسعي في ترجمة شكسبير وعلى الجيل الجديد مواصلة المسيرة
توحيد اللهجات العربية مستحيل.. والمترجم شريك للمبدع في إبداعاته
لا يبدأ يومه الحافل بالعمل إلا بعد قراءتها مع كوب من مشروب دافئ، قال لى إنه ينزعج كثيرا، حين يصطدم بخطأ لغوى فى أى عمل أدبى أو صحفى، لم لا فهو القائل «يا ويل من لا يعرف العربية»؟
جلست بجواره بعد عناء فى البحث عن مكان يخلو من الكتب، فالكتب كما قال هى أصدقاؤه ورفاقه، تجدهم منتشرين على المقاعد والأرفف، فلا يوجد مكان فى بيته الأنيق، لا يخلو من الكتب.
تخبرك لمعة الباركيه وشكل المكان، بمدى حرص شيخ وعميد المترجمين الدكتور محمد عنانى، على أن يكون كل شيء على ما يرام.. أقبل لتحيتى، فسبقته رائحة عطره الأخاذة، التى ملأت المكان، لم تزاحمها سوى تحيته وضحكته الودود، وترحيبه لشخصى المنبهر دائما بتفاصيله وروعته.
جلست معه جلسة يسودها الود فكان هذا الحوار.
■ الكتاتيب والأسرة وعنانى الطفل.. كيف كنت وكيف كانوا؟
لا تَقُلْ كُنا وكانوا، لا تسلْ أين الزمانُ، فالذى يفتح عينيه على أى من الرحمنِ لا يعنيه كرٌّ لِلَيَالٍ طبعُها ليس الأمان، والذى يدرج فى المهد على حب الكتاب فى الكُتَّابِ يهوى كل حرف من حروف الأبدية، ويحس أن الله أورثه جمال العربية، إنها الروح التى تنبض فى النفس الزكية، وتحيل الطفل أذنًا تسمع الألحان مما ليس تسمعه البرية.
■ ما ملامح اللحظة التى تمنى فيها الطفل عنانى أن يصبح مترجما؟
بعد الكتاب أتى حب الشعر، فكان الشعر هو البداية، فيه حكم الحكماء، وأفانين اللغة العربية، ومشاعرنا الإنسانية، والنظم به تنظيم لنوازع شبه خفية، والقافية به نسق يعلى أنساق الحرية، فرويت الشعر كما قال الخوارزمى، ثم خرجت إلى الشعر أحاول أن أثبت شيئًا، فإذا بى قد صادفت دهاقين الشعراء، ممن أنجبهم ذاك العصر، فعرفت بأنى «لن أفلح» فى أى مصاحبة لهم، ناهيك بأى منافسة، وقنعت بأن أنقل للعربية بعضًا من شعر السكسونيين أو اللاتينيين، وعكفت على تحسين صياغة ما وفقنى الله إليه.
■ ما الأسماء التى يدين لها الدكتور عنانى بالفضل فى تكوين اسمه وشخصيته؟
للحق لقيت التشجيع الصادق من أستاذى شكرى عياد، إذ كان يسمى قرض الشعر جنونًا، ويراجعه ويصححه أحيانًا، وانضم إلى تشجيعى هرمان هما أحمد عبد المعطى حجازى، ورجاء النقاش، كانت تلك أواخر خمسينيات القرن الماضى، وأوائل ستينياته، والواجب أن ألتفت إلى عملى بالبحث العلمى فى اللغة الإنجليزية وآدابها، لكنى لم أتوقف عن نظم الشعر وترجمته، حتى آن أوان رحيلى إلى جامعة لندن، كان الشعر فى نظرى مناظرًا للتاريخ، وينطبق عليه قول العقاد:
ومن وعى التاريخ فى صدره أضـاف أعمارًا إلى عمره.
■ قلت من قبل جملتك الشهيرة «الويل لمن لا يعرف اللغة العربية» حدثنا عن مكانة اللغة العربية لديك؟
عندما يبدأ المرء حب الشعر، يشعر بأن حياته كلها أصبحت قصيدة تتشكل مع الأيام، والشعراء العظماء مهما اجتهدوا فى إخفاء طباعهم الشخصية فى شعرهم، يفصحون عن جوانب منها تتطلب الدرس والتحليل، وقل هذا نفسه عن المترجم الصادق، أى المترجم الذى يهب حياته للترجمة بنوعيها: الترجمة العامة، وعادة ما يقصد بها لغة الإعلام، أى لغة الصحف ووسائل الإعلام، وهى لغة غير متخصصة فى فرع معين من العلوم الطبيعية أو من العلوم الإنسانية، ولكنها تتضمن شتى المصطلحات الشائعة، ويسيرة الفهم فى السياسة والاقتصاد والطب والفنون، ومن يعمل فى هذا المجال يهتم بمعرفة ما يسمى أكثر الألفاظ تواترًا فى اللغة، وهى تتضمن ما يسمى الألفاظ الأساسية أى التى لا غنى عنها للإنسان العادى ويكتسبها منذ الطفولة من اللغة الأم، إلى جانب ما يسمى بألفاظ الحرفة أو المهنة (jargon) أى العمل الذى يمارسه بصورة منتظمة فى سنوات نضجه.
والمترجم الذى يمارس الترجمة العامة قد يتخصص فى فرع من فروع ألفاظ الحرفة أو المهنة، وقد يقتصر عليه، فقد نجد مترجمًا ملحقًا بسلك قضائي، ملمًّا بشتى الفروق اللغوية معنى ومبنى ما بين لغتين أو أكثر، فى الشئون القضائية، وقس على ذلك سائر الحرف والمهن.
وأما النوع الثانى فهو الترجمة المتخصصة، وهى التى قد يمارسها بعض النبهاء من مترجمى لغة الحرفة أو المهنة، لكن المصطلح ينصرف أساسًا إلى الترجمة الأدبية، وهى التى انضم إليها أخيرًا فرع عسير المأخذ يسمى الترجمة الفكرية وهى التى تتضمن ترجمة العلوم الإنسانية البازغة، والفلسفة ما لف لفها، وقد عملت فى مطلع الصبا بالترجمة من النوعين، ثم انتهى به حب الأدب إلى الترجمة الأدبية والترجمة الفكرية معًا.
■ ما المساحة التى أخذها عنانى المترجم من عنانى الزوج والأب والصديق؟
الترجمة الأدبية والفكرية أصبحتا نهج حياتى كله، كانت تشاركنى فيه زوجتى عندما تكون الترجمة مسرحية (24 شكسبير)، كما كان يشاركنى أصدقائى، وعلى رأسهم ماهر شفيق فريد، بالقراءة والنقد، وكثيرًا ما كنت لا أدفع إلى المطبعة بكتاب، من دون مراجعة أحد الأصدقاء له، فالترجمة الأدبية والفكرية من الأنشطة الإبداعية التى تتطلب أن تنظر فيها أعين أخرى.
■ نهاد صليحة الزوجة والحبيبة، ماذا تقول لها بعد سنوات من الفراق؟
نهاد صليحة الزوجة والحبيبة تعيش فى قلبى إلى الأبد، لكننى أفتقر إلى صداقتها التى تعنى «من صَدَقَكَ لا من صدَّقك»، وأقول لها أشعر بالوحشة فى غيبتك، وعزائى أن لنا لقاءً قريبًا.
■ هل تعيش الدكتورة سارة عنانى أستاذة الأدب الانجليزى بجامعة القاهرة فى جلباب أبيها أم أن هناك اختلافا فى النهج والأسلوب؟
سارة ابنتى ولدت وترعرعت فى إنجلترا، فمن الطبيعى أن تكون الإنجليزية هى لغتها الأم، وهى تمارس الترجمة إليها مثلما أمارسها، وقد فازت بجائزة «سيف غباش بانيبال» للترجمة الأدبية العربية 2021 عن رواية
«الفتاة ذات الشعر المضفر»، وهى النسخة الإنجليزية لرواية «شغف»، للكاتبة المصرية رشا عدلى.
■ كان السفر ملاصقا لك فى معظم فترات حياتك.. ماذا تمثل حالة السفر للدكتور عنانى؟
السفر قرين الترجمة، وهما صنوان وغير صنوان لأن الغربة هى الأساس، فالاغتراب عن اللغة اغتراب فى المكان، والأصل الاشتقاقى لكلمة الترجمة الإنجليزية «اغتراب عن المكان»، وقد زرت كثيرًا من البلدان حاملًا لغة قومى ومترجمًا ما يصادفنى بما لم يصادفنى، وهو معنى من معانى المعرفة الإنسانية المتمثلة فى المضاهاة، بين اللغة القومية وغيرها. انظر إلى غربة طه حسين التى فرضها كف بصره، فهو وإن لم يكن رهين محبسين مثل أبى العلاء، فهو حبيس أصوات اللغات فى تنافرها وتوافقها، لقد سحرنى هذا الجانب من عمله وأحببت التحدى الماثل فى ترجمة أسلوبه فترجمت له ثلاثة أعمال هى الوعد الحق، وخطبة الشيخ، وعلى هامش السيرة إلى الإنجليزية، وهى مهددة بنفاد نسخها، وعدم إعادة طبعاتها وأتمنى أن أواصل مشروع طه حسين.
■ ماذا كنت تعنى بضرورة إظهار الأصل فى الترجمة وعدم اتباع أسلوب واحد فى ترجمه الأعمال؟
الترجمة الأدبية نوعان، أولاهما الترجمة التى تلتزم بالأصل التزامًا مبالغًا فيه من زاوية الصياغة اللغوية، وهذه نسميها ترجمة تغريبية وأنا أعارضها، وأدعو إلى ما يسمى الترجمة التدجينية، أى التى تقرب النص المترجم من القارئ (مثل الطيور الداجنة)، لكنه مهما اقترب لغويًّا ظل بطابعه أجنبيًّا، أما ما يقال عن محاكاتى لشغل النص الأجنبى، فلا يعدو أن يكون التزامًا بنوعه الأدبى، فإذا كان الأصل شعرًا موزونا مقفى وجدت أن أمانة النقل تقتضى التزام المترجم بما التزم الشاعر به، وهنا تتجلى درجة من درجات الإبداع.
■ من المعروف أنك لا تفضل المنهج التوصيلى فى الترجمة وأنك تتحيز للأسلوب التعبيرى والأدبى، هل كل الأعمال تحتاج إلى اللمسة الأدبية من المترجم؟
كانت هذه وصية شكرى عياد لى فى الأدب والترجمة جميعًا، أما إن قيل إن ترجمة الشعر نظمًا أمر عسير، فلا يردده إلا من لا يستطيع النظم ولا أقول قول الشعر، فليقتصر هؤلاء على ترجمة النثر فللنثر صعوبات تضاهى صعوبات الشعر، ومن بينها ما يسمى الصراع بين المنهج التوصيلى والمنهج الأدبى، فالأول يعتمد على توصيل الأفكار من دون التفات إلى براعة الصوغ، والثانى يعمد إلى نقل المعانى فى مبانيها إذا كانت اللغة المستهدفة تسمح بذلك، فعندها يكون النص المنقول أوضح وأجمل.
■ ما رأيك فى الرأى الذى يقول إن أفضل ترجمة لأعمال دستويفسكى هى التى كتبها سامى الدروبى؟
سامى الدروبى أديب عظيم، لم يلق حظه من التقدير والدرس فى الوطن العربي، وليتنا نوفيه حقه.
■ هل من الممكن أن يحقق المترجم شهرة تفوق شهرة المؤلف الذى ترجم له؟
عندما يكون العمل الأجنبى غير متاح إلا بلغته الأصلية لمن لا يعرفونها، فإن الترجمة التى تقدمه بلغة القارئ تجعل صاحبها مشاركًا فى الإبداع، إذ نالت المترجمة كونستانس غارنت، شهرة تقترب من شهرة تشيخوف الذى ترجمته، وكذلك وليم آرتشر مترجم النرويجى هنريك إبسن، والآن (الراحل) صالح علمانى المترجم عن الإسبانية.
■ هناك بعض الكلمات العربية الفصحى يختلف معناها من بلد عربى إلى بلد أخر مثل «دولاب»، كيف توفق بين اللهجات العربية المختلفة فى الترجمة وهل تنحاز إلى لفصحى المصرية؟
توحيد اللهجات العربية محال، وعلى المترجم أن يحيط بهذه الاختلافات مهما تكن.
■ برأيك لماذا لا تتحول الترجمة إلى مهنة نظامية داخل الهيئات الحكومية الثقافية حتى لا تظل مهنة فردية يعتمد فيها المترجم على نفسه ولا تستفيد منه الدولة بشكل منتظم؟
تحولت الترجمة فعلًا إلى مهنة حكومية، والمشكلة فى عدم توافر عدد كاف يكفل تأمين حقوق المترجمين ورفع أجورهم، ومحاولة تكوين نقابة فاعلة لا تزال فى مهدها، وتواجه الصعوبة الكبرى وهى تصور كل من يلم بالقليل من لغة أجنبية أنه ملك زمامها ولا يقدر جهد الترجمة وأساليبها، ناهيك بمعرفة خبايا كل لغة درسها، مهما تطل سنوات درسه لها.
■ برغم تاريخ مصر الطويل والمؤسس للترجمة، فإن هناك تراجعا ملموسا فى المساهمة المصرية الثقافية فى الفترة الأخيرة، فالدور العربية هى الأكثر إنتاجا والأكثر حضورا برغم اعتمادهم فى أحيان كثيرة على مترجمين مصريين، فما السبب برأيك فى هذا التراجع؟
أزمة تفاوت النشاط الترجمى بين أقطار الوطن العربى، لا تنفصل عن أزمة تفاوتها فى مجالات كثيرة، يعتبر بعضها جوهريًّا مثل التصنيع والبنية الأساسية، فالمصريون العاملون فى بلدان الخليج العربى يتغنون بالتقدم الذى أحرزته فى فنون الإدارة والإنجاز، وهو ما يجعلهم يتأسون على ما نشهده عندنا من ترهل إدارى ورثناه فيما ورثنا من مظاهر اللا مبالاة التى سادت قطاع الإدارة الحكومية نتيجة الحكم الأجنبى، الذى جثم على صدورنا زمنًا طويلًا، إنها رواسب يصعب أن تزول بين يوم وليلة، لكننا بدأنا المسيرة المستنيرة، وأصبحنا نثق فى هيئاتنا الثقافية، وعلى رأسها المركز القومى للترجمة الذى يكافح كفاحًا مستميتًا فى سبيل استرداد مكانة المترجم المصرى داخليًّا وخارجيًّا.
■ بدأت ترجمة أعمال إدوارد سعيد ثم لم تتم المشروع، لماذا؟ وكيف تقيم الترجمات التى أنجزت عنه؟
مشكلة ترجمة إدوارد سعيد مشكلة ذات شقين: الشق الأول مادى محض، وهو يتعلق بما يسمى حقوق الملكية الفكرية، وهى الاتفاقية التى عقدت بعد اتفاقية (بيرن)، وإن لم تلغها، وقد أعلن الجميع فى الوطن العربى التزامهم بها، حالما انضموا إلى منظمة التجارة العالمية (WTO) التى حلت محل اتفاقية الجات (GATT) أى الاتفاقية الشاملة للتعريفة الجمركية والتجارة.
وفى كل اتفاقية من هذه بند ينص على أنه لو لم يصل الناشر والمؤلف إلى اتفاق حول مبلغ مكافأة المؤلف، فله أن يتقاضى نسبة 7% (سبعة فى المائة)، من سعر غلاف الكتاب عن كل نسخة تباع، وهذا النص غير معمول به داخليًّا، فالمترجم لا يعتبر مؤلفًا، ويتناول أجرًا محسوبًا بعدد كلمات الكتاب، وعندما أنشأ حسين مؤنس مشروع الألف كتاب الأول ما بين وزارة التربية والتعليم ووزارة الثقافة عام 1954، كان أجر المترجم للترجمة إلى العربية مليمين للكلمة، أى 2 فى الألف من الجنيه المصرى، وأما الترجمة من العربية فأجرها ثلاثة مليمات، وعلى مر السنين ازداد الأجر حتى بلغ ستة قروش بمقتضى القرار الجمهورى عام 1978، ثم ازداد عندما دخل القطاع الخاص سوق الترجمة، وتفشى التضخم، فأصبح يتفاوت ما بين ناشر وناشر، أى ما بين 18 قرشًا وخمسين (نصف جنيه).
هذا هو الشق الأول من مشكلة إدوارد سعيد، فالورثة يطالبون بحقهم وفقًا للاتفاقيات الدولية، وهذا طبيعي، والناشر يستند إلى بند آخر فى هذه الاتفاقيات ينص على محاسبة مختلفة، تختلف إن كان البيع مقصورًا على بلد معين، أو يشمل العالم كله، ومن هنا أصبحت أسس محاسبة المترجم الذى يعتبره الوارث مؤلفًا، قضية تنظرها المحاكم، وهنا أيضًا نشأ خلاف حول البلد الذى ينظر محاكمة هذه القضية، أما الشق الثانى فهو حق العربى فى أن يقرأ ما كتبه إدوارد سعيد، وهو حق لا يعترف به أحد حتى الآن. إذ لا ينص عليه قانون ولا يحاسب على انتهاكه قانون.
■ مشروعك العالمى المتفرد لترجمة أعمال شكسبير، ماذا يتبقى له لكى تنتهى منه بشكل كامل؟
مشروع شكسبير، مشروع ينتظر الشباب القادرين فقد فعلت ما فى وسعى وعلى الجيل الجديد مواصلة المسيرة.
■ هل تفكر فى العودة إلى الكتابة المسرحية معشوقتك القديمة بعد ابتعادك عنها لسنوات طويلة؟
نلت كفايتى من المسرح، وعشقى حاليًا طه حسين، وإن مد الله فى عمرى سوف أواصل ترجمة أعماله.