«أوراق من نفسي».. رؤى مثالية وواقع ملوث
هذا الكتاب شهدتُ مولده، وما أكثر الكتب التي وُلدت على يدي، وفرحت بها، لكن فرحتي بهذا الكتاب مختلفة، فهو الكتاب الأول للصديق أحمد سعيد طنطاوي، وقد وضع فيه معظم رؤاه وأفكاره وتصوراته، ومواقفه تجاه العديد من القضايا، أقول بعض رؤاه لأنه لا يزال لديه الكثير. ومن يقرأ الكتاب سيعرف أن المؤلف لديه فعلاً الكثير الذى سوف يقدمه للإسهام فيما يتصور أنه حلول لقضايا وطنه التى تفاعل معها، وحاول اقتحامها.
على أن أكثر ما لفت نظري في طريقة تناول أحمد سعيد طنطاوي، للقضايا التى تصدى لها هي الجرأة والصدق مع الذات والتواضع بعدم ادعاء ما لا يعرف، والدخول إلى تلك القضايا من زوايا نظر تشكلت داخله هو وحده، وليس متأثرا فى رؤاه بأى أحد آخر، أو مستجلبا رؤى من مفكرين آخرين، فليس أحمد سعيد ممن يقرأون الجرائد، ويلفون لفة على المواقع، ثم يجلسون ليلخصوا ما قرأوا في مقال، أو يطنطن به في الجلسات أو على مواقع التواصل، وليس هو ممن يجلسون أمام برامج «التوك شو»، ثم يختارون قضية مما يناقش ويدلى فيها بدلوه، بل إنه بالتعبير النقدى القديم: لا يصدر إلا عن أصالة فكرية تخصه.
«أوراق من نفسي»، الذى أصدرته دار «النخبة للطباعة والنشر» يضم مختارات أولى من مقالات طنطاوي، تشكل معا مجتمعة، إذا نظرت إليها من أي زاوية تريد، نوعا مختلفا من التحقيق الصحفى الذى يقوم بفحص مدروس، لأنماط المشكلات التى يعانيها المجتمع، ويتطور أحيانا للتدخل بالرأى والمشورة التى يرى الصحفى أنها واجبة حتى لو لم تطلب منه.
على أن أميز ما يميز كتابة أحمد سعيد تلك الحماسة التى هى قرين المثالية في النظر إلى الأشياء، وهى حماسة معدية، فأنت تخرج من قراءة الكتاب متحمسا للمشاركة، لأنك تشعر مع سطور الكتاب، بأن كل كلمة نكتبها عن أيامنا هى شهادة حية أو ينبغى أن تكون كذلك، ولا بد أنها كذلك فى هذا الزمن، فإذا لم نكن قادرين بذاتنا على الحل، فلا أقل من تسجيل شهادتنا على أيامنا وما يعترضنا، إنها شهادة حية ومادة أولية لتاريخ اجتماعى سوف يكتب بكل هذا الوضوح فى يوم من الأيام، وشهادة أحمد سعيد طنطاوى جاءت من الوضوح والبساطة، بما يجعلها أقرب إلى سيرة ذهن متفاعل، ذهن يقظ، يفكر فيما يحيط به، ولديه إحساس متوقد بالمحيط الاجتماعى والسياسي، يتعامل مع الشأن العام على أنه أمر ذاتى ما مكنه من التقاط بعض التفاصيل التى ربما تخفى على الكثيرين برغم وضوحها وعيانها.
أحيانا فى بعض المقالات يبدو أحمد سعيد طنطاوي، فى «أوراق من نفسي»، مثل طفل مصاب بالدهشة أمام ما يجري، وتأتى الكتابة كمزيل أو مفسر لهذه الدهشة، هى إن صح القول أداة للفهم وإحدى مرتكزات رؤية العالم لديه، كما أنها أيضا سمة للرؤى المثالية فى التعامل مع الواقع.
فعبر سبعين مقالا، تشكل متن الكتاب تعين على الكاتب أن يتعامل مع ما يحيط به فى وضوحه ومباشرته، وانفعاله به، وتغيب عنه أحيانا آلية ربط ما يجرى بظروفه السياسية العامة، وتفاعل السياسى مع الاجتماعى، فالواقع المصرى والعربى من التعقيد، بحيث إن كل مشكلة تكون نتاجا أو ترتيبا على أخرى، يجب فك هذه التعقيدات لفهمها، لكن الكاتب، ولأنه كتابه الأول، ورؤاه الأولى غلبت عليه الحماسة والتعامل المستقيم مع القضايا التى يعالجها، والاستقامة التى أعنيها هنا هى التعامل مع المشكلة كأنها بنت يومها، دون تشابكها وامتدادها، لكن هذه الحماسة التى ذكرتها سابقا فى طريقها إلى النضج، وهذه المقالات تقول بوضوح إننا فى انتظار كاتب مقال مهم.