مصطفى الشيمي يكتب: طائرة خاصة
انتقل "يحيى" للحياة في بيت جديد ببلد جديد بين أناس غرباء عنه.. كان يفكر في التخلص من تعاسته وانطوائه، رأى أن سعادته وحزنه ينبع من داخل نفسه.. وكان لابد أن يتوقف من تحميل الدنيا للأحداث والظروف التى تحيط به.
غادر إحدى مناطق الريف وانتقل للعيش في شقة فوق سطح أحد المنازل في "شبرا".. نام واستيقظ ليجد نفسه فى بلاد غريبة .. أطفأ سيجارته وأوقف ذهنه تماماً عن التفكير .. اكتسب هذه العادة مؤخرا مارسها باحتراف بعد تدريب عنيف من وقت لآخر، يتوقف عن التفكير ويسبح راضيًا في العدم ويتجاهل صوت أطفال جيرانه المزعجين.
ثبت عيناه على وجه الطفلة الوحيدة الصامتة حتى ظنت أنه يمازحها فضحكت وجرت من أمامه وهو جالس فى صمت وبدأ يمارس هوايته المفضلة على سطح المنزل .
قفز يحيى" من مكانه ومد يده إلى كيس بلاستيكى أسود يبدو أنه محمل بأشياء ليست ذات قيمة، أخرج خيوط من الدوبار وأربعة أعواد من البوص الدائري المجوف، استخدم سكينًا حاميه وقام بتقسيم البوصة الوحدة إلى نصفين بالطول ثم قام بوضعهما على شكل كروس ولف عليها الخيط بحيث تحكمها جيدا، والاثنين الآخرين نفس الوضع وحتى أصبح لديه أربع أضلع و ثمانية جوانب.
كان يحيى بارع في ضبط "ميزان" الطائرة وكان معظم أطفال القرية وشبابها يستعينوا به حتى يضمنوا توازن طائرتهم في السماء الواسعة.
انتهى من عمل الطائرة بعد أن كسها بلون بلاستيكي أحمر، قص بعض الأكياس على هيئة "شراشيب" ولصقها على الذيل .. أحضر ثمانية ورقات صغيرة وغراء وقلم رصاص.. ربما لم يكن لتلك الأدوات أهميه يراها أحد غير " يحيى ".. كتب على كل ورقة ما خطر في باله من هموم والآم فى وزن الجبل على صدره، لصقها على كل جانب بصمغ خفيف لن يصمد كثيرا ضد اتجاه الريح.. كتب:
"موت أبى"
"موت أمي"
"الوحدة "
"طفولة لم تكن كما أحب"
"عقدة التفوق"
" الشعور بعدم القيمة"
"الخوف"
"اليأس"
حمل "يحيى" الطائرة، وحمل معها ذيلها، وخرج ورائه موكب مهيب من أطفال جيرانه وراح يجرى وهو يدفع الطائرة لأعلى والجميع يتابعه في حماس واعجاب، وأخذ يناور ويجذب الحبل ثم يرخيه فى ثقة ومهارة حتى حلقت الطائرة وصفق الأطفال من شدة السعادة .
هكذا كان يعيش ويلعب و يبعثر أوراق القدر، ووحدة الأيام ، والأحلام والأحبّة والأحزان والأوجاع . حول أيامه إلى ما يشبه تلك الطائرة، فما بين ورقة تطير وأخرى تقترب تتغير الأوضاع وتهون المسافات.. تحلق الطائرة من جديد و تفرد أجنحتها بشدة، تهتز الطائرة بعنف وتضعف اربطتها وتتساقط الأوراق واحدة تلو الأخرى، وكأنها تشعر الواقفين أن الرحلة على وشك الانتهاء وقرب موعد الهبوط ولكنها في الحقيقة كانت تحكي للحى كله كيف صمد يحيى أمام هذة المتاعب المتناثرة، وكيف يحيا وحيداً يغمره الشرود.. تعود وتحلق فوق الرؤوس وأمام أعين المعجبين، يطير معها كأنه الكابتن داخل الطائرة يحلق ويرقص في السماء كما يشاء، يهرب بها خارج الصندوق بعيدا عن القضبان الجامدة باحثاً عن الحرية التامة التي تبنى ولا تهدم ، يطير ويطير.. يتعثر.. يقاوم.. حتى تنكسر أشعة الشمس الحارقة ويدخل موعد غروب الشمس ويبدأ الليل فى أسدال ستائره السوداء وتهبط طائرته بسلام وقد انتزع الرياح منها كل الورق من سطح الطائرة وتبعثرت همومه.. وأصبح يحيى بلا هموم.