طابا.. حكاية كيلو متر مربع نجحت مصر في استرداده من إسرائيل بمفاوضات دولية
تظل الحقائق شاهدة على قوة المفاوض المصري وقدرته على مواجهة أصعب التحديات، 39 عامًا مرت علي معركة دبلوماسية وسياسية وعسكرية سجلت فيها مصر نصرًا كبيرًا، في مثل هذا اليوم 19 مارس عام 1989 رفع العلم المصري علي طابا آخر قطعة أرض كانت تحتلها إسرائيل وترفض مغادرتها، واستخدمت كل الحيل والادعاءات ومحاولات التزييف أمام لجنة المفاوضات الدولية، في محاولة للاحتفاظ بمساحة كيلو متر مربع من الأرض أمام إيلات عقب نصر أكتوبر 73، والذي تبعته مفاوضات السلام، حتي اكتملت الملحمة بفريق من الخبراء بلغ 25 من العسكريين والدبلوماسيين والقانونيين؛ نجحوا في مفاوضات دولية لإثبات أحقية مصر تاريخيًا وجغرافيًا بهذه المساحة التي تحتل موقعًا فريدًا على الحدود الشرقية في جنوب سيناء.
نصر أكتوبر بداية الحكاية:
تفاصيل الحكاية تعود للانتصار العسكري المصري في أكتوبر عام 1973، أعقبته معاهدة السلام فى مارس عام 1979، ثم معركة دبلوماسية وقانونية صعبة، وأخيرًا اللجوء للتحكيم الدولى عام 1988، لتكتمل هذه الجهود فى النهاية بحكم هيئة التحكيم الدولية، لتضطر إسرائيل للانسحاب مجبرة من آخر نقاط سيناء، وتسترد الدولة المصرية طابا وآخر شبر من أراضيها فى سيناء، لنحتفل برفع العلم المصري على أرض طابا في 19 مارس عام 1989.
فقد أرادت إسرائيل الاحتفاظ بطابا؛ نظرًا لأهميتها السياسية والسياحية والاقتصادية والعسكرية، إلا أنها فوجئت بتصميم مصر على أنها لا تقبل إلا بتحرير كل أراضيها، ومن هنا بدأت معركة التحكيم الدولى، التى جاءت تتويجًا للانتصار العسكرى الذى منه انطلقت المعركة السياسية وارتكزت عليه المعركة القانونية والقضائية وانتهت بتحرير طابا ليتم تحرير كامل سيناء.
ولعبت الدبلوماسية المصرية دورًا كبيرًا فى جمع الوثائق، وقدمت وزارة الخارجية حينها 29 خريطة بأحجام مختلفة تثبت الملكية المصرية لطابا، وتمكنت من جمع خرائط ووثائق من الأرشيف المصرى والبريطانى والتركى، وقدمت 10 خرائط من الأرشيف الإسرائيلى نفسه تثبت تبعية طابا للأراضى المصرية، فيما قدمت إسرائيل ست خرائط فقط، لكن الخرائط والوثائق لم تكن كافية فقط لحسم القضية لصالح مصر.
معركة السنوات السبع:
في مارس عام 1979 تم توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، ونصت في مادتها الأولى على أن تنسحب إسرائيل من سيناء إلى ما وراء الحدود الدولية بين مصر وفلسطين تحت الانتداب، لكن إسرائيل قررت بعد توقيع المعاهدة توسيع الأقاليم التي تحيط بميناء إيلات، وشرعت في إقامة فندق سياحي في وادي طابا، ليبدأ خلاف الحدود خاصة عند علامة الحدود رقم 91 بمنطقة طابا.
فى أكتوبر عام 1981، وخلال اجتماع الجانب المصرى مع الإسرائيلى لتفعيل انسحاب الجيش الإسرائيلى من سيناء، اتفق الطرفان على كل العلامات الحدودية باستثناء العلامة 91 الخاصة بمدينة طابا، حيث رفض الوفد الإسرائيلى تنفيذ الانسحاب بشكل كامل وتوسع الخلاف حتى شمل 13 علامة أخرى، وأعلنت مصر آنذاك أنها لن تفرط في شبر واحد من الأرض لتبدأ معركة الاسترداد.
وفي مارس 1982 أعلنت مصر عن خلاف مع إسرائيل حول العلامات الحدودية الـ13، مؤكدة تمسكها بموقفها المدعوم بالوثائق الدولية والخرائط التي تثبت تبعية تلك المناطق للأراضي المصرية، وعقدت اجتماعات عدة رفيعة المستوى لبحث إيجاد حل للأزمة، وتعقدت الأمور بشكل أكبر بعد تعنت الإسرائيليين في إعادة طابا.
اللجوء للتحكيم الدولي:
واستنادًا إلى النص الصريح الوارد في اتفاقية السلام بأن أي نزاع ينشأ بمناسبة تطبيق وتنفيذ هذه الاتفاقية يحل أولًا بالتفاوض، وإذا فشل التفاوض في حل النزاع يلجأ الطرفان إما إلى التوفيق أو إلى التحكيم، وطالبت إسرائيل باللجوء للتوفيق لكن مصر رفضت تمامًا؛ لأن التوفيق عملية سياسية أما التحكيم عملية قانونية.
وطالبت مصر باللجوء إلى التحكيم الدولى لحل النزاع كما تنص المادة السابعة من معاهدة السلام بين البلدين نتيجة للرفض الإسرائيلى، وأعلنت إسرائيل في 13 يناير من عام 1986 موافقتها على اللجوء للتحكيم الذي تحددت شروطه وتم التوقيع عليها في 12 سبتمبر1986، وشمل الاتفاق مهمة المحكمة في تحديد مواقع النقاط وعلامات الحدود محل الخلاف، واتفق الطرفان على اختيار المحكمين.
وكثفت الدبلوماسية المصرية من تحركاتها الدولية لإظهار الحقيقة وتفنيد الرواية الإسرائيلية لسرقة جزء من أراضى سيناء، وقدمت مصر الوثائق والخرائط التى تثبت تبعية طابا للأراضى المصرية، في مايو 1985، وتشكلت اللجنة القومية العليا لطابا، والتي ضمت كفاءات قانونية وتاريخية وجغرافية، تتكون من عدد من الدبلوماسيين على رأسهم نبيل العربي، ووحيد رأفت نائب رئيس حزب "الوفد"، ومفيد شهاب أستاذ القانون الدولي، والمؤرخ يونان لبيب رزق، وعدد من الخبراء العسكريين يرأسهم اللواء بحري محسن حمدي نائب مدير المخابرات الحربية، واللواء عبدالفتاح محسن مدير المساحة العسكرية آنذاك.
استمرت المرافعات 3 أسابيع، قبل أن يعلن القاضي السويدي "جونار لاجرجرين"، رئيس هيئة التحكيم الدولي، حكمه التاريخي داخل قاعة المجلس الكبير بالمقر الرسمى لحكومة مقاطعة جنيف، فى حضور وكيلى الحكومتين، وأعضاء هيئة الدفاع لكلا الجانبين، بأغلبية 4 أصوات والاعتراض الوحيد من الجانب الإسرائيلى، ووقع الحكم فى 230 صفحة، حيث تضمن منطوق الحكم "أن وادي طابا بأكمله وبما عليه من إنشاءات سياحية ومدنية هو أرض مصرية خالصة".