فتحية العسال.. فى قلب النضال
![فتحية العسال](https://media.aldawlanews.com/img/25/02/05/1225950.webp)
فتحية العسال، اسم يتردد فى الذاكرة كلما ذُكرت النضالات النسوية والإبداع الأدبى، لم تكن حياتها مجرد فصول تُروى، بل مشاهد نابضة بالحياة، امتزجت فيها قوة الكلمة مع ثقل المواقف، هذه ليست سيرة ذاتية لها، بل لقطات من سيرة حياة كنت حاضرًا فى بعضها وشاهدًا على بعضها الآخر، هى حكايات تسافر بين شوارع القاهرة وأزقة بيروت، وبين مقاعد النضال وطاولات الكتابة، لتروى قصة امرأة استثنائية عاشت وكتبت وناضلت حتى آخر رمق.المشهد الأول: لقاء تحت الحصار
بيروت، 1982، صوت القذائف يقطع صمت المدينة، ورائحة البارود تعبق الأجواء، فى منطقة الفاكهاني، التى بدت شبه خالية إلا من المقاتلين وبعض العاملين الضروريين، كنت أخرج من مقر وكالة الأنباء الفلسطينية “وفا”، أحمل معى ملفات وتقارير تحكى عن الحصار والصمود.
فى الخارج، استوقفنى رجل خمسينى الملامح، بلهجة مصرية واضحة: “معلش، يا أستاذ، تعرف فين مقرات المنظمة هنا؟” توقفت للحظة، متأملاً وجهه المتعب، ثم سألته عن السبب، قال بحماس: “بدوّر على فتحية العسال، سمعت أنها هنا فى بيروت دعماً للمقاومة الفلسطينية.”
ابتسمت، وقد عرفت أننى أمام الكاتب عبد الله الطوخى، “إذن، حضرتك زوجها؟” سألته، فأومأ برأسه، اصطحبته إلى الفندق، حيث كانت تقيم، وتعرفت عليه بشكل أعمق، اكتشفت أنه ابن قرية ميت بدر خميس، تلك القرية التى قضيت فيها عامين من حياتى القريبة من جامعة المنصورة، “عمدة القرية من عائلة الطوخى، أليس كذلك؟” سألته، فرد بفخر: “عمى”!
هذا الحوار البسيط قرّب بيننا سريعًا، حينها تعمقت علاقتى بفتحية العسال أكثر، كانت من الوفد المصرى الذى جاء لكسر الحصار، وكانت تحمل رسالة من الحزب تضم اسمى، ضمن بضعة أسماء أخرى من الزملاء، فتحية بصوتها الواثق وحضورها المميز، لم تكن مجرد كاتبة، كانت رمزًا للمرأة المناضلة، التى تواجه القهر بالحرف والموقف.
فى الأيام التى تلت ذلك، كنت أشارك الوفد فى لقاءاتهم مع القيادات اللبنانية والفلسطينية، كان حضورها مشعًا، وكلماتها صدى للحرية والمقاومة، بين رائحة البارود وصوت القذائف، كانت فتحية العسال تكتب بصمتها الخاصة على جدران بيروت المحاصرة.
المشهد الثانى: عيد ميلاد لا يُنسى فى دمشق
دمشق، 1982. المدينة التى احتضنت المناضلين والمثقفين من كل حدب وصوب بدت فى تلك الليلة أكثر دفئًا وحميمية، فى أحد الفنادق، كان حفلٌ صغير ينعقد على شرف الكاتبة والمناضلة فتحية العسال، حضره نخبة من الكتاب والفنانين السوريين والفلسطينيين والمصريين، على رأس الحضور، الفنان دريد لحام، الذى كان يحتفى بها كرمز مصرى للنضال والفن.
دخلتُ الحفل لأرافق فتحية، إلى احتفال بسيط أعددته فى شقتى بمناسبة عيد ميلادى، عندما أخبرتها بنيتي، أضاء وجهها بابتسامة دافئة وقالت بحزم: “لا يمكن أن أكون فى دمشق يوم عيد ميلادك، ولا أشاركك الاحتفال.” حاول الحضور، بإلحاح، إقناعها بالبقاء، مؤكّدين أن الحفل قد أُعد خصيصًا لها، لكنها أصرت على مرافقتى، قالت بصوت لا يقبل النقاش: “لإلهامى مكانة خاصة، ولا شىء يمنعنى من مشاركته هذه المناسبة”.
رافقناها إلى شقتى، حيث كان الأصدقاء قد بدأوا الاحتفال هناك، أضفت فتحية بحضورها الدافئ روحًا من الحميمية إلى السهرة، لكن المفاجأة الكبرى كانت عندما انضم إلينا الفنان محمد منير، والموسيقار يحيى خليل، طلب يحيى صينية نحاسية، وحوّلها إلى آلة إيقاع، بينما بدأ منير يغنى بصوته الفريد أغانى مثل “الليلة يا سمرة” و”شبابيك”.
كانت الأجواء ساحرة، وصوت منير الذى تمازج مع إيقاع النحاس أضاف للحفل روحًا لا تُنسى الجميع كان يغنى ويرقص، كأن الحصار والحروب نسيت نفسها لوهلة، سجلتُ تلك اللحظات النادرة على شريط كاسيت، لكن مع أسف السنوات والتنقلات، فقدت الشريط، وبقيت الذكريات محفورة فى الذاكرة.
تلك الليلة لم تكن فقط احتفالاً بعيد ميلادى، بل كانت لحظة تجسد الروح النضالية والإبداعية التى جمعتنا بفتحية العسال، بحضورها القوى وإصرارها على مشاركة البسطاء والمثقفين على حد سواء، أكدت مكانتها ليس فقط ككاتبة، بل كإنسانة حقيقية تنبض بالوفاء.
المشهد الثالث: فك طلاسم القاهرة
أواخر الثمانينيات، القاهرة المدينة الصاخبة التى تبدو وكأنها كائن حى نابض بالغموض، عدتُ إلى مصر بعد سنوات من الغربة، وكانت العاصمة بالنسبة لى لغزًا كبيرًا يصعب فك شيفرته، لكن القدر جعل فتحية العسال، ابنة حى السيدة زينب العريق، أول من يقودنى فى رحلتى لفهم هذه المدينة.
بسيارتها الفيات 32 المتواضعة، كانت تصطحبنى فى جولات لا تُنسى. من أزقة القاهرة الشعبية إلى أحيائها الراقية، عرّفتنى بكل ما يجعل هذه المدينة استثنائية، أحيانًا كنا نتوقف عند أحد شواطئ النيل، حيث كانت فتحية تبدأ حوارًا خاصًا مع الماء. “النيل يجيب لى رسائل لا أحد يعرفها غيري”، قالت لى يومًا بابتسامة غامضة، شعرت حينها أن علاقتها بالنيل كانت كعلاقة الكاتب بصفحة بيضاء، تحمل أسرارًا لا يبوح بها إلا لمن يملك القدرة على الإصغاء.
كان لها الفضل الأول فى ارتباطى بالقاهرة، بفضلها، تعرفت على نخبة من مثقفيها، وأماكن تجمعاتهم، اصطحبتنى إلى أتيليه الكتاب، حيث جعلتنى أنضم لعضويته، فاتحًا أمامى بابًا جديدًا من اللقاءات الأدبية والثقافية، لم تكن هذه الجولات تقتصر على شوارع القاهرة، بل امتدت إلى رحلات أبعد، سافرنا معًا إلى طرابلس الليبية، ضمن وفد النقابات المهنية برئاسة سعد الدين وهبة، فى محاولة لكسر الحصار الأمريكى، وفى رحلة أخرى، إلى صنعاء، ضمن مؤتمر تضامنى مع القضية الفلسطينية.
قرب السكن كان له دور فى توطيد العلاقة، كانت فتحية تقيم فى شارع المبتديان، على بعد أقل من كيلومتر من مقر إقامتى فى باب اللوق، كثيرًا ما كنا نلتقى، أو نتبادل الأحاديث الطويلة عبر الهاتف، وللمفارقة كانت أرقام هواتفنا المنزلية متتالية، وكأنها خيط آخر يربطنا.
فى أحد الأيام، دعتنى إلى طاولتها المفضلة فى فندق شبرد القريب. هناك، كانت تختلى بنفسها للكتابة والتفكير، بنصيحتها، قمت بحجز طاولة لى فى نفس الفندق، حيث حاولت أن أحذو حذوها، لكننى لم أستمر طويلًا فى هذه العادة، بينما استمرت هى، وفية لعزلتها المنتجة.
تعلمت منها الكثير، على مستوى الفكر والحياة، كانت فتحية العسال بالنسبة لى أكثر من كاتبة أو صديقة، كانت مدرسة فى النضال والإبداع. وبرغم رحيلها، ستظل ذكراها محفورة فى قلبى، وصوتها يهمس لى بأسرار النيل وحكايات القاهرة.
المشهد الأخير: الفراق والندم
القاهرة 2014، السنوات التى سبقت كانت شاهدة على تغيرات كبرى فى المشهد السياسى والاجتماعى، كنت أنا وفتحية العسال، برغم تطابق رؤانا السياسية لسنوات طويلة، قد وجدنا أنفسنا على طرفى نقيض بعد أحداث 25 يناير، بالنسبة لها كانت تلك الأيام ثورة شعبية بكل تفاصيلها، أما أنا، فكنت أراها محاطة بالغموض وعلامات الاستفهام، لم تكن هذه الخلافات جوهرية، لكنها تركت بصمتها، وأسهمت فى تقليل تواصلنا تدريجيًا.
عندما مرضت فتحية، وجدت نفسى مترددًا فى زيارتها، ليس لعدم المحبة، بل لأننى كنت أحتفظ لها بصورة مشرقة، قوية، ممتلئة بالحياة، لم أستطع تصورها ضعيفة أو مُنهكة، كنت أكتفى بالاتصال بها هاتفيًا، أطمئن على حالها وأحادثها، كما كنا نفعل دومًا، كانت قد انتقلت للسكن فى حى المعادى، على بعد 12 كيلومترًا من مقر إقامتى، وكان البعد الجغرافى يضاف إلى التباعد النفسى الذى فرضته الأحداث.
فى لحظاتها الأخيرة، كنت غائبًا، لكنها لم تغب عنى يومًا فى أوقات شدتى واحتياجى، رحلت فتحية العسال بجسدها، وصعدت روحها إلى بارئها، لكنها تركت فراغًا لم يملأه الزمن، لم يكن الفقد فقط فى حضورها الجسدى، بل فى غياب اللحظات التى كان يمكن أن أشاركها فيها دعمًا، كما فعلت هى معى فى أكثر أوقات حياتى أهمية.
“لم أكن معها فى لحظاتها الأخيرة”، هذا الشعور بالندم ظل يرافقنى، كظل ثقيل، لأنه كان يحمل فى طياته ذكرى امرأة كانت دائمًا حاضرة فى أشد لحظاتى حرجًا، فتحية لم تغادرنى أبدًا، ظلت فى ذاكرتى صوتًا قويًا، ويدًا ممدودة، وقلبًا نابضًا بالإخلاص.
فتحية العسال، كاتبة مصرية ولدت فى 26 ديسمبر 1923، وتوفيت 15 يونيو 2014، تزوجت من الكاتب عبد الله الطوخى، كتبت 57 مسلسلا تليفزيونيا، وعشر مسرحيات، تعتبر واحدة من المناضلات اللواتى كافحنا حتى أصبحت كاتبة شهيرة، خصوصا أنها حرمت من التعليم المنتظم، لكنها استطاعت أن تثقف نفسها بنفسها، وكان لديها مواقف شجاعة فى جميع القضايا الوطنية، خصوصا قضايا المرأة.
الخاتمة عَبرة ودَرس فتحية العسال لم تكن مجرد صديقة، بل كانت جزءًا من رحلتى، شريكة فى الحلم والتجربة، رحيلها ذكرنى بقيمة الوقت مع من نحب، وأهمية أن نكون حاضرِين، حتى فى أصعب اللحظات، فهى كانت دائمًا معى، وكم تمنيت أن أكون معها حتى النهاية.