فى قصص ”ثلاثة طوابق للمدينة”.. الأب والموت ثنائية لا تغيب

فى مجموعته القصصية الجديدة (ثلاثة طوابق للمدينة) الصادرة عن دار الشروق ، يقدم لنا القاص هشام أصلان 15 قصة تدور فى معظمها حول مشاعر الفقد والوحدة والحنين التى تتسلل إلى الروح فتسكنها وتسيطر عليها (أنا رجل وحيد يستطيع أن يسخر من العالم وقسوته بارتياح، وفى الغد أعدكم وأعد نفسى أن أعاود الابتسام المتعشم فى لطافة الحياة).
وعنوان المجموعة لا تحمله أى من قصصها، لكنه يشير إلى أجوائها العامة، فالمدينة هى البطل الحقيقى لقصص المجموعة، وهى حاضرة بقوة عبر (طوابقها الثلاثة).. وطبقاتها، من قاطنى المقابر والعشوائيات إلى سكان الضواحى والكومباوندات، مرورا بالطبقة الوسطى من المثقفين والموظفين مستأجرى الشقق بالأحياء نصف الراقية أوالمقيمين بالأحياء القديمة مثل شبرا ومثيلاتها.
فالكاتب ابن المدينة بكل جغرافيتها وتركيبتها السكانية المتمازجة والمتنافرة فى آن واحد، تلك المدينة التى لا ترحم الغرباء، ولا تترفق كذلك بأبنائها، وهذا واضح منذ أولى عتبات النص (بعد العنوان)، حيث نجد الاهداء (إلى القاهرة .. وأرواح العابرين) ، وهو لا يكره هذه المدينة رغم قسوتها.. فهو نتاجها، خارج من رحمها، متشبع برائحة أزقتها وحواريها.. بل وشوارعها الفارهة وضواحيها، ففى قصة مدينة وراء الليل يقول: (الليل يعرف أن المدينة تحبه أكثر. يعرف أنها ليست من مدن النهار حيث تتحول الى دمية عملاقة تأكل سكانها مبتسمة، بينما يستطيع قلبها ليلا أن يستقل، ويتجلى كقطعة منفصلة عن تلك الضواحى الممتدة، ويوفر شيئا من الحياة لأصحاب المساء).
وفى هذه المدينة القاسية التى تظللها مشاعر الفقد ينشد الراوى الأمان فى ذكريات حميمة أو فى صحبة صديق أو فى حضن الأب باعتباره مصدرا للأمان وهاديا للطريق، ويتبدى ذلك بوضوح فى أطول قصص المجموعة (المكتبات لا تلائم شقق الإيجار)، التى تنساب كبكائية شديدة العذوبة يجتر الراوى فيها ذكرياته مع الأب (أينما نظرت يطالعك الوجه الوسيم من بين صناديق الكتب ويبتسم).
ويبدو الأب حاضرا بقوة كذلك فى (فصل الأحلام) تلك القصة التى ترصد عددا من الأحلام التى تعترى الراوى والتى تنتهى جميعها بموت الأب، موت حقيقى أو متخيل، (لا يكتفى أبى بالمجئ كثيرا فى المنام. بل يصر فى كل مرة أن يكرر أمامى لحظة موته التى لم أرها فى الحقيقة).. الأب والموت عنصران حاكمان فى المجموعة ومسيطران عليها.
ورغم غلبة ثيمة الحزن والفقد على معظم القصص التى تفاوتت أطوالها ما بين الأقصوصة "شهيق"، أو القصة الطويلة "المكتبات لا تلائم شقق الإيجار"، إلا أن هذا الحزن لم يكن أبدا دافعا للكآبة والسوداوية، فقد استطاع الكاتب أن يتجاوز ذلك بنقاط النور التى تلمع هنا وهناك لشخوص لم تلوثهم المدينة، وظلت قلوبهم تحمل النقاء الإنسانى فى باطن هذه القسوة، مثل البطلة فى"مراحل زينب" التى تضع اللمبة الجاز على حافة نافذتها لتضئ الطريق للعابرين، أو الراوى وزميله القديم الذى دارت به الدنيا فأصبح "السايس" الذى يركن له سيارته أمام مقر عمله، واللذين تقبل كل منهما الآخر رغم الفوارق التى صارت. والنقاء نفسه نجده فى بطل قصة "الغريب المبتسم"، إحدى أجمل قصص المجموعة، لما تحويه من رهافة ورقة شديدة من ناحية، وللتقنية المستخدمة فيها من ناحية أخرى.
النقطة الأخيرة التى تجدر الإشارة إليها، هى لغة هشام أصلان التى تتميز ببساطة عميقة وخادعة، وتتجاور فيها الفصحى فى السرد مع العامية فى الحوار، فى تناغم ماتع، وبسلاسة وحرفية عالية، وهى لغة – عبر قصص المجموعة – مشحونة بعواطف وأحاسيس أبطالها، ومحملة بثقافتهم وطبقتهم الاجتماعية وبيئتهم.