نتيجة الانتخابات الألمانية : لا مفاجآت كبيرة .. مفاوضات شاقة لتشكيل الحكومة الجديدة

لا مفاجآت كبيرة في نتيجة الانتخابات الألمانية المبكرة التي جرت الأحد 23 فبراير الحالي .
فمنذ انهيار حكومة إشارة المرور فى ديسمبر الماضى برئاسة المستشار أولاف شولتس والتي كانت تضم 3 أحزاب (الاشتراكى الديمقراطى والليبرالى الحر وحزب الخضر ) – فإن كل استطلاعات الرأى وحتى عشية إجراء الانتخابات الأخيرة توقعت عودة الاتحاد المسيحى الديمقراطى إلى سدة الحكم في ألمانيا بل وكشفت عن احتمالات صعود اليمين الشعبوى ممثلا في حزب البديل من أجل ألمانيا وعدم تجاوز الحزب الليبرالى الحر عتبة دخول البرلمان وهى الحصول على نسبة 5 % .
وأشارت بوابة الأهرام إلى هذه التوقعات في عدة تقارير سابقة - وعقب الإعلان عن النتائج الأولية لم يضيع فريدريش ميرتس مرشح الاتحاد المسيحى لمنصب المستشار الوقت وبدأ فورا مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة مع حزب المستشار أولاف شولتس الاشتراكى الديمقراطى ، بما يمهد فيما يعرف في ألمانيا بائتلاف الحزبين الكبيرين على أساس أن الحزبين ( الاتحاد المسيحى والاشتراكى الديمقراطى ) هما أقدم وأكبر حزبين في تاريخ ألمانيا وشاركا في غالبية الحكومات التي تولت حكم ألمانيا منذ 1949.
فقد حصل الحزبان على 328 مقعدا في البرلمان –بوندستاج – طبقا للنتائج شبه النهائية من أصل 630 عدد مقاعد البرلمان ، وهذا يضمن أغلبية مطلقة – وإن كانت غير مريحة – لكنها تتيح للائتلاف الحاكم تمرير القوانين والتشريعات الجديدة فيما عدا تعديل الدستور والذى يحتاج إلى موافقة ثلثى أعضاء البرلمان، وساد الارتياح فى المجتمع الألمانى بعد خوف وتوتر وقلق من احتمال مشاركة حزب البديل من أجل ألمانيا في الائتلاف الحكومى الجديد ، وطبقا لآخر استطلاعات الرأي في ألمانيا فان أكثر من 68 % من المواطنين يفضلون حكومة الائتلاف بين الحزبين الكبيرين .
وكان أكثر المرحبين بعودة الحزبين الكبيرين من ألألمان ذوى الأصول المهاجرة ( حوالى 18% من سكان ألمانيا ) لأنهم بذلك ضمنوا على الأقل استبعاد تنفيذ أجندة اليمين الشعبوى ضد المهاجرين واللاجئين ولو إلى حين .
مفاوضات شاقة وملفات شائكة
أروقة مبنى المستشارية في برلين والمقر الرئيس لحزب الاتحاد المسيحى شهدت نشاطات مكثفة ومشاورات متعددة على مختلف مستويات القيادة ، فقد التقى المستشار المحتمل ميرتس بالمستشار الحالي أولاف شولتس – رغم إعلانه اعتزال الحياة السياسية – لتنسيق عملية نقل الملفات والتقى أيضا قيادات الحزبين في جلسة مشاورات غير رسمية للاتفاق على ملفات التفاوض، على أن تبدأ المفاوضات الرسمية مطلع الأسبوع المقبل بعد اجراء الانتخابات المحلية في ولاية هامبورج شمال ألمانيا الأحد المقبل .
ووفقا للتقاليد السياسية الألمانية، فإن أي ائتلاف لتشكيل الحكومة لابد أن توقع الأحزاب المشاركة فيه على اتفاق مكتوب يتضمن سياسة الحكومة خلال فترة حكمها -4 سنوات – خاصة فيما يتعلق بالقضايا الرئيسية .
ولكن لماذا اضطر المستشار المحتمل ميرتس إلى الائتلاف مع الحزب الاشتراكى الديمقراطى رغم حملته الشديدة على الحزب وانتقاداته اللاذعة لسياساته حتى قبل انهيار الحكومة وبدء الحملات الانتخابية ؟ وما هي فرص نجاح التوصل الى اتفاق قبل الإعلان الرسمي عن تشكيل الحكومة الجديدة ؟
أعلن ميرتس في لقاء تليفزيونى عقب الإعلان عن النتائج الأولية مع قادة الأحزاب التي شاركت في الانتخابات أنه يريد أن يشكل الحكومة الجديدة في أسرع وقت ممكن قبل أعياد الفصح في أبريل المقبل ، مشيرا إلى أن التحديات الجيوسياسية الدولية والإقليمية تحتم تشكيل حكومة ألمانية فورا ، ملمحا إلى تهديدات الإدارة الأمريكية بالتخلى عن أوروبا دفاعيا وأمنيا واستبعاد أوروبا من مفاوضات إنهاء الحرب في أوكرانيا، بالإضافة إلى احتمال تفاقم أزمات الاقتصاد الألمانى في حالة استغرقت عملية تشكيل الحكومة الجديدة وقتا أطول، (وعمليا يمكن ان تستغرق عملية التفاوض لتشكيل حكومة ائتلافية 6 شهور ) وتستمر حكومة تسيير الأعمال خلال هذه الفترة دون اتخاذ قرارات في القضايا المهمة داخليا وخارجيا ، وقد حصل هذا أكثر من مرة .
ورغم أن الحزبين الكبيرين ليسا غريبين على بعضهما، فقد ظل شريكين في الحكومات التي حكمت ألمانيا لمدة 12 عاما من حكم المستشارة أنجيلا ميركل ، وشاركا أيضا في عدد من الحكومات بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، لكن المفاوضات ستكون غاية في الصعوبة الآن ، فالملفات معقدة ، والتحديات وجودية والأجندات والبرامج السياسية لكليهما فتبدو متعارضة .
القضايا الرئيسية أمام الحزبين الكبيرين تشمل : الأمن بكل أبعاده داخليا وخارجيا وما يتعلق بعلاقات ألمانيا الدولية والإقليمية ، والقضية الثانية سياسات الهجرة واللجوء، أما القضية الثالثة الملحة فهى الإسراع في انقاذ الاقتصاد ألألمانى وانعاشه من الركود ، وفيما يتعلق بالقضية ألأولى فالخلافات تبدو بسيطة ، يتفق الحزبان على ضرورة زيادة الانفاق العسكرى وخطة لتطوير الجيش الأمانى وزيادة قدراته في العتاد والأعداد ليكون قادرا على الدفاع عن ألمانيا بل أوروبا كلها، ولكن الخلاف هو حول أسلوب تمويل هذه الخطة ، وحول إمداد أوكرانيا بصواريخ توروس الألمانية طويلة المدى شديدة التدمير، فقد رفض المستشار شولتس هذا الخيار الى آخر لحظة وهو فى سدة الحكم ، بينما يطالب المستشار المحتمل ميرتس ووراءه الاتحاد المسيحى الذهاب الى أبعد من ذلك .
أما قضية الهجرة واللجوء فالهوة واسعة بين الحزبين : برنامج الاتحاد المسيحى وخطابه السياسى متشدد جدا في هذه القضية ، فقد أعلن ميرتس خلال حملته الانتخابية – وعلى طريقة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب – أنه في أول يوم له في منصب مستشار ألمانيا سيقوم بترحيل آلاف اللاجئين والمقيمين ، ولكن الأخطر من ذلك فإن السيد ميرتس وعد بصراحة شديدة أنه سيقوم بإلغاء كل القوانين التي أقرتها الحكومة السابقة –حكومة شولتس - لتسهيل الحصول على الجنسية الألمانية وازدواج الجنسية بل وإجراء تعديلات تشريعية لسحب الجنسية الألمانية من مزدوجى الجنسية وطردهم خارج البلاد في حالات ارتكاب بعض الجرائم ، وبالإضافة إلى ذلك سيتم غلق الحدود البرية لألمانيا مع دول الاتحاد الأوروبى ومراقبتها لمنع دخول اللاجئين رغم تعارض ذلك مع القوانين الألمانية.
وفيما يتعلق بالملف الاقتصادى، فالحزبان متفقان من حيث المبدأ على ضرورة اجراء إصلاحات هيكلية لانعاش الاقتصاد ودعم الشركات الصناعية، لكن كما يقال فالشيطان يكمن في التفاصيل.
فالاتحاد المسيحى –كحزب محافظ يتبنى تقليديا مصالح الشركات ورجال الأعمال - وعد بتخفيض ضريبة الشركات من 30 % الى 25 % مع خفض الانفاق الاجتماعى على محدودى الدخل من الطبقات العاملة وبدل البطالة واعانات اللجوء، - معهد ايفو الألمانى المتخصص في الدراسات الاقتصادية قدر العجز الذى ستتحمله الميذانية العامة في حالة إقرار هذا التخفيض يتجاوز 97 مليار يورو - كما يتمسك الحزب بمبدأ مكابح الدين الحكومى – وهو مبدأ في الدستور الألمانى يمنع تجاوز الدين الحكومى نسبة 0,35 % من التاتج المحلى الاجمالى ، وكل هذا يتعارض مع سياسات ومبادئ الحزب الاشتراكى الذى تم تأسيسه منذ أكثر من مائة عام بهدف الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة ومحدودى الدخل !!
ولكن مهما كانت هوة الخلافات بين الحزبين الكبيرين، فان التحديات الداخلية والجيوسياسية الملحة وشديدة الصعوبة التي تواجهها ألمانيا خاصة من الأصدقاء على الجانب الغربى من المحيط الأطلسى تحنم على الطرفيين تقديم تنازلات في كل الملفات ..فالخيارات محدودة والبدائل أكثر صعوبة .