الكاتب الصخفي طه خليفة يكتب.. سعد فخري عبدالنور .. والعائلة الوطنية المحترمة
إذا توقفت أمام باب إحدى عمارات شارع طلعت حرب، لإلقاء نظرة عليها، أوعزمت على الدخول فيها، وكنت ممن يهتمون بقراءة تفاصيل لوحات التعريف بالشركات والمكاتب والسكان على جانبي حائط المدخل، فإنك ستجد في هذه البناية لافتة قديمة، ضمن لافتات أخرى، تحمل اسم سعد فخري عبدالنور المحامي.
الاسم قد لا يلفت الانتباه، مجرد اسم لـ محام، مثل أسماء ألوف المحامين القدامى والمُحدثين المُثبتة على واجهات العمارات، وفي مداخلها، ومثل أسماء أصحاب المهن المختلفة من أطباء ومحاسبين ومهندسين استشاريين وغيرهم، وأظن أنه في مجتمع النخبة قد لا يعرف أو يتذكر بعضهم الاسم، لكني لا أنساه، كما لا ينساه المتابعون بشكل جيد للمشهد السياسي والحزبي في مصر، فقد التقيت هذا الرجل النبيل منذ ما يقرب من 23 عاماً، بعد أن كنت أقرأ اسمه في جريدة الوفد، وأتابع نشاطه السياسي الهادئ.
الذاكرة الوطنية المصرية يجب تنشيطها والاحتفاء بها، وهى موضوع كبير متشعب يشمل مناحي كثيرة في حياة مصر والمصريين، وجزء منها هو الشخصيات التاريخية التي أخلصت للوطن وضحت من أجله، وربما يكون هناك من يعمل على هذا المقترح الذي أطرحه، وهو إعداد مشروع موسع بأسماء كل الشخصيات الوطنية الرفيعة التي كافحت وناضلت من أجل مصر، وساهمت في استقلالها وبنائها وتطورها ورفعتها وخدمتها، مشروع يقوم بتقسيم مصر إلى مراحل وحقب تاريخية، ثم يشرع في وضع قوائم بالأسماء في كل حقبة وفحصها ودراستها وتنقيحها، واختيار كل من هو جدير بالوجود في لوحة الشرف الوطنية لأعماله وجهوده، قبل شخصه وأصله، وإعداد المعلومات الموثقة عنه، ثم الترتيب والتصنيف والفهرسة، والفيصل في ترشيح الأسماء هو الأعمال المجيدة التي قدمتها للوطن، أو الأثر الكبير الذي تركته وراءها، دون النظر للانتماءات السياسية والحزبية والفكرية والأيدلوجية.
وسعد فخري عبدالنور جدير بالتواجد ضمن قوائم أبناء مصر المخلصين، ومن قبله والده فخري بك عبدالنور، صاحب الدور التاريخي في الحركة الوطنية المصرية في النصف الأول من القرن العشرين مع الحزب الوطني، ثم مع ثورة 1919، وكان ضمن الوفد المصري المطالب بالاستقلال عن الانجليز، وصار قيادياً بارزاً في حزب الوفد القديم بزعامة سعد زغلول، ثم مصطفى النحاس.
سعد فخري عبدالنور، (21 أبريل 1921 – 15 مايو 2003)، كان سكرتير عام حزب الوفد من عام 1994 حتى 2003، وعضو الهيئة العليا بالحزب، وهو شخصية وفدية عاشقة لهذا الحزب منذ كان فتى صغيراً، ثم شاباً يافعاً، وحتى آخر يوم في حياته، وكان ضمن المجموعة التي شاركت زعيم الوفد الراحل فؤاد باشا سراج الدين في إعادة تأسيس الحزب عام 1978 ، وهو محام، وعمل فترة في مؤسسة الأهرام، وقال لي إنه من قام بإجراءات تعيين الأستاذ محمد حسنين هيكل في الأهرام، جلست معه وقتاً طويلاً في مكتب المحاماة الخاص به، في العمارة رقم 23 شارع طلعت حرب، وزرته فيها مرة أخرى، ثم غادرت مصر لفترة من الزمن، ولم اتمكن من زيارته مجدداً، حتى توفاه الله.
كان يقيم شهرين في مصر، ومثلهما في فرنسا، وقد ارتبط بهذا البلد الأوروبي لأنه أكمل دراسته في الحقوق فيه، وكان مساعده القطب الوفدي فؤاد بدراوي، وقبل ذلك كان يتولى منصب السكرتير العام المساعد منذ 1984، ومن تقاليد حزب الوفد أن يتولى شخص قبطي منصب السكرتير العام، وكان فؤاد باشا سراج الدين حريص على تكريس هذا العرف في الوفد الجديد بعد عودته لممارسة نشاطه السياسي كاملاً عام 1984، ولهذا تولى منصب السكرتير العام إبراهيم باشا فرج، وخلفه سعد فخري عبدالنور، مع هذا تقلدت شخصيات غير قبطية هذا المنصب الذي يعتبر ماكينة عمل وتحريك وإدارة الحزب.
زعيم الأمة سعد زغلول هو من قام بتسمية سعد فخري عبدالنور حيث كان موجوداً في جولة بالصعيد، وأقام في قصر فخري عبدالنور بسوهاج، وعند مغادرته إلى القاهرة استأذن فخري بك في البقاء إلى جانب زوجته حيث اقترب موعد الولادة، فقال له سعد: إذا كان ولداً سمه سعداً، وإذا كانت بنتاً سمها صفية، على اسم زوجته صفية زغلول أم المصريين.
عندما تقرأ عن عائلة عبدالنور تجد لها تاريخاً مجيداً في العمل الوطني والنضالي، وفي تمتين الوحدة الوطنية، وخدمة المجتمع، وفي التشرب بالروح المصرية، والثقافة الإسلامية، هذه العائلة المسيحية التي تنتمي إلى مدينة جرجا في محافظة سوهاج لها احترام وتقدير واسعين من الأهالي؛ المسلمين قبل المسيحيين، ولهذا ظل فخري بك نائباً عن دائرة جرجا منذ أول برلمان ينتخبه الشعب المصري عام 1924، والذي فاز حزب الوفد بأغلبيته، وشكل الحكومة برئاسة سعد زغلول، ظل فخري بك نائباً عن جرجا حتى رحيله عن الدنيا حيث تُوفي يوم 9 ديسمبرعام 1942 خلال إحدى جلسات البرلمان، وكان محبوباً من كل أهالي جرجا وسوهاج، ولا يزال هذا الحب والتقدير للعائلة قائماً حتى اليوم، ويُقال إنه في اليوم الذي تقدم فيه فخري عبدالنور لخطبة زوجته حرص على مرافقته فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الشريف آنذاك.
هذه العائلة كانت تشارك في بناء المساجد في جرجا وحولها، وتتبرع بالأموال، وكان علماء الأزهر والشخصيات العامة ينزلون عليها ضيوفاً لهم كل التقدير، وهذا البيت الكبير كان مفتوحاً لكل من يطرقه.
وقال لي سعد بك إن عائلتهم كانت تقيم مائدة إفطار طوال أيام شهر رمضان للضيوف والزوار والأحباب والأهالي، هل رأيتم تسامحاً أكثر من هذا؟، تلك هى الروح المصرية التي لا تعرف التعصب أو العنصرية، كما لا تعرف الفتنة الطائفية، وهذه النعرات القميئة يحاول تحريكها متطرفون من أصحاب الأفق الضيق والقلوب المتحجرة.
الدين لله والوطن للجميع هو الشعار الخالد لثورة 1919 المجيدة، وهو شعار يدشن قاعدة صلبة لتأكيد وحدة ومتانة المجتمع المصري، وهو شعار عالمي بامتيار يصلح لكل بلد يتسم بالتنوع الديني والطائفي والمذهبي، فالوطن هو الخيمة التي يستظل بها الجميع دون النظر لعقائدهم وطوائفهم ومللهم ونحلهم ومذاهبهم ومدى إيمانهم.
هذه المعاني الإنسانية السامية يجب أن تظل متوهجة ولا تخفت أبداً، ففيها أبلغ رد على المشككين أو الكارهين أو الحاقدين أو مثيري الفتن، والمقولة الأخرى الخالدة هى للسياسي المصري القبطي الوفدي مكرم عبيد الذي لخص الحالة الفريدة للمصري وارتباطه بوطنه فقال إن مصر ليس وطناً نعيش فيه بل وطناً يعيش فينا.
هذا عشق رائق ونقي للوطن الذي هو المقر والمستقر والظلال الوارفة، وقد تولى مكرم باشا منصب سكرتير عام حزب الوفد منذ 1935 حتى 1942، وكان الراحل البابا شنودة دائم ترديد هذه العبارة لتأكيد الانصهار في مصروالتمازج الكامل لشعبها في وطنهم.
وسعد بك عبدالنور هو عم السياسي الوفدي البارز والوزير السابق منير فخري عبدالنور الذي تولى وزارة السياحة بعد ثورة يناير، ثم وزارة الصناعة والتجارة في حكومة حازم الببلاوي عقب الإطاحة بالإخوان، كما تولى منصب السكرتير العام لحزب الوفد.
عندما رأيت سعد عبدالنور شعرت أنني في حضرة أب عطوف أو صديق كبير نادر محب لأصدقائه ولكل من يتعامل معه دون معرفة مسبقة، شخصية رائعة، بسيط متواضع، وبالفعل هو نبت بيت يجتمع فيه الناس من كل الأصناف والفئات والألوان على المحبة الخالصة، إنسان كان يلتف حوله الجميع ويقدرونه كثيراً.
تحدثنا وقتاً للتعارف والنقاش حول مجمل الأوضاع العامة في البلاد، وكانت تجربة حزب الوفد قاسماً مشتركاً في الحديث، كما كانت مصر بكل أبنائها دون النظر لملة أو طائفة أو ديانة سمة مشتركة بيننا في حوار طال عما كان مقرراً له، وقد وجدني اتعامل معه ببساطة وتلقائية وعفوية فكان لطفه ووده يزداد، خاصة وأن بداخلي ميل للوفد وإعجاب بتاريخه.
الحقيقة قضيت وقتاً ممتعاً مع شخصية مصرية قبطية رائعة تمتد جذورها أباً عن جد في عمق التربة المصرية متحلية بصفات الأصالة والعراقة والوطنية الصلبة.
من لم يكن يعرف هذا السياسي ويجلس إليه فلن يستنتج إن كان مصرياً مسيحياً أم مسلماً، لكن الاستنتاج المؤكد أنه مصري فقط، وإنسان من أجيال نادرة.
مصر زاخرة بالشخصيات العظيمة، سواء كانت شخصيات عامة أو عادية، فكل فرد يقوم بدوره في خدمة وطنه ومجتمعه هو شخصية مقدرة ومُعتبرة يجب أن يكون لها مكان في التاريخ وفي ذاكرة الوطن والناس.
ولأننا نعيش فترة الأعياد للمصريين المسيحيين فإننا نتقدم لهم بأصدق آيات التهاني، كما نهنئ جميع المسيحيين من مختلف الطوائف في العالم، فالتعايش بين بني البشر جميعاً، بمحبة ووئام وتفاهم، هو السبيل الوحيد الآمن لترسيخ السلام والاستقرار والتعاون بين بلدان وشعوب الأرض قاطبة.
كل عام ومصر وشعبها كلهم بخير.
[email protected]
كاتب المقال الكاتب الصحفي طه خليفة