مع الله ( 5 )
محنة خلق القرآن الكريم ومعتزلة العصر الحديث ” إسلام البحيري وإبراهيم عيسى، والملحد سيد القمني ” ( 5 )
قد ذكر علماء الفرق أن الخوارج قد قالوا بخلق القرآن واعتقدوه حقاً لا يمارى فيه بزعمهم، ولهم شبه واهية وتأويلات بعيدة، وفي ذلك يروي الأشعري أن الخوارج كلهم يقولون بأن القرآن مخلوق بإجماع منهم على هذا الحكم فيقول: " والخوارج جميعاً يقولون بخلق القرآن" مثل ابن جميع الإباضي الذي يقول في مقدمة التوحيد: " وليس منا من قال إن القرآن غير مخلوق" . وقد بين الخارجي المسمى الورجلاني الإباضي أدلتهم على خلق القرآن، وناقش فيه المخالفين لهم بقوله: "والدليل على خلق القرآن أن لأهل الحق عليهم أدلة كثيرة، وأعظمها استدلالهم على خلقه بالأدلة الدالة على خلقهم هم فإن أبوا من خلق القرآن أبينا لهم من خلقهم، وقد وصفه الله عز وجل في كتابه وجعله قرآناً عربياً مجعولاً " . ثم جاء بالأدلة وهي الآيات التي ذكر فيها نزول القرآن وهي كثيرة مثل قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1]، وقوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء: 193] ، وقوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان: 3]، وغيرها من الآيات.
ويقول الحارثي الإباضي في إثبات رأي الخوارج في القول بخلق القرآن أيضاً: " فعند المحققين من الإباضية أنه مخلوق إذ لا تخلو الأشياء إما أن تكون خالقاً أو مخلوقاً، وهذا القرآن الذي بأيدينا نقرؤه مخلوق لا خالق؛ لأنه منزل ومتلو وهو قول المعتزلة" . وفيما يتعلق بموقف السلف في هذه القضية فإنهم يمتنعون عن وصف القرآن بما لم يوصف به على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ألسنة الصحابة من أنه مخلوق أو غير مخلوق. وفي هذا يقول ابن تيمية مبيناً رأي السلف في هذه المسألة: " وكما لم يقل أحد من السلف إنه مخلوق فلم يقل أحد منهم إنه قديم، لم يقل واحداً من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من الأئمة ولا غيرهم، بل الآثار متواترة عنهم بأنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله" . ويقول ابن قدامة: " ومن كلام الله تعالى القرآن العظيم وهو كتاب الله المبين وحبله المتين، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود" .
وقد كفر كثير من علماء السلف من قال بخلق القرآن أورد منهم الأشعري عدداً كبيراً ثم قال: " ومن قال إن القرآن مخلوق وإن من قال بخلقه كافر، من العلماء وحملة الآثار ونقلة الأخبار لا يحصون كثرة ". ويقول أيضاً: " وقد احتججنا لصحة قولنا إن القرآن غير مخلوق من كتاب الله عز وجل، وما تضمنه من البرهان وأوضحه من البيان ولم نجد أحداً ممن تحمل عنه الآثار وتنقل عنه الأخبار ويأتم به المؤتمون من أهل العلم يقول بخلق القرآن، وإنما قال ذلك رعاع الناس وجهال من جهالهم ولا موقع لقولهم" . ومثله ما أورده الدرامي والإمام أحمد بن حنبل من أقوال لعلماء السلف يكفرون فيها من قال بخلق القرآن، وهي أقوال كثيرة لا حاجة بنا إلى سردها هنا لأن مضمونها كما قلنا واحد، وهو إثبات القول بعدم خلق القرآن وتكفير من قال بخلقه.
وأما احتجاج القائلين بخلق القرآن بقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3]، أي خلقناه قرآناً عربياً؛ فهذا احتجاج باطل إذ أن جعل التي بمعنى خلق تتعدى إلى مفعول واحد، وهنا تعدت إلى مفعولين فهي ليست بمعنى خلق . وينفض أيضاً احتجاجهم هذا قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف: 19] وكذا قوله تعالى: وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً [النحل: 91] .فهل يصح جعل في هاتين الآيتين وأمثالهما بمعنى خلق، هذا لا يمكن ؛ فلو كانت جعل تأتي بمعنى خلق دائماً على ما قالوه لكان المعنى واضحاً وهو أن قريشاً خلقت الملائكة، وكذا الآية الأخرى وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً تعالى الله وتقدس !! وأما الاحتجاج على خلقه بإنزاله، فإن هذا لا دلالة لهم فيه وذلك أن الإنزال أو النزول لا يعرف من إطلاقه على الحقيقة إلا أنه هبوط من مكان عال إلى مكان أسفل منه، وقد أثبت الله تعالى أن القرآن منزل منه تعالى بمعنى أنه تكلم به نبيه عليه الصلاة والسلام بواسطة جبريل عليه السلام الذي نزل به إلى قلب سيد المرسلين، وهذا هو الواضح والمعروف فيه.