الكاتب الصحفى محمد المصرى يكتب .. إحسان” على مقهى فى الشارع السياسى ” !
أستاذنا الكبير أنيس منصور رئيس تحرير مجلة اكتوبر ومؤسسها كان يفخر دائما فى اللقاء الأسبوعى مع شباب المجلة - قبل أن يغزو الشعر الأبيض رؤؤسنا - أنه لم يحذف كلمة واحدة من مقالات الأستاذ احسان عبد القدوس“ على مقهى فى الشارع السياسى “ التى كان يكتبها بالمجلة منذ العدد الأول الذى صدر فى 31 اكتوبر 1976.. رغم أنه كان قاسيًا وعنيفًا فى بعض الأحيان على النظام السياسى فى ذلك الوقت وعلى الوزراء وعلى حزب مصر ثم على الحزب الوطنى الذى رأسه الرئيس السادات بنفسه وهرول له أعضاء مجلس الشعب دون أن يعرفوا برنامجه وأذكر اننى كنت أشاهد سكرتير تحرير المجلة الأستاذ محمد عبد الوارث وهو يحمل مقالة الأستاذ احسان ليعرض بعض كلماتها على الأستاذ انيس ,.ولكنه كان يقول له “مشى .. مشى "
وكتب الأستاذ أنيس هذا الكلام أيضا على صفحات جريدة الأهرام فى أغسطس 2005 عندما كانت الصحافة القومية تروج لحملة إنتخاب الرئيس مبارك لمدة رئاسية أخرى من خلال سلسلة مقالات يكتبها عدد من السياسين والمفكرين البارزين تحت عنوان " شهادات عن قرب " وقال الاستاذ أنيس : إن مبارك اتصل به وقال له : هل تقرأ ما يكتبه إحسان عبد القدوس؟
- هل أنت راض عن ذلك ؟ اننى اكلمك كمواطن مصرى .. انا لايعجبنى ما يكتبه إحسان عبد القدوس .. انه فى غاية القسوة .!
ورد أنيس: هل تحب أن الفت نظر إحسان عبد القدوس .. فأنقل له رأيك؟
-لا لا أنا فقط معترض على الذى يكتبه ..هو حر.. هو كاتب كبير ولاشك فى وطنيته ولكنى لا أوافق .. وأرجو ألا تبلغه شيئا مما قلت لك
وحكى الأستاذ إحسان قصة البداية لكتابة مقالاته النارية على صفحات مجلة اكتوبر فى مقدمة كتابه “ على مقهى الشارع السياسى “..الذى حمل نفس الاسم الذى جمع فيه هذه المقالات .. عندما طلب منه الصديق والزميل أنيس منصور أن يكتب لمجلة أكتوبر وتردده فى ذلك . وأن الصديق والزميل نجيب محفوظ كان يلح عليه أيضا أن يكتب لاكتوبر.
وأستمر تردده شهوراً طويلة بسبب ظروفة السياسية التى أحاطت به ، وأبعدته عن اصدقائه السياسيين .. وانه قد حرم نفسه من النشر تحت ضغط الظروف التى يمر بها حرصاً على ألا يحرج أى رئيس تحرير مسئول عن النشر اذا وجد فيما يقدمه إحراجاً له .. وانه لا يريد أن يحرج أنيس منصور المسئول عن النشر فى مجلة اكتوبر.
ويقول الاستاذ إحسان : انه كان فرحاً ومستسلماً لالحاح أنيس منصوروالحاح نجيب محفوظ والحاح نفسه أيضاً .. وهداه تفكيره وخياله إلى مقهى فى الشارع السياسى و كان هو الذى وضع تعبير الشارع السياسى منذ أن كان يكتب فى أخبار اليوم ..
وسأل نفسه : لماذا لا يقيم مقهى فى هذا الشارع .. ويختار الزبائن ويتركهم يتكلمون فى السياسة..كلام مقاه..كلام شوارع .. منتهى الحرية . ولينشر أنيس منصور فإذا لم ينشر فيكفينى متعة الكتابة .
وقلت لأنيس قبل أن يقرأ أول ورقة قدمتها له :
" إنك مسئول عن النشر.. واننى لن اغضب إذا لم تنشر .. ولكن لن يرى وجهه مرة أخرى إذا بدل أو حذف كلمة مما اكتبه .. ولن اقبل فى ذلك عذرا ..!
و انه قال ذلك لأنيس وهو يشفق عليه من مسئولية نشر هذا الكلام الذى يكتبه .ولكن أنيس منصور ابتسم له ابتسامته الذكية وهو يطمئنه ويستعجله .
وبدأ النشر وكل ما يكتبه ينشر فى أكتوبر. ولم تبدل أو تحذف كلمة واحدة, ولم يراجعه أحد فى سطر واحد .. وأنه نفسه دهش !.
ويقول :” كنت أكتب وأنا لا أ صدق أن كل هذا يمكن أن ينشر .. انها فعلا الحرية . حرية الرأى وحرية النشر. وإن كان البعض يعتبرها حرية مقصورة على وحدى .. فربما لانى لا أمثل أى قوة إلا قوة لهاث قلمى .. وهذا غير صحيح .. لست وحدى وإن اختلفت النسب .. أقصد نسبة اطلاق الحريات .. واختلاف قيمة الشخصية السياسية لرؤساء التحرير .
وحتى أقول كل شئ .. فإنى لا استطيع أن انسى ان اصدار مجلة اكتوبر هى فكرة الرئيس أنور السادات ،وانى أعلم أنه يتابعها باهتمام كبير.. ولهذا فلا شك انه يؤيد هذه الحرية .. حرية النشر .. وهى حرية واسعة أذا قيست بما كنا عليه . وإذا قيست بالحريات التى تمنح للأقلام فى كل البلاد العربية بلا استثناء ،حرية ابقاها الله لى .. وأراحنى من خوفى عليها .. خوفى من ان تضيع منى .. وان اضيع معها.
و كانت هذه شهادة احسان عن بداية كتابته” على مقهى فى الشارع السياسى “ وفرحه بالعودة إلى كتابة المقال السياسى بعد أن كان يعبر عما يجول فى نفسه من خلال قصصة .. وكانت الصحف االمصرية والعربية تنقل هذه المقالات عن أكتوبر .. ولكن للأسف كان يتخلل هذه البداية بعض الشوائب ففى نهاية عام 1979 توقفت اكتوبر عن نشر مقالات الأستاذ احسان .
واذكر أن القرآء قد لاحظوا ذلك وكانوا يتصلون بالمجلة لمعرفة أسباب توقف مقالات احسان فى المجلة .. وبالمصادفة كنت أرد على بعض هذه التليفونات التى كانت ترن فى صالة التحرير وأقول لهم أى مبررات وانا لا أعلم الحقيقة ولا اعرف سبب اختفاء مقالات الأستاذ احسان وجاءت الفرصة للإجابة عن هذا السؤال فى احد ليالى الصيف حيث كانت نقابة الصحفيين تقدم عرضاً خاصاً لفيلم " ولايزال التحقيق مستمرا" بطولة محمود ياسين ومحمود عبد العزيز ونبيلة عبيد واخراج أشرف فهمى.. وكانت قصة الأستاذ إحسان الذى حرص على الحضور فتوجهت له مباشرة لأسأله عن أسباب توقفه عن الكتابة لاكتوبر ؟!
فقالى لى: انه ارسل مقالة للمجلة ولم تنشر واتبعها بمقالة اخرى ولم تنشر ايضا فقرر التوقف عن الكتابة!
ولكن لم يستمر ذلك طويلا وعاد الأستاذ للنشر فى اكتوبر،ولكن بعد عدة سنوات انتقلت هذه المقالات الى جريدة الوفد سنة 1984ثم انتقلت الى مجلة المجلة السعودية التى كانت تصدر من لندن بعنوان "على مقهى فى الشارع السياسى العربى."
كانت هذه بعض المواقف التى عشتها فى رحاب صاحبة الجلالة فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى..وشاهدا عليها .. كان ابطالها عملاقة واساتذه تعلمنا منهم الكثير .. سواء كنا نتفق أو نختلف معهم .. أهديها الى روح استاذنا إحسان عبد القدوس الذى رحل عنا فى نفس هذه الأيام من شهر يناير عام 1990.
كاتب المقال .. الكاتب الصحفى محمد المصرى مدير تحرير مجلة أكتوبر سابقاً