الدكتور خالد قنديل يكتب.. الاختلاف وسيلة في بناء الأمم
سألني صديق ذات يوم، ماذا لو تخيلنا أن الحياة بكل ما فيها صارت لونًا واحدًا الرماديَّ مثلا أو الأخضر وبالدرجة نفسها، لون البشر والبنايات والسيارات والأرض وأعمدة الكهرباء والطعام والحيوان والملابس والأدوات وجميع مع الأرض دون استثناء صار له نفس اللون بالدرجة نفسها وبنفس درجة وطبيعة الصوت، قلت ربما الفوضى، قال بل الفوضى العظيمة، ذلك أن الحواس لن تميز أحدًا أو شيئًا، أمْنًا أم خطرًا.. الأمر كذلك في طبيعة الخلق والنعم، فقد عرفنا النهار لأن هناكَ ليلًا والعكس، وعرفنا الخير لأن هناك شرا والعكس، وكما قال الشاعر المتنبي" وبضدها تتبين الأشياء".
غير أننا في هذا المقام لا نبلغ فحوى الضد، إذ ليس معنى الاختلاف التضاد بل هو مجرد المغايرة والتعدد، حيث أُتيح للإنسان من الحياة مشارب ودروب وذوائق، لتتحقق فكرة الرواج والدفع والتكامل ولعلنا جميعًا ندرك تلك المقولة الأشهر "لولا اختلاف الاذواق لبارت السلع"، أي كسدت السلع ولم تعد الذائقة ذات حاجة أو ضرورة لولا الاختلاف، وهذا ربما هو الجانب المادي في قيمة الاختلاف وهو على ضرورته إنما يقودنا إلى المعنى الأعمق من وراء الاختلاف كقيمة إنسانية كبرى، بل إنها أمر إلهي حثت عليه الأديان من حيث وجوده في هذه الخليقة لغاية أسمى، ويقول تعالى في محكم آياته تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا".
وقد اقتضت حكمة الله العزيز الحكيم أن يكون الناس أنفسهم مختلفين في أمور شتى ما بين اللون والجنس والشكل واللغة والدين والوجود في البيئات ذات الطقس المختلف والتراث المختلف، بل إن المذاهب الفقهية اختلفت في أمور فرعية وقال العلماء "اختلاف الأئمة رحمة"، ويقول الفيلسوف الفرنسي فولتي: "قد أختلف معك بالرأي ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمنًا لحقك في التعبير عن رأيك"، وهو القائل أيضا: "يولد الرجال متساوين مهما اختلف تاريخ ميلادهم، لكن الفضائل تصنع الفروق فيما بينهم"، ومن الفضائل أن نعي قيمة وثقافة الاختلاف واحترام وجهات نظر الآخرين، وأفكارهم شريطة أن تكون هذه الأفكار وجهتها للبناء لا الهدم، على أن يكون الاختلاف وسيلة مثلى لغاية مثلى هي بناء الأمم وعمار الأرض والأوطان، ذلك أن الأفكار على اختلافها تضيف جديدًا حيال قضية مُلحة أو أزمة طارئة تستدعي تكاتف الخبرات الحياتية والعلمية والمعرفية ليحدث نوع من التقاطع والتكامل وعصف الذهن في حوار العقلاء المختلفين الذين يسعون إلى تزكية أنفسهم عبر آراء مطلقة، ولكن يسعون إلى دعم مجتمعاتهم وبناء أوطانهم وترسيخ قيم الخير كنهرٍ جارٍ لا يتعكر صفوه، ويحتاج الوعي بهذه القيمة والعمل بها سعي دائم لترسيخها بين الأجيال من خلال الإثراء الثقافي والمعرفي، بل ودعم المناهج الدراسية بقصص مختلفة تبرز الثمار الإيجابية لهذه القيمة وتعزيزها حتى يتفهم أبناء مدى تأثير قبول واحترام رأي الآخر في التعايش السلمي وسلام المجتمع النفسي، وقد سئل الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل عن ماذا يريد أن يخبر به الأجيال القادمة من دروس الحياة التي تعلمها؟ فأجاب: أود أن أعلمهم التسامح حتى نعيش سويًا بسلام على هذه الأرض.. وصدق الله العظيم القائل في محكم التنزيل "ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين".
كاتب المقال االدكتور خالد قنديل القيادي بحزب الوفد و عضو مجلس الشيوخ