سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 31 مايو 1934.. بدء إرسال الإذاعة الحكومية بتلاوة للشيخ محمد رفعت وقصيدة شعر «تحية جلالة الملك» وفاصل غنائى للآنسة أم كلثوم
أصاب الانفلات المحطات الإذاعية الأهلية، وكان عددها أربع أو خمس، فأقدمت الحكومة على إنشاء إذاعة للمملكة المصرية، بدأت بثها، الخميس 31 مايو، مثل هذا اليوم، 1934، قرب نهاية عهد الملك فؤاد «توفى 28 إبريل 1936»، حسبما يذكر الدكتور«يونان لبيب رزق» فى كتابه «فؤاد الأول المعلوم والمجهول»، مضيفا: بدأ بث الإذاعة بتلاوة المقرئ الشهير محمد رفعت بعض آيات من القرآن الكريم، وكان صوته موسيقيا واضحا ذا حلاوة فى الأذن، ووقع حسن فى القلوب، وألقى الشاعر المعروف الأستاذ على الجارم قصيدة بعنوان «تحية جلالة الملك» بصوت واضح، جاء فى مطلعها: «يا سارى الشعر يطوى الجو فى آن ويملأ الأفق تغريدا بألحانى/ يختال فى بردة الفصحى وتسعده بدائع الحسن من آيات عدنان»، وتبع ذلك فاصل موسيقى للآنسة أم كلثوم أبدعت فيه ما شاء لها صوتها الساحر وفنها الممتاز.
يذكر «رزق»: لما كان يصعب غياب أمير الشعراء، أحمد بك شوقى، عن هذه المناسبة رغم رحيله قبل عامين، فقد ألقى نجله حسين شوقى أبياتا من قصيدته المعروفة عن النيل، وجاء فى مطلعها: «من أى عهد فى القرى تتدفق وفى أى كف فى المدائن تغدق»..يضيف «رزق»: «الصحف ذكرت أن البرنامج تتابع حتى جاء دور الأستاذ المفتن محمد عبدالوهاب فى الختام، فحرك أوتار القلوب، واستولى على الأفئدة بصوته الساحر وفنه المنتخب».
جرت وقائع حفل الافتتاح فى قاعة فسيحة فى أعلى عمارة التليفونات الكبرى، وألقى إبراهيم فهمى كريم باشا، وزير المواصلات، كلمة، نوه فيها بما ستقوم به الإذاعة من تسهيل أسباب التسلية ونشر الثقافة والتعليم فى أنحاء المملكة، ويذكر رزق نقلا عن جريدة الأهرام وقتئذ، أن محمود شاكر بك مدير مصلحة السكك الحديدية والتلغرافات والتليفونات، وكانت الإذاعة تابعة لها عند نشأتها، استهل كلمته بالإشارة إلى كثرة المصاعب المالية والعملية التى واجهت المشروع، حتى تم الاتفاق مع شركة تلغراف «ماركونى اللاسلكية» وكلاء الحكومة المصرية للقيام بأعمال محطة الإذاعة الجديدة.
مع دوام البث الإذاعى، خصصت الصحف مكانا بعنوان «ماذا تسمع اليوم؟»، وكان هناك برنامجان، عربى وأوروبى، يذكر رزق، أن البرنامج العربى كان يبدأ من الساعة السادسة والخامسة وأربعين دقيقة صباحا بتمرينات رياضية يقدمها «بليغ صفوت أفندى»، بعده القرآن الكريم لأحد المشايخ المعروفين، وتنتهى الفترة الصباحية لتبدأ فترة الضحى الساعة العاشرة بموسيقى شرقية لخمسين دقيقة، يعقبها «حديث إلى السيدات - التدبير المنزلى للآنسة إقبال حجازى»، تليها موسيقى شرقية مرة أخرى لتنتهى هذه الفترة الساعة الثانية عشرة، وبعد فترة الظهيرة القصيرة التى تبدأ فى الثانية، وتتضمن أسطوانات شرقية، والنشرة التجارية الأولى، تتوقف الإذاعة لتبدأ فترة المساء والسهرة الساعة الخامسة، وكانت الفترة الرئيسية، وتبدأ بالقرآن الكريم، وأكثر من فاصل من فواصل الأسطوانات الشرقية، والنشرة التجارية الثانية، وحديث إلى الأطفال للسيدة زكية عبدالحميد سليمان، وحديث لأحد كبار الأدباء والمفكرين، مثل فكرى أباظة والدكتور زكى مبارك، فضلا عن ذلك تضمنت فقرة خفيفة للمونولوجات يلقيها من اشتهروا فى هذا الفن وقتئذ، وركن آخر تحت عنوان «موسيقى شرقية»، يستضيف كبار مطربى العصر، أمثال إبراهيم عثمان، وصالح عبدالحى، ونجاة على، وتستمر هذه الفترة ست ساعات ونصف الساعة، لتنتهى فى الحادية عشرة والنصف بالسلام الملكى.
كان هذا الانضباط الإذاعى جديدا على المستمعين بعد زمن من انفلات بالغ للمحطات الأهلية، يصفه الكاتب الصحفى أحمد الصاوى محمد فى مقاله اليومى«ما قل ودل» يوم20 مايو 1934، قائلا: «انقلب فى الراديو كل شىء رأسا على عقب، وأصبحت المواعيد تلقى فيه، فيقول أحد العاطلين: انتظروا فلانا فى قهوة كذا الساعة كذا، وتستأجر شركات مالية هذه المحطات فتظل تصرخ ثلاث مرات فى النهار تتهم بعضها البعض بالنصب وغش الجمهور، وأصبحت كل صعلوكة تدفع نصف ريال فى الشهر ينادى باسمها من الراديو خمس مرات فى النهار، لأنها طلبت الأسطوانة الفلانية، وما إلى ذلك من السخافات وغناء المعددات، وتذكر نمرة بيتها واسم حارتها وزقاقها».
يتذكر الروائى نجيب محفوظ مثلا على هذا الانفلات، قائلا فى مذكراته التى أعدها الكاتب والناقد رجاء النقاش، يقول: «كان الشيخ محمود صبح ضريرا، وصوته رهيبا لم تر الحنجرة المصرية مثله، وأطرف ما فى حياته تلك المشاجرات على الهواء، التى كان يمارسها فى محطات الإذاعة الأهلية، وأذكر مشاجرة له مع مدحت عاصم على الهواء، حيث دخل الشيخ صبح الاستديو وغنى لبضع دقائق، ثم سكت فجأة ليقول: «اسمع الأغنية القادمة يا مدحت عاصم يا أعمى»، ثم واصل الغناء، والطرافة هنا أن الشيخ محمود صبح هو الذى كان ضريرا أعمى وليس مدحت عاصم.