د. محمد أبو بكر حميد يكتب.. الوصف الكامل لبيت رسول الله في مكة المكرمة
بيت بسيط صغير يُعدُّ من أقرب البيوت إلى الكعبة المشرفة، يقع شرق المسعى مع ميل قليل إلى الشمال، يواجه حالياً باب النبي بالحرم المكي الشريف، وهو الباب الذي اعتاد (صلى الله عليه وسلم) الدخول منه لأنه أقرب الأبواب إلى بيته، ولهذا سمي هذا الباب باسمه، ويقع بموازاته إلى الشمال بيت أبي سفيان، ويقع خلفه شرقاً البيت الذي ولد فيه (صلى الله عليه وسلم) وهو بيت والده عبد الله بن عبد المطلب، ويليه بالاتجاه جنوباً البيت الذي نشأ فيه وعاش به حتى زواجه (صلى الله عليه وسلم) وهو بيت عمه أبي طالب ثم شعب بني هاشم الذي يقع في المنطقة ما بين بيت أبي طالب وجبل أبي قبيس.
ويخطئ كثير من المؤرخين حين يسمون هذه الدار في خرائطهم بدار خديجة بنت خويلد، والصحيح إنها دار النبي (صلى الله عليه وسلم) اشتراها بحر ماله من حكيم بن حزام بن خويلد ابن أخ السيدة خديجة رضي الله عنها، بمناسبة زواجه منها، وابتنى بها في هذا البيت، وتركت خديجة دارها الكبيرة لتعيش مع أفضل البشر في بيته الذي يملكه، وهو أول ما ملك (صلى الله عليه وسلم) من حطام الدنيا، فكان هذا أول بيت على وجه الأرض يدخله جبريل وينزل فيه القرآن.
يهبط هذا البيت عن مستوى الطريق على خمس درجات من بابه الرئيسي الذي يقع في الجهة الجنوبية الشرقية. وما إن تدخله حتى تجد نفسك في طرقة مساحتها 50 متراً بطول عشرة وعرض خمسة أمتار. ومن هذه الطرقة يتوزع هذا البيت إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول على يمينك باتجاه الشرق يقع ما يمكن أن نسميه بيت العائلة، وتدخل إليه من باب صغير يفضي بك إلى ردهة صغيرة مساحتها ستة أمتار، ثلاثة أمتار طولاً وثلاثة عرضاً، وتتوزع منها ثلاثة أبواب تؤدي إلى غرف البيت الرئيسية، الباب الأول الذي أمامك يفضي بك إلى حجرة نوم الزوجين محمد (صلى الله عليه وسلم) والسيدة خديجة رضي الله عنها، مساحتها 26 متراً مربعاً بطول 6 أمتار وعرض أربعة، يطل جدارُ طولها على الجهة الشرقية، ويطل جدارُ عرضها - عن يسارك - على الجهة الشمالية، حيث تقع ساحة تجارة السيدة خديجة، وهو موقع يناسبها للإطلالة على سير عملها ومراقبته من حين لآخر من غرفة نومها. أما الباب الذي يقع يمينك من الردهة فهو باب الحجرة التي سكن فيها أولاد السيدة خديجة من زوجيها السابقين، وولد فيها جميع أولادها من الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فمساحتها الإجمالية 30 متراً بعرض أربعة أمتار يطل شرقاً وطول سبعة أمتار ونصف يطل جنوباً مع ميل إلى الشرق. أما الغرفة الثالثة التي يقع بابها على يسارك من الردهة، فهي حجرة صغيرة أشبه بالمحراب، مساحتها 9 أمتار بطول ثلاثة وعرض ثلاثة أمتار إطلالتها الخارجية الوحيدة شمالاً على ساحة تجارة السيدة خديجة، وهو موضع يمكِّن النبي (صلى الله عليه وسلم) من الإشراف على سير العمل في ساحة التجارة، من هذه الحجرة التي يمضي فيها أوقات التأمل والتعبد. وأرجح أن هذا هو البيت الأصل الذي اشتراه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من حكيم بن حزام بن خويلد، وهو بهذا الحجم، الحجرات الثلاث والردهة تبلغ مساحته الإجمالية 70 متراً مربعاً، بطول عشرة وعرض سبعة أمتار.
وهي مساحة تتفق مع الإمكانات المادية لشاب مثل محمد (صلى الله عليه وسلم)، ويتسع بما فيه الكفاية لعريسين جديدين. ومما يزيد كفة الترجيح عندي أن الباب الذي يدلف إلى هذا القسم من البيت يقع في الجهة الغربية مواجهاً للمسعى مباشرة ويجعل البيت أقرب ما يمكن إلى الكعبة، وهذا يعطي معقولية لتسمية الباب الذي يدخل إلى المسجد الحرام من جهة المسعى بباب النبي لمواجهته لباب بيته (صلى الله عليه وسلم).
ولا عجب ممن لها ظروف السيدة خديجة أن تتوسع في البيت قليلاً لاستيعاب خدمة مصالح تجارتها، وأغلب الظن أن هذا ما حدث، فاشترت مساحات من الجهتين الغربية والشمالية لبيت الرسول (صلى الله عليه وسلم).. فشكلت هذه المساحات الطرقة والقسمين الأخيرين للبيت، فدخل باب البيت الأساسي في الطرقة التي تتوسط البيت بعد التوسعة، وأصبح الباب الرئيسي من الجهة الجنوبية الشرقية، وبنيت في نهاية الطرقة من الجهة الغربية حجرة استقبال مستطيلة مساحتها الإجمالية 40 متراً مربعاً، طولها عشرة أمتار وهو طول البيت الأساسي وعرضها أربعة أمتار.
وقد بنيت هذه الحجرة لاستقبال التجار وقادة القوافل التي تفد من الشام واليمن للتعامل في البيع والشراء مع السيدة خديجة، ثم أصبحت هذه الحجرة بعد الإسلام مكاناً لاستقبال الوفود التي تأتي للتباحث والتفاهم مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وعندما تعطي ظهرك للمدخل الرئيسي الجديد للبيت الذي أصبح في الجهة الجنوبية تفتح الطرقة أمامك شمالاً على مساحة بالطول الجديد للبيت بعد إضافة الطرقة وحجرة الاستقبال الذي يبلغ 16 متراً مربعاً، ويمتد عرضاً من الجهتين الشرقية والغربية حوالي 7 أمتار، بمساحة إجمالية قدرها 112 متراً مربعاً، وخصصت السيدة خديجة هذا المكان لعرض تجارتها.
وبهذا نرى أن المساحة الإجمالية لبيت النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد التوسعة التي أحدثتها السيدة خديجة لأغراض تجارتها أصبحت 280.5 متراً مربعاً بطول 17 متراً من الجهتين الشرقية والغربية وعرض 16.5 من الجهتين الشمالية والجنوبية، هذا على افتراض أن مساحة مكان تجارة السيدة خديجة مغلقة بسور من الجهات الثلاث الشمالية والشرقية والغربية ومفتوحة من الجهة الجنوبية على طرقة البيت، ولا شك أن هذه المساحة لها مدخل أو مدخلان مباشران من تلك الجهات حتى لا يدخل القادمون للتجارة من الباب الرئيسي للبيت، ولكنهم يدخلون إلى حجرة الاستقبال من الطرقة جنوباً.
ويضن علينا التاريخ بتفاصيل عن حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) في الخمسة عشرة عاماً التي عاشها مع السيدة خديجة في هذا البيت قبل نزول الوحي عليه، فقليلة هي أخبار هذه السنوات على أهميتها لدرجة أن يمر عليها بعض كُتَّاب السيرة في أقل من صفحة، رغم أهمية هذه السنوات في حياته، فهي سنوات التكوين العائلي، والاستقرار المعيشي، والتأمل الفكري، والتأهيل للنبوة. ففي هذه السنوات أنجب جميع أولاده من السيدة خديجة، واستقر معيشياً بمزاولته التجارة معها، واتضحت شخصيته فكرياً وروحياً من خلال احترام المجتمع المكي له باختياره لوضع الحجر الأسود في الكعبة، ورسوخ شهرته بالأمانة، وتحنثه في غار حراء موحداً لله معتزلاً روحياً مجتمعه المشرك حتى ظهر له اليقين.
وقلة الأخبار عن هذه المرحلة ذهبت ببعض المؤرخين إلى الظن أن محمداً (صلى الله عليه وسلم) قد انقطع عن التجارة بعد زواجه من السيدة خديجة، وهو أمر لا يقبله المنطق، ولا يتفق مع طبيعة شخصيته الإنسانية العصامية، فليس محمداً (صلى الله عليه وسلم) الذي يعيش على مال زوجته.
وإذا قعد عن العمل فكيف كان يمضي وقته خلال خمسة عشر عاماً عاشها قبل نزول الوحي عليه. فمثله لا يكون راهباً ينقطع عن الحياة والناس أو مفكراً هائماً في الخيال ليل نهار، وحتى عندما بدأ يحنث فالثابت أنه كان يذهب لغار حراء مرة في العام من رمضان كل سنة. قد يصح أنه توقف عن السفر بتجارة السيدة خديجة بعد زواجه منها، لكنه لم يتوقف عن العمل والسعي للرزق وكسب لقمة العيش من عرق جبينه، والذي لم يرتض أن يعيش في بيت زوجته الثرية واشترى بيت الزوجية من حُرِّ ماله لا يعيش كلاً على زوجته أبداً. إذْ لم تمض سنوات قليلة على زواجه من السيدة خديجة حتى امتلأ البيت بالبنات والبنين.
والحقيقة أن الازدهار الذي حدث لتجارة السيدة خديجة بعد زواجها منه (صلى الله عليه وسلم) يؤكِّد حقيقة دوره في تنميتها، والتوسعة التي أحدثتها السيدة خديجة في البيت كانت من ثمار هذا العمل المشترك بينها وبين زوجها الأمين في هذه التجارة.
يحدثنا التاريخ أن مال السيدة خديجة بعد زواجها تضاعف أضعافاً مضاعفة حتى قيل إن تجارة السيدة خديجة وحدها أصبحت بإدارة محمد (صلى الله عليه وسلم) موازية لما يملكه تجار قريش أجمعين. ولا يعني هذا أن محمداً (صلى الله عليه وسلم) عندما تزوج من خديجة تفرغ لتجارتها ليل نهار لا يأبه إلى شيء قط كما يمكن أن يحدث من شاب طموح فقير في مثل سنه عندما يتزوج امرأة ثرية، لكن محمداً (صلى الله عليه وسلم) لم يفعل ذلك، وإنما اكتفى أن يوجِّه هذه التجارة بالرأي السديد، فيوجه من يأتمنه من الرجال لشراء البضائع من الشام واليمن، ويبيع في مكة، وفي الأسواق المجاورة، فما أن يعلم الناس أن هذه تجارة خديجة التي لا تتعامل بالربا، وهذا زوجها محمد (صلى الله عليه وسلم) الشهير بالصدق والأمانة حتى يقبلون عليها دون جدال في أسعارها أو تمحيص لها. وكان محمد (صلى الله عليه وسلم) قبل زواجه من خديجة يقبل أجره مضاعفاً قياساً بالأرباح التي يحققها لها، فإنه رفض هذا كله بعد زواجه منها، واكتفى أن يأخذ ما يحتاجه فقط للانفاق على الأسرة. ولم تعجب السيدة خديجة أن تجد محمداً (صلى الله عليه وسلم) من أزهد الناس في متاع دنياه، فهذا حال من سيكون له المستقبل الذي حدثها به ابن عمها ورقة بن نوفل.
ولم تعجب أيضاً أن تراه معيناً لها على الخير، ونصرة المظلومين، وخدمة المساكين، فكان يطعم الفقراء، فلا يجد ذا حاجة إلا أداها له، ولا مكروباً إلا أعانه على تفريج كربته، ليس للمال في يده قيمة إلا أن يكون وسيلة للمكرمات وفعل الخيرات، وقد جربت السيدة خديجة معه أنه ما زاد إنفاقهما في وجوه الخير إلا وتفتحت لهما أبواباً متعددة للرزق من حيث لا يحتسبان، فثبتت قدميها صناعة المعروف وزادت يقيناً على يقين، فأصبحت تعطي عطاء من لا يخشى الإفلاس أو الفقر، وهي ترى زوجها الذي نمت وازدهرت تجارتها على يده أضعاف ما كانت قبل زواجها منه، لا يرد إنساناً سأله شيئاً، ولا جاءه مديناً من إعسار إلا وعفا عنه دون أن يسأل عن حجم المبلغ الذي عليه، وما دفع أحد في بضاعته أكثر مما قدره لها إلا وأعاد إليه بقية حقه، ولا يبيع بضاعة إلا ويدل شاريها على عيبها قبل محاسنها، يقول الكلمة فلا يتراجع عنها مهما زاد غيره في الأسعار فلا يبيع إلا بما قال أول مرة، ويعطي العهد أو الوعد وقد تمر عليه سنون تتغير فيها أحوال وتستجد أمور لا ينكث أو ينقض، وقد حاول أناس في مكة نصح خديجة بأن طريقة إدارة زوجها لأموالها ربما تؤدي في النهاية إلى الإفلاس، فلم يزدها ذلك إلا ثقة به، ومضياً على طريقة لا تحيد عنها قيد أنملة، وكانت ترد على هؤلاء: (إنما يبتاع الناس صدق محمد وأمانته). وكان محمد (صلى الله عليه وسلم) في المواسم الكبرى مثل موسم الحج الذي يفد فيه الناس من كل أنحاء الجزيرة يباشر التجارة بنفسه، ويقيم أثناء ذلك علاقات مع كثير من القادمين الذين يسألون عن تجارة (الأمين) إذ إن لقب (الأمين) طغى على اسمه، فلا يقال في مكة (الأمين) إلا ويفهم الناس أن المقصود محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) لا غيره أبداً.
ملاحظة
اعتمدت في تحديد مساحات حجرات بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) على الخرائط التي نشرت في بعض الكتب مثل كتاب السيدة خديجة للدكتور محمد عبده يماني المأخوذة من واقع البيت الذي كشفت عنه الآثار أثناء حفريات توسعة الحرم المكي، وخلاف ذلك فهو استنتاجات مني وفق ما رأيت في هذه الخرائط والله أعلم.
كاتب المقال الدكتور محمد أبو بكر حميد