مختار محمود يكتب.. عبد الحليم محمود وعادل إمام
مهلاً مهلاً عزيزي القاريء، لا تندفع في الغضب وتتساءل: وما العلاقة بين الثرى والثُريا، وفيمَ الربط بين عالم جليل وبين مشخصاتي شهير؟ فأنت لستَ أحرص مني على ذلك، كما إنني سوف أبدد حيرتك في السطور التالية..
قبيل الاحتفاء المبالغ فيه بعيد ميلاد عادل إمام بخمسة أيام فقط..حلت ذكرى ميلاد شيخ الأزهر الشريف الأسبق الدكتور عبد الحليم محمود 1910-1987. وفي الوقت الذي شمَّر الإعلام المصري بجميع طوائفه فيه عن سواعده للاحتفال ببطل مسرحية "مدرسة المشاغبين"، وفيلم "الهلفوت" احتفالاً واسعًا وممتدًا، قبل بيوم ميلاده وتزامنًا مع ذكرى ميلاد العالم الجليل الكريم، لم يذكر صاحب مؤلف "التفكير الفلسفي في الإسلام" بجملة واحدة.
ما يُسمى بـ"الفضائيات الدينية"، أو "البرامج الدينية بالتليفزيون المصري" تجاهل أيضًا ذكرى شيخ الأزهر الشريف والأسبق، وكأنه لم يمر من مصر، رغم أن مئات المسلمين الأجانب حرصوا في يوم ميلاده وبعده، على زيارة قبره في مسقط رأسه بمحافظة الشرقية.
جرى العُرف قديمًا وحديثًا أنه لا كرامة نبي في وطنه؛ إنما المجد والكرامة في بلاد العرب لمن يقضون أعمارهم في دهس القيم ونشر الابتذال وصناعة الرداءة أحياءً وأمواتًا. تلك –وأيم الله- حقيقة لا ينكرها إلا منافق، ولا يرفضها إلا ماكر؛ فهل غفل الإعلام يومًا ذكرى ميلاد راقصة، أو ذكرى وفاة فنانة إغراء؟
ليس الدكتور عبد الحليم محمود وحدَه مَن يتجاهل الإعلام المحلي ذكرى ميلاده أو ذكرى وفاته؛ فالأمر يمتد بطبيعة الحال إلى جميع أهل العلم والفضائل والمكارم والمقام الرفيع. تجاهُل الاحتفال بالشيخ الكريم لا ينقص من قدره، ولكنه ينال من أقدار القائمين على المنظومة الإعلامية بكل محاورها وتفاصيلها، ويكشف عوراتهم المهنية والأخلاقية.
لم يكن الدكتور عبد الحليم محمود مجرد شيخ عابر للأزهر الشريف، ولا عالمًا منبطحًا للسلطة يوظف الدين لاسترضائها؛ ليبقى مرضيًا عليه، محفوفًا برعايتها، ولم يكن من أهل النفاق والمكر والكيد ممن اُبتلينا بهم في آخر السنوات، ولكنه كان عالمًا جليلاً بحق، صاحب موقف ومبدأ لا يحيد عنهما مهما كانت الضغوطات، لا يخاف في الله لومة لائم، يُطبق الإسلام في أفعاله وسلوكياته، كريمًا سخيًا، يُنفق إنفاق مَن لا يخشى الفقر.
الدكتور عبد الحليم محمود امتلك مسيرة علمية حافلة، بدأها بحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، وحصل على الشهادة العالمية العام 1932، ثم سافر على نفقته الخاصة لاستكمال تعليمه العالي في باريس، وحصل على درجة الدكتوراه في التصوف الإسلامي، وبعد عودته إلى مصر عمل مدرسًا لعلم النفس بكلية اللغة العربية، وتدرج في مناصبها العلمية حتى عُين عميدًا للكلية العام 1964، ثم اُختير عضوًا في مجمع البحوث الإسلامية، ثم أمينًا عامًا له، ثم وكيلاً للأزهر الشريف العام1970، ثم وزيرا للأوقاف وشئون الأزهر.
تبنَّى الدكتور عبد الحليم محمود نهجًا إصلاحيًا في جميع المناصب التي تولاها، ما يؤكد أنه كان سابقًا لعصره، مؤمنًا بالرسالة التي أوكلها الله إليه، وكان يفعل ذلك كله دون ضجيج، وليس مثل أحد الوزراء الحاليين الذي يحتفي بنفسه وبقراراته، بل ويُحب أن يُحمد بما لم يفعل، ويحسب أنه يُحسن صُنعًا.
عندما كان وزيرًا للأوقاف..جدد الدكتور عبد الحليم محمود المساجد التاريخية الكبرى مثل: جامع عمرو بن العاص، وأوكل الخطبة فيه إلى الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، فدبَّت فيه الروح، وعادت إليه الحياة بعد أن اغتالته يد الإهمال، وتدفقت إليه الجماهير من كل صوب وحدب. كما أنشأ بمساجد الوزارة فصولا للتقوية ينتفع بها طلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية جذبت الطلاب إلى المساجد وربطتهم بشعائر دينهم الحنيف.
تولى العالم الجليل مشيخة الأزهر الشريف في ظروف صعبة جدًا خلال الفترة 1973-1978، وكان الأزهر الشريف يتعرض لمثل ما يتعرض له الآن، ولكنه تصدى لكل المحاولات التي استهدفت النيل من الأزهر الشريف والتضييق عليه، واستطاع خلال فترة وجيزة أن يسترد له مكانته المفقودة، بل وتوسع في إنشاء المعاهد الأزهرية على نحو غير مسبوق، وجعل للأزهر رأيًا وبيانًا في كل موقف وقضية، ورفض أن يتم تغييبه في شيء.
كان الدكتور عبد الحليم محمود يستشعر أنه إمام المسلمين في كل أنحاء العالم، وأنه مسؤول عن قضاياهم، وكان هؤلاء ينظرون إليه نظرة تقدير وإعجاب، فهم يعتبرونه رمز الإسلام وزعيم المسلمين الروحي، ولهذا كان يخفق قلب الإمام لكل مشكلة تحدث في العالم الإسلامي، ويتجاوب مع كل أزمة تلمّ ببلد إسلامي.
وبعيدًا عن المناصب الرفيعة التي تولاها واستخدمها في إعلاء رسالة الإسلام ورفع رايته، فإن الدكتور عبد الحليم محمود ترك ميراثًا علميًا معتبرًا يتمثل في أكثر من ستين مؤلفًا في التصوف والفلسفة، بعضها باللغة الفرنسية!
ومن بين مؤلفات الدكتور عبد الحليم محمود: أوربا والإسلام، التوحيد الخالص، الإسلام والعقل، أسرار العبادات في الإسلام، التفكير الفلسفي في الإسلام، القرآن والنبي، والمدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلي.
كانت حياة الشيخ عبد الحليم محمود –في مجملها- جهادًا متصلاً وإحساسًا بالمسئولية التي يحملها على عاتقه، فلم يركن إلى اللقب الكبير الذي يحمله، أو إلى جلال المنصب الذي يتقلده، فتحرك في كل مكان يرجو فيه خدمة الإسلام والمسلمين، واستشعر الناس فيه قوة الإيمان والصدق والإخلاص.
وما تقدَّم مجرد غيض من فيض سيرة ومسيرة مشهودتين للدكتور عبد الحليم محمود، ورغم ذلك فإن ذكراه وأمثاله من الكرام البررة لا يذكرها أحد، وكأن هناك حربًا ممنهجة للتعمية على أهل العلم والفضل، في مقابل الاحتفاء والتمجيد لكل من يُسهم في نشر جميع القيم السلبية والممقوتة، وهي بلا شك معادلة رخيصة جدًا، بدأت تؤتي ثمارها الفاسدة على نطاق واسع جدًا بين الأجيال الجديدة من المصريين.
ملحوظة: السطور السالفة لا علاقة لها بأبيات جلال الدين الرومي رحمه الله تعالى: رأيتُ الدهر يرفعُ كلِّ وغدٍ/ ويخفضُ كل ذي شِيمَ شريفه/ كمثل البحر يغرق فيه حيٌّ/ ولا ينفكُّ تطفو فيه جيفَهْ/ أو الميزانِ يخفض كلّ وافٍ/ ويرفعُ كل ذي زنةٍ خفيفهْ.
كما إنها مقطوعة الصلة بأبيات الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لا تأسفن على غدر الزمان لطالما / رقصت على جثث الأسود كلاب/ لاتحسبن برقصها تعلو على أسيادها / تبقى الأسود أسودًا/ والكلاب كلاب.