الكاتب الصحفى طه خليفة يكتب.. ترامب على محمل الجد
هل يمكن لمن تعامل مع دونالد ترامب على محمل الهزل، أن يتحلى بالشجاعة الآن، ويتعامل معه على محمل الجد؟.
أنا سأفعل، فقد كنت أسخر منه، وكنت أقول إنه طيف سياسي شارد عابر في سماء السياسة والديمقراطية الأمريكية التي حتماً ستُطوي صفحته بأسرع مما فُتحت.
وقد دعم الثقة بأن ترامب إلى أفول مُحَتّم أنه بقي في الرئاسة لفترة واحدة، وانهزم أمام الرئيس الحالي جون بايدن عام 2020، وساعتها تزايد الاقتناع بأن ظاهرة ترامب وقتية وتفتقد للديمومة، وأنه غلطة ديمقراطية، وأن الديمقراطية نفسها تصحح غلطاتها وأخطائها، وهو ما فعلته سريعاً حيث أخرجته من البيت الأبيض بعد فترة رئاسية واحدة.
وكنا نهزأ من ترامب وهو يؤكد أثناء وبعد أن ترك مكتبه البيضاوي في قصر الحكم الأمريكي التاريخي الوحيد ( البيت الأبيض)، بأنه سيترشح للرئاسة في 2024، وأنه سيكون مرشح الحزب الجمهوري مجدداً، وسيفوز ويعود إلى مكتبه ثانية.
واستمرت السخرية منه، رغم أنه انتزع بطاقة الترشح لانتخابات الرئاسة عن الحزب الجمهوري بقوة، وأطاح بمنافسيه من أعضاء الحزب الذين سعوا لإقصائه ليحصل واحد منهم على ترشيح الحزب له لينافس مرشح الحزب الديمقراطي، وكان معروفاً مسبقاً أن هذا المرشح الديمقراطي سيكون الرئيس الحالي بايدن.
ولم يتوقف الاستخفاف به وهو يخوض سباق الرئاسة هذا العام، وقلنا إن بقايا ظاهرة ترامب ستتبخر نهائياً أمام بايدن، لكن حدث العكس حيث نجح في الإطاحة بالرئيس بايدن من أمامه، وأجبره على الانسحاب من السباق، بل كان ترامب سبباً مهماً في كتابة نهاية سياسية سيئة لرئيس في الحكم، فلن يتذكر أحد بايدن إلا بالانسحاب المهين من الانتخابات، وبالذاكرة الضعيفة في المؤتمرات، وزلات اللسان الكثيرة، والسقوط على الأرض أثناء المشي خطوات قليلة، أو أثناء صعود سلم الطائرة الرئاسية، وكانت المناظرة الشهيرة تتويجاً للنهاية المؤلمة حيث أحرجه ترامب وحاصره وتلاعب به وجعله مثيراً للشفقة والسخرية.
ثم جاءت كمالا هاريس نائبة بايدن لتكمل مشوار الديمقراطيين في التنافس الرئاسي، وقلنا إنها السيدة التي ستعالج سريعاً أخطاء رئيسها خلال السباق الانتخابي، وأنها ستتلاعب بالحصان الجامح ترامب، وستسقطه أرضاً في جولة الحسم يوم الثلاثاء 5 نوفمبر 2024.
وكانت استطلاعات الرأي تمنح هاريس التفوق، وأحياناً تساويها معه، وتمنحه هو التفوق قليلاً، وكان ذلك يثير التفاؤل لدى الساخرين من ترامب والذين يرونه هزلاً سياسياً، وضعفاً في مخرجات الديمقراطية، ويطمئنون أنها ستجلس مكان بايدن في البيت الأبيض، وأنها ستدخل التاريخ من الباب الواسع، وستسجل أنها أول امرأة تحكم أمريكا، وستكون الرئيس الذي يحمل الرقم 47 في قائمة رؤساء القوة العظمى.
كان التفاؤل أشد في انتخابات 2016 بأن هيلاري الشخصية القوية الذكية، والسيدة الأولى لمدة 8 سنوات، والزوجة المخلصة المدافعة عن زوجها الرئيس بيل كلينتون، والداعمة له خلال فضيحة العلاقة الخاصة السرية بينه وبين فتاة أمريكية يهودية اسمها مونيكا لوينسكي كانت تعمل متدربة في البيت الأبيض، كان التفاؤل بأن ترامب سيكون صيداً جمهورياً سهلاً عليها، وأنها ستكون أول سيدة تحكم أمريكا، كما ستكون أول سيدة أولى ترأس هذا البلد لتمسك بالمجد من طرفيه، وتحقق مالم تحققه سيدة وسياسية قبلها في الدولة النافذة في العالم كله.
وكانت استطلاعات الرأي تمنح هيلاري دوماً التفوق على ترامب وبنسب مطمئنة، ولكن في يوم التصويت تبخر كل هذا، واكتسحها وحرمها من دخول التاريخ من جميع أبوابه.
ومنذ خسارتها خرجت من السياسة والشأن العام، وغالباً تمضي وقتها حالياً في العناية بزوجها كلينتون الذي شاخ، وزيارة ابنتها الوحيدة تشيلسي.
ما هذا الرجل ترامب الذي أطاح بسيدتين مرشحتين أمامه بفوز تاريخي في المرتين، ولا فرق عنده بين هيلاري وهى أمريكية بيضاء تنتمي لعائلات السياسة والحكم، وعاشت 8 سنوات في قصر الحكم سيدة أولى، وبين كمالا وهى أمريكية ملونة من أصول هندية لاتينية أفريقية، وهى في البيت الأبيض منذ 4 سنوات نائبة للرئيس، وصاحبة مركز سياسي تنفيذي كبير، وتشارك في صناعة القرار، وهى الشخصية الثانية في هرم السلطة بعد الرئيس بايدن، وهى من تحل محله إذا لم يتواجد في الحكم لأي سبب.
الحقيقة، أن ترامب أثبت أنه ظاهرة حقيقية بزغت وبرزت وتغلغلت وتضخمت داخل الحزب الجمهوري حتى صار القوة المهيمنة والمؤثرة داخله، ولم يستطع أحد مزاحمته في التأثير والنفوذ بالحزب منذ اقتنص بطاقة الترشح لانتخابات الرئاسة في 2016.
وحتى عندما انهزم أمام بايدن في 2020 فقد ظل محتفظاً بقوته داخل الحزب، ومن كان ترامب يدعمه من المرشحين الجمهوريين في انتخابات الكونجرس وحكام الولايات فإنه كان يحظى بالفوز، أو بفرصة كبرى في الفوز.
لم تكن قوة ترامب في الحزب الجمهوري فقط، بل إنه نجح في بناء كتلة جماهيرية هائلة تدعمه وتسانده وتقف ورائه ولا تتخلى عنه وتثق فيه وتسمع له وتلتزم بما يقوله وتعتبر كلامه إشارات عمل لها.
ولا ننسى خطابه الجماهيري في 6 يناير 2020 وهو يوم تصديق الكونجرس على فوز بايدن بالرئاسة، وقد فهمت الحشود التي كانت تستمع إليه في مؤتمر مفتوح، ومن كان يتابعه في الولايات، أنه يحثهم على التحرك لمنع الكونجرس من التصديق على نتائج الانتخابات استناداً إلى مزاعم ترامب بتزوير نتائج الانتخابات وسرقة الديمقراطيين الفوز منه.
وكان هذا اليوم حزيناً على الديمقراطية في أهم ديمقراطية في العالم حيث اجتاح المتطرفون والهمج من المهووسين بـ ترامب مبنى الكونجرس وسالت دماء وسقط جرحى وحصلت فوضى هائلة، لكن الديمقراطية انتصرت على خصومها من العنصريين والفاشيين.
ورغم القضايا العديدة التي أقيمت ضد ترامب وعشرات الاتهامات الموجهة له ومنها قضية اقتحام مبنى الكونجرس إلا أنه يظهر أمام المحاكم صامداً متحدياً مهاجماً الديمقراطيين بشدة متهماً إياهم بأنهم يضطهدونه سياسياً.
وقد نجح في قلب الانعكاسات السلبية للقضايا والمحاكمات إلى التعاطف معه وتمسك كتلته الشعبية به أكثر وإظهار خصومه الديمقراطيين انتقاميين وثأريين، وهذا جاء لصالحه في انتخابات 5 نوفمبر الجاري.
ترامب ظاهرة فعلية، يجب أن يُؤخذ على محمل الجد، وليس الهزل.
سيكون لنا تحليل قادم لمحاولة فهم هذه الظاهرة المُحَيِرة الخارجة عن القواعد التقليدية في عالم السياسة.