إبراهيم منصور يكتب: الشاعر كريم عبد السلام وملاحقة الموت ومجابهة الحياة
ننشر مقالة الدكتور إبراهيم منصور، أستاذ النقد والأدب الحديث بجامعة دمياط بعنوان الشاعر كريم عبد السلام وملاحقة الموت ومجابهة الحياة.
أن يجلس شاعر مع الموت، يحتسي الشاي، فهو شاعر جريء، أو هو شاعر متصوف، يرى الموت قُرْبا وصعودا، فهل كان كريم عبد السلام وهو يحتسي الشاي مع الموت، قد أفرط في الجرأة والثقة بالنفس، أم أفرط في الزهد والاطمئنان والرضا؟
ولد كريم عبد السلام في مدينة دمياط عام 1967، ثم غادرها مع أسرته في طفولته، ونشر أول ديوان له في مدينة المنصورة في طبعة محدودة عام ١٩٩٣م، هو الآن يعيش ويعمل بالصحافة في القاهرة، وينشر شعره في بيروت، ولندن، والقاهرة.
نشر ستة عشر ديوانا وكتابين في النقد الأدبي، لكنه قام بعمل آخر جريء، وجرأته لم تكن نزقا ولا تعجلا، فقد أصدر مجلة خاصة عن الشعر، بعنوان "شعر" كانت المجلة "تعنى بقصيدة النثر وتقاطعاتها"، صدرت إلكترونية عام ٢٠٠٢م، وأصدر منها ثلاثة أعداد ورقية.
في ديوانه "بين رجفة وأخرى" (1996) قصيدة بعنوان "الخُبْز":
"الخبزُ تحت ملابسي
يدي تسنده
خطواتي بمحاذاة البيوت
ويدي الحُرّة تشق الهواء
وتبعد المزالق
المَطَر غَمَر رأسي وكتفيّ
وخرجتُ منتصرا في النهاية"
إنها صورة لطفل يحكي عن نفسه، ويمثل الخبز نقطة مركزية فيها، مثلما كان الفنانون الأوربيون في عصر النهضة يصنعون إذ يرسمون لوحات الطعام ناطقة بالروعة والجمال، والتحدث بالنعمة، وكريم عبد السلام شغلته النعمة، وشغله الحنين للطفولة. لكنه في قابل الأيام سيعود للخبز فيصدر ديوانا بعنوان "كتاب الخبز" في صدره إهداء "إلى أرصفة القاهرة... مدافنها المسكونة وجسورها السماوات، وناسها الصابرين" فقضية الخبز التي كانت فرحة صبي صغير في طفولته بمدن الشمال الهادئة (وقتها على الأقل) سوف تصبح قضية رجل مثقف يكتب الشعر، فيرى في الخبز رمزا لقضية الشبع، بل لقضية الحرية.
ومن اللافت أن الشاعر كتب في كتاب الخبز نصا بعنوان "الخروج إلى الخبز" فتصور القصيدة صبيَّةً صغيرة في طابور الخبز، إلا أن رومانسية المشهد القديم لطفل يحمل أرغفة الخبز تحت المطر، سوف تختفي هنا، فقد وقعت معركة امام المخبز، انتهت بإراقة الدماء، والمشهد "واقعي تماما" مستمد من زمن الشباب في نهاية العقد الأول من القرن العشرين في القاهرة، وفي المدن المصرية كلها، وقد انتهى المشهد الواقعي بخروج الناس، ليس في القصيدة هذه المرة، لكن في يناير 2011 منادين "عيش .. حرية" فكأن قصيدة "الخروج إلى الخبز كانت "رؤية" كانت "كابوسا" لاحق الشاعر حينما تذكر طفولته وقارنها بشبابه.
وفي قصيدة "طبعا على خطأ" يقول الشاعر:
"خاسرٌ بلا ضغينة
أنظرُ لمنْ يسمّون أنفسهم رابحين منتصرين
وأشفق عليهم من قلبي،
مثل أمّ أسمَتْ ابنها "شريف" فنشأ لِصَّا بالإكراه
أنصِتُ لمن يزعمون إنقاذَ العالم
لأحسبَ الوقتَ الذي استغرقوه في حفظ الكليشيهات"
من الذي "على خطأ"؟ هل هو الذي يريد إنقاذ العالم؟ أم الذين يغرقونه في ظلام البؤس والضغينة، والحروب والقتل والتدمير، والفشل في التربية، والفشل في التنمية؟ إن الأحلام لا تهدم ولا تقتل، ولولا أصحاب الحلم لما كانت الحياة، الحالمون وحدهم يجعلون العالم مقبولا ومأساة الوجود محتملة. أما الأوغاد، فلهم شأن آخر، لكن المفارقة أنهم قد يزعمون، بل هم يزعمون أنهم يعملون لإنقاذ العالم، القصيدة تقول ذلك، فالخاسر هو الرابح، والرابح هو الخاسر.
ملاحقة الموت لا الجلوس معه، هو السمة البارزة في هذا الديوان، هناك موت في البحر، وهناك موت في الصحراء، وهناك موت على المسرح، مسارح الجريمة متعددة، الهجرة عبر القوارب المطاطية في بحر الروم تقتل، ومواجهة الخصوم مثلما فعل "يوليوس قيصر" تقتل، وانتقال ستة فلسطينيين بين البصرة والكويت في عهدة مواطن من بني جلدتهم تقتل، وقد رأينا كيف كان الوقوف في طابور الخبز يقتل. كأني بصوت أبي الطيب المتنبي أمامنا ينشد:
إذا ما تأمّلتَ الزمانَ وصَرفَه. تيقّنتَ أن الموتَ ضربٌ من القتل
في قصيدة "البحر الكبير" وضع الشاعر نصه على لسان راوٍ يسرد حياته، هو "غضبان من الصحراء والنيل" وغضبان من نفسه، باع كل ما يملك لكي يهاجر عبر البحر المتوسط، الواقعية هنا مغايرة ، من نواحٍ كثيرة، لواقعية صلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوي، القصيدة أشبه بالقصة القصيرة، لكنها تنتمي للشعر لا للسرد. وقد اتخذ الشاعر من مقطع من مقاطع قصيد "البحر الكبير" مدخلا لديوان "شاي مع الموت" وضع الشاعر هذا المدخل بدلا من الإهداء، فهو يتساءل "كيف انسربت السنوات من بين أصابعي، حتى لم يعد أمامي إلا الموت في هجير الصحراء، عطشا على شاطئ النيل، أو الموت غرقا في البحر الكبير، وعلى شفتي ابتسامة الناجين" هذا صوت ثالث، لا هو صوت الصبي القديم، ولا هو صوت الصبية التي أغرقت الدماء وجهها وملابسها أمام المخبز، بل هو صوت شاب يبحث عن الخبز أيضا، وسؤاله موجع.
نص آخر يرصد الهجرة الاضطرارية التي جعلت العرب، برغم ما في أرضهم من خيرات، يموتون جوعا وعطشا، حيث يستلهم الشاعر نصا آخر هو رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني (1936- 1972) فيجعل النص من السائق الفلسطيني المدّعي أمثولة للكذب، إن الراوي يخاطبه:
"وأنت تتهادى عبر الحدود طوال خمسين عاما
تحملُ الرجالَ للموت
والأحلامُ للخسارةِ
والأيامَ للضياع"
السائق الفلسطيني الذي كان مجرد شخصية روائية، أصبح رمزا لأصحاب السلطة الذين طال بهم المقام، فأنتجوا الموت، زرعوه في الصحراء العربية يزاحم النخل في واحاتها.
وفي قصيدة "كلب ميّت" أمثولة أخرى، فيعتمد الشاعر أسلوب التكرار، لفظ العفونة يتكرر 19 مرة، فلم تعد العفونة صفة لأشياء مادية ذات روائح، بل هي صفة للأشياء والأفعال القبيحة، لقد انتشرت العفونة في سائر الأنحاء:
"أينما تسير تشم الرائحة الكريهة
رائحة الكلب الميت منذ أيام
والمُلْقَى على الرصيف في حَرّ يونيو"
هنا الكلب الميت الذي ألقيت جثته على الرصيف ليس إلا ذريعة لكي نفهم منطقيا وجود العفونة، ثم يتبين لنا أنها مجرد تعلّة شكلية، فما علاقة جثة الكلب بالعفونة في نشرة الأخبار؟ أو مفاوضات السلام؟ أو البنوك الكبيرة؟ إلا إذا كانت العفونة فعليا قد طالت الزهور، والمطر، ونسمة العصر. معنى ذلك أن العفونة، كما تقول القصيدة، ليست في تلك الجثة، بل "العفونة في الأرواح"
عفونة الأرواح هي المسألة، ففي قصيدة "جنون" يخاطب الشاعر داعية سلفيا، هو جار الراوي في القصيدة، يريده أن يصلي الفجر جماعة فينزعه من النوم، يريد له الهداية، والراوي لا يرى في مسلك جاره إلا انتهازية تجارية، هو يجند الزبائن لصالح الله، وكأن الله شريك لهذا الداعية في متجر يقتسمان أرباحه، هذا هو الجنون الذي تشير إليه القصيدة، لقد وقف الراوي يدفع عن نفسه تهمة الجنون، كأنه في مرافعة أمام قاضي الاتهام، ويبدو أن المرافعة سببها رفض الراوي الاستجابة للداعية السفي واتهام الداعية له بالجنون:
"أنا لستُ مجنونا
لمجرد أنّي صرختُ في وجهكَ
لن أكونَ قروشا في حصّالتك السّمَاوية"
إن بلاغة قصيدة "جنون" كامنة في "المفارقة" فقد فضح الشاعر منطق التاجر لدى الداعية، إنه يتقعر في اللغة ويخطئ، وهو يتجهم وكأنه يملك مشاعره بينما هو منهار داخليا، وهو يدعو الله ويبيع الدعاء بينما الفصام قد احتل روحه وعقله، وهو يستخدم لغة قديمة منسية ويجعلها شعارات، ناسيا أنها لا تصلح لزمن جديد مختلف، وهو أخيرا يلوذ بالهروب لكنه يوهم من حوله أنه متماسك داخل شرنقته. فيالها من مفارقة، وما أبلغ منطق الزبون في مواجهة التاجر المستغل.
في ديوان "شاي مع الموت" جانب من الهجاء السياسي الذي كنا نراه عند نزار قباني، ومظفر النواب، لكن هجاء كريم عبد السلام مختلف، فهو لا يسقط في المباشرة، ولا ينساق وراء نمط ثابت من الهجاء السياسي، هو حتى قادر على التنويع الأسلوبي إلى درجة أنه لا يشغل نفسه بإثبات هذا التنويع، ففي قصيدة "ثلاثون فضة" يلجأ الشاعر لنمط القصيدة القصيرة أو "الإيبجرام"Epigram ولكنه يتجاهل وضع أرقام، أو فواصل للإشارة إلى الشكل الذي وضعت فيه القصيدة.
أما قصيدة "شاي مع الموت" فتصور مواجهة مباشرة مع الموت المجسد، لم يعد الموت حادثا في فنطاس في صحراء الكويت، أو أمام المخبز، أو حتى في القارب المطاطي، بل هو هنا على المقهى يجالس الراوي الذي يصطحب كلبه، ويطلب منه أن يعزمه على كوب شاي، وهنا يحاول الراوي قتل الموت فيقطع يده بالسكين، فلا تفلح المحاولة:
"سرعان ما نبتَتْ له يدٌ أخرى وهو يبتسم
ورَكَل الكلب فاستفاق
ثم نهض واقفا في مواجهتي:
احتفِظْ بيدي
ضعها إلى جوار كتاب دافنشي في صدارة المكتبة"
لقد جرب الشاعر أن يجعل الموت مكروها لكي يقاوم تجار الموت، لكن الأمر تكرر حتى صار عادة يومية، فما كان من الشاعر إلا أن نظر للموت نظرة سخرية، استبدلها بنظرة الخوف والرفض، وكانت المفارقة أن الموت نفسه تقبل المسألة وأخذ يجاري الراوي في القصيدة، لكنه أعطى رسالة واحدة فحواها أن المأساة الإنسانية، مسلسل مثل أفلام الرعب البائسة، لها زبائن وممولون، وهي لن تنتهي.
كريم عبد السلام، ليس شاعرا متشائما، ربما كان شاعرا حزينا، شعره فيه ملاحقة للموت، وهجوم على القتلة، هجوم على عفونة الأرواح، هجوم دائم على الكذب، إنه كما واجه الموت في لحظة، قد اعتاد أن يجابه الحياة في كل حين.
إن بلاغة قصيدة "جنون" كامنة في "المفارقة" فقد فضح الشاعر منطق التاجر لدى الداعية، إنه يتقعر في اللغة ويخطئ، وهو يتجهم وكأنه يملك مشاعره بينما هو منهار داخليا، وهو يدعو الله ويبيع الدعاء بينما الفصام قد احتل روحه وعقله، وهو يستخدم لغة قديمة منسية ويجعلها شعارات، ناسيا أنها لا تصلح لزمن جديد مختلف، وهو أخيرا يلوذ بالهروب لكنه يوهم من حوله أنه متماسك داخل شرنقته. فيالها من مفارقة، وما أبلغ منطق الزبون في مواجهة التاجر المستغل.
في ديوان "شاي مع الموت" جانب من الهجاء السياسي الذي كنا نراه عند نزار قباني، ومظفر النواب، لكن هجاء كريم عبد السلام مختلف، فهو لا يسقط في المباشرة، ولا ينساق وراء نمط ثابت من الهجاء السياسي، هو حتى قادر على التنويع الأسلوبي إلى درجة أنه لا يشغل نفسه بإثبات هذا التنويع، ففي قصيدة "ثلاثون فضة" يلجأ الشاعر لنمط القصيدة القصيرة أو "الإيبجرام"Epigram ولكنه يتجاهل وضع أرقام، أو فواصل للإشارة إلى الشكل الذي وضعت فيه القصيدة.
أما قصيدة "شاي مع الموت" فتصور مواجهة مباشرة مع الموت المجسد، لم يعد الموت حادثا في فنطاس في صحراء الكويت، أو أمام المخبز، أو حتى في القارب المطاطي، بل هو هنا على المقهى يجالس الراوي الذي يصطحب كلبه، ويطلب منه أن يعزمه على كوب شاي، وهنا يحاول الراوي قتل الموت فيقطع يده بالسكين، فلا تفلح المحاولة:
"سرعان ما نبتَتْ له يدٌ أخرى وهو يبتسم
ورَكَل الكلب فاستفاق
ثم نهض واقفا في مواجهتي:
احتفِظْ بيدي
ضعها إلى جوار كتاب دافنشي في صدارة المكتبة"
لقد جرب الشاعر أن يجعل الموت مكروها لكي يقاوم تجار الموت، لكن الأمر تكرر حتى صار عادة يومية، فما كان من الشاعر إلا أن نظر للموت نظرة سخرية، استبدلها بنظرة الخوف والرفض، وكانت المفارقة أن الموت نفسه تقبل المسألة وأخذ يجاري الراوي في القصيدة، لكنه أعطى رسالة واحدة فحواها أن المأساة الإنسانية، مسلسل مثل أفلام الرعب البائسة، لها زبائن وممولون، وهي لن تنتهي.