حازم البهواشي يكتب: أسامة الباز ومدرسة القضاء المصرية
في إحدى محاضراتنا بمعهد الإذاعة والتليفزيون، نحن الدفعة التي التحقت بالإذاعة المصرية العريقة عام 2003م ، كان المحاضر هو الدكتور "أسامة الباز" ، "6 من يوليو 1931م : 14 من سبتمبر 2013م " المستشار السياسي لرئيس مصر الأسبق "محمد حسني مبارك"، تحدث "الباز" معنا عن موقفٍ حدث معه، في بداية حياته ، إبّان عملِه "وكيلًا للنائب العام"، خلاصة الموقف أن رئيسَه في العمل، وكانت علاقته به طيبة للغاية، تغيَّرَ في معاملتِه معه بعدما مَرِضَ الرئيس وذهب "الباز" لِيَعُودَه حاملا معه "طبق حلويات"!!
سـأل "الباز" رئيسَه عن سبب هذا التغيير، فأجابه بحِدَّة : "أنا ما كنتش أتصور إنك تشتري حاجة من محل في نطاق دائرة عملك، وأنت وكيل للنائب العام في هذه الدائرة"!!! إنه القاضي حين يكون شريفًا نزيهًا حريصًا على سُمعته أشدَّ الحرص، يتقي الشبهات ليستبرئ لدينِه وعِرْضِه، يحفظ دينَه من الذم، ويصون عِرضه عن كلام الناس.
ورغم أن صاحب المحل غالبًا لا يعرف"الباز" وهذا ما ردَّ به على رئيسه في العمل الذي لا أذكر اسمه ، إلا أنه لم يجدْ هذا عُذرًا مقبولًا؛ حرصًا على أن يظل ثوبُ العدالة ناصعًا بعيدًا عن أي شبهةٍ مهما بدت تافهةً لا قيمة لها!!
أمثال هذا المستشار الجليل هم سَدَنة العدالة الذين تطمئِنُّ قلوبُهم وهم يُصدرون الأحكام؛ إذ لا تميل إلى طرف، ولا وجهَ لديهم لاستشعار الحرج في الحُكم الذي يَتلونه.
أمثال هذا المستشار الجليل يجعلوننا نؤكد أن الأصل في القاضي ألا يُظهِرَ انتماءً سياسيًّا ولا حتى كُرويًّا ولا غيره من صور الانتماءات؛ لئلا ييأسَ أحدٌ من عدلِه، ولا يطمعَ أحدٌ في حَيْفِه "مَيْلِه"، إنه قاضٍ خلَصت نِيَّتُه في الحق على نفسه، وبهذا يكفيه الله ما بينه وبين الناس.
هل يمكن لطبيبٍ أن يسأل مريضًا عن انتمائه الديني أو السياسي أو الكُروي، وعلى أساسه يُقرر إن كان سيُعالجُه أم لا؟! إن عُرِف عن طبيب ذلك وهو مُحال فَقَدَ شرفه، ولا أقول مصداقيته فقط!! كذلك الأمر، إن عُرِف عن قاضٍ أنه يميل لمن يُشبهُه انتماءً!!
ولا يمكنك عزيزي القارئ أن تُصدق بالطبع ما جاء في فيلم "رجل فقد عقله"، الذي عُرض عام 1980م بطولة "فريد شوقي وعادل إمام وسهير رمزي وإكرامي" في مشهد المحكمة: "انت زيكو .. أيوه يا افندم.. وانت كيمو بقى".. ماعلش يا سيادة القاضي احنا لعبنا في إسكندرية ماتش كويس بس الكورة كانت محجّرة.. هو الزمالك هيروح مننا فين إن شاء الله الماتش الجاي هنلبه.
"القاضي زملكاوي".. هههههه أنا قصدي أقول إن شاء الله الماتش الجاي هنتغلب له.
بالتأكيد هذا مشهد كوميدي، يجعلنا مع الضحك نقول: "أمّا لو فيه قاضي كده، كانت تبقى كارثة"!!!
إن النهوض بمستوى القضاة لُغويًّا وعِلميًّا يجعلنا نطمئن لأحكامهم؛ فالقاضي الذي يقرأ قراءةً لغوية سليمة، يُطَمْئِنُ الناسَ لحُسن فَهمه، ومدى استيعابه، ورجاحةِ عقله.
لقد طَرِبَ المصريون وكلُّ مَن سمِع كلماتِ أديب القضاة المستشار "بهاء الدين المري" رئيس محكمة جنايات المنصورة في محاكمة قاتل الطالبة "نيرة أشرف"، ما يدل دلالةً قاطعة على أن اللغة كائنٌ حي، تُحيي النفوسَ التي تقرأ، والآذانَ التي تسمعُ فتُصغي، لذلك فإن شباب القضاة مدعوون دعوة لا تقبل الرفض إلى القراءة ليس في القانون فقط، بل في الأدب بكافة أنواعه، وفي علم النفس، وكل ما من شأنه أن يَزيدهم فهمًا، وثقةً، وطلاقةً، وذكاءً، وفِطنةً، وفِراسةً، وحِكمةً، وتعقُّلًا، وإلهامًا، وإحساسًا بدورهم لا بأنفسهم.
إن المدرسةَ القضائيةَ التي تربَّى فيها الدكتور "أسامة الباز" هي تلك التي تضمن سلامةَ الوطن بسلامة المواطن وعدمِ ضِيقِه أو يأسِه.
هو منصبٌ خطير، من الصالحين هابَه كثير، وازدان تاريخنا وزها ببدائعَ من المواقف والأسماء التي علت بقدرِه، ولعلَّ الشجرةَ تَظل مثمرة، ما بُوعِدَ بينها وبين النفوس الضعيفة التي تطلب شرفَ المكانة متغافلةً عن عِبء الواجب.
يقول أيوب السَّختياني: "طُلِبَ أبو قُلابة" لقضاءِ البصرة، فهرَبَ إلى الشام، فأقامَ حينًا ثم رجَع.. قال أيوب: فقلتُ له: لو وُلِّيتَ القضاءَ وعَدَلتَ كان لك أجْران. قال: يا أيوب، إذا وقعَ السَّابِحُ في البحر، كمْ عَسَى أنْ يَسْبَح" ؟!
كاتب المقال حازم البهواشي مذيع براديو مصر