مختار محمود يكتب.. المواطنون غير الشرفاء!!
عندما تسوَر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بيت رجل من المسلمين في جوف الليل ووجد بين يديه خمرًا، وأراد أن يُنزل به عقابه، ردَّ الأخير عليه: "يا أمير المؤمنين ما صنعتَ أنت أقبح؛ تجسستَ وقد نُهي عن التجسس، ودخلت بغير إذن، فقال عمر: صدقتَ، ثم خرج عاضًا على ثوبه يبكي، وقال: "ثكلتْ عمر أمُّه إن لم يغفر له ربه".
حتمًا ولا بد..سوف تقفز إلى ذهنك هذه القصة، عندما تطالع تقريرًا صحفيًا هذا الصباح عن مصلحة الضرائب، يطالب فيه رئيسها مَن أسماهم: "المواطنين الشرفاء" بالإبلاغ عمن اعتبرهم: "متهربين من سداد الضرائب المستحقة عليهم".
الغريب أن وزارة المالية خصصت في وقت سابق خطًا ساخنًا لهذا الغرض، ورغم البلاغات العديدة التي تلقتها، فإنه لم يثبت منها سوى حالتين فقط!!
تصريحات رخيصة، إن صحَّت وجبت إقالة قائلها من منصبه فورًا وتجريسه أمام الرأي العام؛ حتى لا يعود هو أو غيره من ذوي الكرافتات الشيك، إلى مثل هذا السخف مرة أخرى. الغايات النبيلة لا تحققها وسائل رذيلة وأساليب ساقطة أخلاقيًا ودينيًا. ليس من الكرامة والشرف التجسس على الناس والتماس عوراتهم. لو كان التجسس شرفًا لأنزل ابن الخطاب، وهو الحاكم القوي الذي لا يخشى في الله لومة لائم، العقاب الشديد بشارب الخمر، ولكن لأنه وصل إلى الواقعة بوسيلة غير شرعية غضَّ الطرف عنها وانصرف آسفًا حزينًا.
"الشرف" -اصطلاحًا- هو صفة تقيِّم مستوى الفرد في المجتمع، ومدى ثقة الناس به؛ بناء على أفعاله وتصرفاته، وأحيانا نسبه، وفي تلك الحالة تصف مدى النبل الذي يتمتع به الفرد اجتماعيًا، ولا شك أن التجسس ليس نبلاً، والتلصص ليس مكرمة.
ويُقاس الشَّرف عند العبد في الإسلام بجميل الأفعال وحُسن الخصال، لا بحسب الآباء والأجداد. والشَّرف سبيل العبد إلى قبوله ومحبَّته عند الآخرين. ويمنع الشرف صاحبه من اقتراف المحرمات والانغماس بقبيح المنهيات، وهو طريق العبد إلى رضوان الله -تعالى- ومحبته.
الحكومة لا تملك لسانًا فصيحًا ولا بيانًا حكيمًا، ولا تلتزم بحكمة الشاعر الجاهلي: إذا كنت مُرسلاً في حاجة فأرسل حكيمًا ولا توصِهِ، ولكنها ترسل دائمًا إلينا أسوأ رسلها، ممن يفتقدون الحكمة والفصاحة والصواب والعقل الرشيد.
رئيس مصلحة الضرائب يتكاسل هو أنفارُه عن الاضطلاع بأدوارهم المنوطة بهم، رغم أجورهم ومكافآتهم الضخمة غير المبررة، ويستنفر في صغار النفوس رذيلة التجسس والتلصص؛ ليحقق مراده بأقل جهد ممكن؛ ثم يُهرع إلى رؤسائه وإلى وسائل الإعلام؛ زاعمًا أن المصلحة حققت في عهده غير الميمون أكبر حصيلة في تاريخها!!
نعلم أن حكومة الدكتور مصطفى مدبولي غير السنية تلجأ للجباية منذ سنوات؛ باعتبارها أكبر رافد من روافدها المادية؛ بعدما تخلت عن الصناعة والإنتاج ولجأت إلى القروض والاستدانة، ولكن هذا لا يجب أن يكون مبررًا لتوظيف الشعب وتجنيده بهذا الشكل الرديء الذي يتطلع إليه السيد رئيس المصلحة. لماذا لا تقوم المصلحة بدورها المنوط بها دون أن تستعين بصديق أو شريف؟ هل تضمن المصلحة إن استجاب الناس لها ألا يتعسفوا في استخدام هذا الحق غير المشروع، حتى إذا أرادت امرأة أن تكيد لزوجها أو طليقها أبلغت عنه مصلحة الضرائب؟ لماذا لا تتحرى المصلحة الحقيقة وراء البيانات المضروبة والتقارير الصفرية لبعض مشاهير المجتمع، حتى إن فنانين من الصف الأول ومحامين كبارًا يسجلون عبر مكاتب متخصصة أصفارًا أو أرقامًا ضئيلة لا تواكب دخولهم المليونية؟ لو ضربت المصلحة بيد من حديد المكاتب المحاسبية التي "تضرب" تقارير ضرائبية، أو تحرَّت الإقرارات الضريبية للمشاهير والأثرياء فلن تكون بحاجة إلى صغار الممولين واستخدام جواسيس ضدهم.
كفاكم ابتذالاً لمصلح: "المواطنين الشرفاء"، كما ابتذلتموه من قبل في مرات سابقة، بغطاء غير شرعي من بعض القيادات الدينية غير المنضبطة التي لا يشغلها سوى سيف المعز وذهبه.
وإجمالاً ومنعًا للخلط ودرءًا للتدليس..فإن أحدًا لا يقر الخروج على النظام العام، ولا يشرعن التهرب من الضرائب، ولا يقنن أي سلوك غير قانوني، ولكن على الجهات الرسمية أن تقوم بأدوارها دون تجنيد الشعب ضد بعضه، ودون إثارة الكراهية والبغضاء؛ ليبقى مواطنو مصر شرفاء بصدق، وليس كما يريد رئيس المصلحة وأشباهه.