الدكتور محمد شبانة يكتب .. ” عين جالوت ” .. تفاصيل أكبرمعجزة في التاريخ العسكرى ( ١ )
فى مثل هذا اليوم الخامس والعشرون من رمضان ولكن يوم الجمعة عام ٦٥٨ هجرية الموافق ٣ سبتمبر ١٢٦٠ إنتصر جيش المسلمين بقيادة " قطز " على المغول بعد ملحمة عسكرية عظيمة.
وبدءاً من اليوم نعرف التفاصيل الكاملة لهذه المعركة التى توقف عندها التاريخ كثيرا ولازال يتحاكى عنها المؤرخون.
بداية يقول العلّامة المسلم ابن خلدون عن التاريخ في مقدمته:" .... هو في ظاهره لا يزيد على الإخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأُول، تُنمق لها الأقوال وتُصرف فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال... وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يُعد في علومها وخليق".
وعلوم الحكمة التي قصدها ابن خلدون هي العلوم الفلسفية فابن خلدون يعتبر التاريخ ليس مجرد أحداث تُسرد بغرض التسلية أو الاعتبار, بل هو علم وفلسفة عميقة ومن ثم فالمؤرخ عنده لا بد أن يكون متمتعاً بخصال الفيلسوف الذي ينقب ويمحص ويحقق ويبحث عن العلل البعيدة ويربط بين الأحداث ويكون له رؤية للماضي والحاضر والمستقبل ونظرة فاحصة ثاقبة.
( أ ) ما هي عين جالوت وما هي حقيقة المُغول ومدى قوة عسكريتهم؟
عين جالوت من هذا المنطلق ليست كما تُدرس أو تُحكى مجرد موقعة هامة في التاريخ أنقذت مصر والعالم الإسلامي من الدمار المغولي, أو هي إحدى أبرز المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي كما يعرفها موقع "جوجل", لا , عين جالوت هي أكبر موقعة هامة في التاريخ البشري بأكمله مبخوس حقها, ولمن يريد أن يفهم هي في رأيي أكبر معجزة عسكرية في التاريخ السابق واللاحق لها, السابق مفهوم لكن كيف اللاحق؟ أولاً ينبغي أن نفهم أن الشعب المغولي شعب مقاتل جبار بفطرته شرس محارب بجبلته فارس بطبيعته حيث يقضي المغولي على فرسه أكثر مما يقضي على الأرض بحسب المؤرخين, ويضرب سهامه والحصان يتحرك بسرعة رهيبة في كافة الأوضاع الجسدية الصعبة ويصيب بها أهدافه بدقة كأنها السحر, ويتحكم في حصانه أثناء الحركة السريعة بكافة أوضاع الجسم المعقولة واللامعقولة وكأنه لاعب أكروبات أو ساحر خارق للعادة, فالمغولي ابن البيئة القاسية التي دربته كأعظم مدرب, وحيل المغول وتكتيكاتهم العسكرية الشهيرة وليدة البيئة وشظف العيش والصيد الذي علمه الصبر العسكري والمناورة, وصراعه مع بيئته الشرسة القاسية الجامحة ومحاولات ترويضها أكسبته قوة وصلابة وشخصية عسكرية بالفطرة, وتدريباته بحسب السنة التي استنها جنكيز خان أو تيموجين في الياسا "شريعة جنكيز خان" تكون في الشتاء القارس وما أدراك ما هو شتاء منغوليا حيث الزمهرير أو جحيم الصقيع كما يصفه المؤرخون المسلمون وحيث عشرات الدرجات المئوية تحت الصفر حيث لا يمكن العيش أصلاً لبشر ولن أقول التدريبات, فما بالنا أيضاً بمغول الغابة وكانوا من الوحوش المفترسة وكأن عقارب الساعة في البشرية توقفت عندهم عند طور التوحش الذي مرت به البشرية زمن الإنسان البدائي, إذن نحن نتكلم عن "كائنات شبيهة بالبشر" في شكلها, لكنها في الحقيقة وحوش مفترسة, عند الحديث عن المغول وما أحدثوه في خريطة العالم من تغيير جذري, وعن الرعب والذعر الذي اجتاح العالم كله منهم جيوشاً وشعوباً, وعن الخراب والدمار والحرق والقتل والفساد الذي كان يئن منه الكوكب الأرضى بلاداً وعباداً إذن نحن نتكلم عن "ظاهرة" تاريخية عسكرية سياسية إجتماعية جديرة بالدراسة والتحليل, بناءً على ذلك كانت العسكرية المغولية هي أقوى عسكرية يمكن أن يتخيلها عقل بكل إمكانياتها التي يعلمها المتخصصون والدارسون, أما الحروب الحديثة منذ اختراع البارود والبنادق والمدافع مروراً باختراع أحدث أنواع الأسلحة التقليدية والبيولوجية والنووية صارت لمن لا يعلم لا تعتمد على عنصر القتال المتلاحم وأسلحته من سيوف ودروع وتروس وحراب وسهام ...الخ, وعنصر القتال المتلاحم هذا هو الذي يميز القوة والشجاعة والفروسية والمهارات القتالية في الضرب بالسيف والمناورة والطعان ورمي السهام من أوضاع صعبة كلها كانت تشكل مهارات قتالية وتميز الجنود وتصنفهم درجات في القوة والشجاعة والبأس والصبر وسائر السمات القتالية, إذن أصبح القتال الحالي لا يمكن أن يقيم قدرات عسكرية حقيقية ويميز المقاتل الحقيقي من المقاتل الهزيل ويبتلي العقيدة القتالية السليمة الراسخة البنيان من تلك المصطنعة والمزعزعة, حيث يمكن لعشرة ألاف فرد مقاتل جبابرة أسود من أعتى القوات الخاصة في العالم أن يتم القضاء عليهم بضغطة زر واحد من أحدث الأسلحة من شخص قد يكون جباناً وقد يبعد مئات الكيلومترات عنهم, إذن لا تحدثني عن حرب بل حدثني عن ألعاب فيديو جيمز والذي هو أقرب وصف للحروب الحديثة التي ربما نسمع يوماً أن العنصر البشري اختفى منها تماماً ليحل محله آلة.
العسكرية المغولية وهي أشرس العسكريات وأكثرها إنضباطاً وجنودها أشد الجنود وفرسانها أمهر الفرسان كان لها ما لها من سمات عسكرية فريدة وعليها ما عليها من طبيعة شرسة قاسية حيث جنودهم وحوش شبيهة بالبشر لا يُشق لها غبار فُتحت لها أبواب كانت مسدودة من عالم الجحيم فانطلقت تلك الوحوش الجبارة تقتلع الأخضر واليابس وتذيق جيوش أعظم الدول مرارة الهزيمة وتقتل وتدمر وتحرق وتخرب وتغتصب وتفسد في الأرض وكأنه غضب إلهي اجتاح العالم ينفذه هذا الجيش الجهنمي القادم من أغوار الجحيم تلك الطبيعة التي كان يقول عنها خاقانهم الأعظم وقائدهم جنكيز خان الذي بدا وكأنه إله العالم السفلي والحارس على بوابات الجحيم في الأساطير القديمة "أنا عقاب الرب فماذا فعلت لكي يبعث الله عليك عقاباً مثلي", وبعض ممن يروجون للتدليس كانوا يقولون أن المغول وضيعون يستخدمون الجواسيس ولهم أساليب ملتوية في احتلال المدن وكذا وكيت عجبت لهم حقاً فهم إذن يدلسون ويحولون الميزة العسكرية لشيء سيء يعيب المغول غير مدركين أن تلك حرب وليست محاورة فلسفية ذات طابع أخلاقي, ويجعلون من إمتلاك المغول لأقوى جهاز مخابرات جبار عرفه التاريخ القديم إلى مثلبة تنال من شرف العسكرية المغولية في إشارات مثيرة للضحك حقاً فبدلاً من أن يُدرس جهاز المخابرات المغولي هذا بشيء من الإهتمام والبحث والتمحيص إذ به يُكال له الاتهامات الأخلاقية ويتم التدليس التاريخي على عبقريتهم العسكرية, وهي عبقرية حقاً فكيف بشعب بدوي بسيط متشرذم إلى عشائر وقبائل متناحرة متصارعة أن يصل في تلك الفترة الزمنية لاحتلال أكثر من نصف العالم القديم تقريباً, وقهر أقوى الجيوش وإذلال العالم بحكامه ومحكوميه وتكوين أكبر إمبراطورية مترامية عرفها التاريخ, ونافلة من القول إسقاط قلعة آلَموت قلعة الحشاشين التي شكلت وفدائيوها مصدر رعب وإرهاب للمسلمين والصليبيين على حد سواء والواقعة فوق قمة جبل شاهق في إيران لم يستطع (وما كان ليستطع) أي جيش من إسقاطها غير الجيش المغولي الجبار, معجزة حقاً أن تصعد الجبل الشاهق وتنتصر على هكذا حصن وأن تهزم جيشاً من الفدائيين الانتحاريين الذي لا يهابون الموت وتقضي على جميع معاقل الحشاشين, وياللعجب لعل الحسنة الوحيدة التي فعلها الجيش المغولي في العالم الإسلامي بل في العالم كله هو تخليص العالم من هذا السرطان, وقد اعتبر الجويني أن المغول كانوا عقاباً إلهياً على تلك الطائفة من الملاحدة, إذن فالقضاء على الحشاشين في إيران وإسقاط حصونهم المهمة المستحيلة التي عجزت عنها كافة الجيوش تلك أصلاً معجزة عسكرية مغولية لهذا الجيش الذي بدا وكأنه غير أرضي بل فضائي جبار من كوكب آخر, وعليه فهناك تدليس لا شك فيه على تلك العبقرية العسكرية المغولية حيث عندنا نميل إلى التاريخ الإنتقائي الدعائي البعيد عن الموضوعية العلمية الذي يحاول التشويه من الآخر لا دراسته والاستفادة مما وصل إليه, وفي المقابل التمجيد من الذات وإخفاء العيوب وعدم الطرح الموضوعي للمسائل التاريخية والعلمية وكأننا ندرس تاريخ ممالك سماوية وليست ممالك دنيوية أرضية بشرية غير معصومة لها ما لها وعليها ما عليها بل أن ما عليها من أخطاء وخطايا أكثر بكثير مما لها من مناقب ومزايا.
كاتب المقال الدكتور محمد شبانة المتخصص فى الآثار الإسلامية